أين نجد «الفساد الكبير» بالملموس؟!

أين نجد «الفساد الكبير» بالملموس؟!

الفساد الكبير مفردة متكررة في الوقائع والحياة الاقتصادية والسياسية في سورية، ورغم أن وجودها محسوم عبر نتائجها المعلومة... إلّا أنّه يصعب مع مستوى الحريات السياسية المتدني في سورية تاريخياً أن تصل إلى تفاصيل ملموسة وتكون موثقة وقابلة للنشر وينتج عنها تغييرات... لأن المسألة فوق قانونية بل سياسية.

ولكن تتبّع مواطن الفساد الكبير ليست صعبة: فهو يوجد حيث توجد الموارد الكبرى، وحيث يمكن استخدام النفوذ كأداة جمع للأموال والموارد.

وإذا ما أردنا أن نفصّل في اللحظة الحالية التي تتراجع فيها موارد البلاد وخيراتها إلى الحدود القصوى... فإن الفساد عملياً يتمركز في مواضع أساسية: 

أولاً الأساسيات التي لا يمكن الاستغناء عنها مهما ضاقت الموارد... ولذلك فإن كل عمليات تأمين الأساسيات من طاقة، وحبوب ومواد غذائية أساسية هي موضع استثمار الفساد الكبير. حيث تُنظم عملية استيرادها لتنحصر في شبكات محددة، وبأسعار احتكارية مرتفعة ولتتقاسم أوجه النفوذ هذه المرابح الكبرى المجنية من القدرة الاستهلاكية المصروفة على الطاقة والغذاء.

ثانياً يتمركز الفساد الكبير في كل ما يولّد ويحرّك القطع الأجنبي، فالدولار أصبح بذاته هدفاً وسلعة مطلوبة تسمح تجارتها بربح كبير مع الطلب المستمر والمتزايد عليه وعدم استقرار الليرة. حيث ينشط الفساد الكبير في كل عمليات التجارة الخارجية الرسمية وغير الرسمية، كما ينظّم عملية انتقال الحوالات إلى السوق السوداء ويفرض سعر صرف رسمي وهمي 1250 ليرة يمنع انتقال الحوالات إلى المصرف المركزي عملياً. كما أن التهريب واحد من نشاطاته الأساسية التي يشرف عليها، وهي لا تحقق مرابح فقط من تنظيم عملية تهريب المنتجات السورية، أو تنظيم عمليات تهريب البضائع إلى داخل البلاد... بل هي تسمح أيضاً بتهريب الأموال للخارج وتأمين تدفق دولار مستمر.

أخيراً وليس آخراً فإن الفساد ينشط بطبيعة الحال في القطاعات السوداء الخطرة والتي قد يكون أبرزها وأكثرها وضوحاً: تصنيع وعبور الحبوب المخدرة مثل الكبتاغون والحشيش، تلك التي يمكن تقدير سوقها في سورية بناء على المصادرات خلال عام واحد بما يقارب 16 مليار دولار والجزء الأهم منها يخرج من المرافئ، أي أنها أيضاً موارد كبيرة وتستخدم النفوذ و«كمّ الأفواه وإغلاق الملفات». هذا عدا عن كل أدوات «السلبطة» المباشرة لتحقيق الأرباح والحصص المفروضة كأتاوات على طرق النقل وعلى أبواب المدن الصناعية ومداخل أسواق الهال وغيرها...

الفساد الكبير أيضاً تجده في كل ما يتدفق إلى داخل سورية من مساعدات دولية عبر التنسيق المشترك واستخدام النفوذ، وتجده أيضاً في كل وجهة إنفاق مال عام...

إنّه طريقة منظمة لتحويل الموارد العامة إلى الخزائن الخاصة عبر مفاصل وآليات التحكم والنفوذ، وهو عملياً المشكلة التي تقف في وجه أي خطوة للأمام وأي مشروع لحل أي مشكلة: عودة اللاجئين، حل مشكلة الغذاء، توفير الموارد للبنى التحتية، حماية قيمة الليرة، ضبط الفوضى وإلخ... إنّه يتغذى على نهب الموارد وتفريغ جهاز الدولة من دوره، وهو يزداد توحشاً وارتباطاً بقطاعات الفوضى، وهو خطر على استمرار البلاد في الظرف المعقد الحالي، وهو مشكلة سورية الكبرى تاريخياً واليوم.