تقييم الأثر الاقتصادي للإغلاقات الأوروبية الجديدة
نفَّذت العديد من الدول الأوروبية عمليات إغلاق ثانية استجابة للزيادة الهائلة في حالات COVID-19. خلال الأسبوع الأول من تشرين الثاني، فرضت بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا عمليات إغلاق وطنية. القيود بشكل عام أقل شدةً من تلك المفروضة في الربيع، مع إبقاء المدارس مفتوحة، وجَعْل مدة الإغلاق الاقتصادي محدودة بأربعة إلى ستة أسابيع. لكن ما يزال تأثير هذه التدابير على انتشار الفيروس وعلى النشاط الاقتصادي غير واضح، على الرغم من وجود مؤشرات من دراسات حالة الإغلاق المبكر الأولى.
مِن توقّعات ما بعد الإغلاق الأوروبي الثاني
فيما يلي نطّلع على أحد التحليلات للتأثيرات الاقتصادية المتوقعة للإغلاقات الجديدة في أوروبا، وفق مؤسسة «فاذِم للاستشارات» Fathom Consulting المتخصصة بأبحاث الاقتصاد العالَمي وأسواق المال، ومقرّها لندن (وقد نَشَرَتْ هذا التحليل في 6 تشرين الثاني 2020):
بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الثالث متاحة الآن لما يقرب من نصف الاقتصاد العالمي. من المتوقع أن يكون التعافي حتى أيلول 2021 أسرع مما قدرته «فاذِم» في السيناريو المركزي إلى حد كبير على شكل حرف V. ومع دخول عمليات الإغلاق الجديدة حيز التنفيذ، يبدو الآن أنه لا مفر من أن يكون النمو الاقتصادي الأوروبي أضعف في الربع الرابع مما كان متوقعاً.
بالنسبة لأوروبا كانت إيرلندا من أوائل الدول التي فرضت إغلاقاً وطنياً (ثانياً)، لفترة ستة أسابيع اعتباراً من 21 تشرين الأول (خارج أوروبا كانت أمثلة إغلاق ثانٍ قد بدأت قبل ذلك، منذ أيلول). أثبتت عمليات الإغلاق الجديدة في الحالات التي بكّرت بها بأنها فعالة للغاية في خفض عدد الحالات التي تم التعرف عليها من كوفيد19. وفقاً للمؤسسة نفسها فإن معدل التكاثر الأساسي للفيروس R (والذي إذا انخفض عن الواحد يعني احتواءً للوباء) يقدَّر بأنّه انخفض في بعض الأمثلة خارج أوروبا (والتي أغلقت في أيلول) إلى حوالي 0.5. وفي أيرلندا، حيث ظلت المدارس مفتوحة (عكس تلك الأمثلة خارج أوروبا)، يبدو أن R أقرب إلى 0.7. ويعتمد الرقم R (من بين عوامل أخرى) على السلوكيات البشرية، والتي بدورها تعتمد على مستوى ثقة الجمهور في التدابير المتخذة، وكذلك على العوامل البيولوجية مثل مستوى المناعة لدى السكان.
إذا نجحت عمليات الإغلاق المتجددة التي نشهدها في جميع أنحاء أوروبا في خفض R مثل تلك التي شوهدت في أماكن أخرى، فمن المحتمل أن تكون القيود لمدة أربعة إلى ستة أسابيع كافية. تشير التوقعات الخاصة بمعدل الإصابة لمدة سبعة أيام لكل منطقة من مناطق إنكلترا إلى ذلك، مما يجعل افتراض أن R ينخفض إلى 0.7 من بداية الإغلاق في كل حالة. على هذا الأساس، سينخفض جزء كبير من جنوب إنكلترا إلى أقل من 20 حالة لكل مئة ألف شخص في الأسبوع، بحلول بداية كانون الأول 2020. ستكون لندن متأخرة بأسبوع، وأجزاء من شمال إنكلترا متأخرة بما يصل إلى ثلاثة أسابيع. هذا هو معدل الإصابة الذي تبدو حكومة المملكة المتحدة مرتاحة تجاهه. إذا كان هذا صحيحاً، فمن المحتمل أن ينتهي الإغلاق الوطني في 2 كانون الأول كما هو مخطط، على الرغم من استمرار بعض المناطق في مواجهة قيود أكثر من غيرها.
ما زال الضرر مستمراً لكن بشدة أقل من الربيع
وِفق «فاذِم»، سيكون للقيود الجديدة تأثير أقل من القيود الأولى في الربيع. أولاً، جميع القيود الجديدة تقريباً أقل حدّة، ومع بقاء المدارس مفتوحة. ثانياً، وربما الأهم، تعلمنا المزيد عن الفيروس الأمر الذي يجب أن يزيد الاستعداد ويخفف من الأثر الاقتصادي أكثر. من ناحية الطلب في السوق، ونظراً لزيادة المعرفة بطرق العدوى، من المرجح أن يقل خوف الناس من مغادرة المنزل وزيارة الأعمال التجارية المفتوحة. كما أنّ عدم اليقين صار أقلّ، حيث تميل تدابير الدعم المالي إلى أن تكون سارية قبل تفعيل عمليات الإغلاق، ويبدو اللقاح على وشك الظهور. بالنسبة للعرض، تكيفت الشركات المسموح لها بفتح أبوابها واتخذت إجراءات أمان ضد الفيروس. العديد من تلك الشركات التي ليست كذلك، ولا سيما في قطاع الضيافة، ستكون قد أسست بالفعل وجوداً لها عبر الإنترنت، مع خيارات التوصيل أو الوجبات الجاهزة. تُظهر بيانات التنقل من غوغل (لبعض البلدان خارج وداخل أوروبا) أنّ الوقت الذي يقضيه الشخص في مكان العمل (كمقياس ينوب عن التأثير على العرض) قد انخفض فقط بمقدار يراوح بين الربع إلى النصف مقارنة بالإغلاق الأول. لذلك، قد يشير التقدير الحذر إلى أن عمليات الإغلاق الثانية ستقلل النشاط بمقدار النصف فقط مقارنة بالربيع.
استمرار خوف المستثمرين و«انعدام اليقين»
في الأسواق المالية، يتجلى القلق المتزايد من جانب المستثمرين في مؤشر «في. آي. إكس» VIX لتقلبات سوق الأسهم (والذي هو مشعِر لتوقعات التقلبات في السوق، بالزمن الحقيقي لثلاثين يوماً المقبلة، والمرتبطة بشعور المستثمرين بالخطر والخوف والتوتر). ارتفع هذا المؤشر بشكل حاد منذ منتصف تشرين الأول. ومع ذلك، يظل ما يسمى بـ«مقياس الخوف» أقل بكثير من المستويات التي شوهدت في آذار. قفز مقياس الخطر الذي طورته مؤسسة فاذِم Fathom's Risk Off Gauge مرة أخرى إلى منطقة انعدام اليقين، كما أنه كان في أوائل شهر تشرين الأول، في وضع «المخاطرة» بشكل حاسم بالنسبة للمستثمرين. أخيراً، أظهر مقياس المؤسسة نفسها لسيولة السوق، انخفاضاً إضافياً في السيولة الشهر الماضي. يؤثر عدم اليقين بشأن نتيجة الانتخابات الأمريكية أيضاً على معنويات المستثمرين، حيث من المحتمل أن تعاني الأصول من نقص السيولة على المدى القريب.
مِن تحليلات سابقة (بعد الإغلاق الأول)
كان بنك الاستثمار الأوروبي قد توقع (وفق تقديراته في حزيران 2020) انخفاض استثمار الشركات في الاتحاد الأوروبي بنسبة 31–52% «بسبب الوباء» حسبما قال، وذلك حتى في السيناريوهات الأكثر ملاءمة. وقدّر أيضاً أنه حتى بعد سياسات تدخُّلٍ قوية، ستواجه 51–58% من شركات الاتحاد الأوروبي نقص سيولة بعد 3 أشهر من الإغلاق. وفي تشرين الأول الماضي صدرت تقارير دورية من البنك الدولي حول «آفاق الاقتصاد العالمي»، واعترفت إحدى الدراسات لخبراء البنك بأفضلية النموذج الصيني (الإغلاق الباكر المُحكَم القصير) مقابل النموذج الأوروبي (إغلاقات متأخرة خفيفة طويلة ومتكررة) فكتَبَتْ:
«أمام فعالية الإغلاق العام بتخفيض عدد الإصابات، إلى جانب التحليلات التي تفيد بأن الإصابات بالفيروس يمكن أن تلحق ضرراً جسيماً بالنشاط الاقتصادي بسبب التباعد الاجتماعي الطوعي، فإنّ ثمّة ما يدعو لإعادة النظر بالمقولة السائدة بأنّ الإغلاق العام ينطوي على مفاضلة بين إنقاذ الأرواح ودعم الاقتصاد. فهذا التوصيف الذي يضع الأرواح في مقابل الأرزاق يُغفِل أنَّ إجراءات الإغلاق العام الفعالة التي تُتخذ في مرحلة مبكرة من الوباء قد تكون أسرع في تحقيق التعافي الاقتصادي، عبر احتواء الفيروس وتقليل التباعد الاجتماعي الطوعي، وهي مكاسب متوسطة الأجل تُوازِن تكاليفَ الإغلاق قصيرة الأجل، بل قد تؤدي إلى آثار كلية إيجابية على الاقتصاد... البلدان التي فرضت الإغلاق العام عندما كانت إصابات كوفيد-19 لا تزال قليلة حققت نتائج أفضل بكثير في مكافحة الوباء مقارنة بالبلدان التي بدأت التدخل بعد أن بات عدد الحالات مرتفعاً بالفعل».
وبالنسبة لضحايا الإغلاق، سبق أن نُشِرَت دراسة ضخمة (188 صفحة) طبية-اقتصادية مشتركة، وُصِفَت بـ«المروِّعة»، في 15 تموز، ساهمت بها أربع مؤسسات بريطانية حكومية (وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية DHSC، مكتب الإحصاء الوطني ONS، دائرة الإكتوارية الحكومية GAD، ووزارة الداخلية HO) تحت عنوان «التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لكوفيد19 على زيادة الوفيات والمراضة: ملخص تنفيذي». وكتبت صحيفة الديلي ميل في 30 تموز مقالاً موجزاً عن نتائج هذه الدراسة، التي كان أهمها ما يلي:
لقي ما يصل إلى 21000 شخص مصرعهم بسبب عواقب الإغلاق خلال الأسابيع الثمانية التي أعقبت فرض القيود، حيث توفي ما يقرب من 2700 شخص أسبوعياً كزيادة على الوفيات الأسبوعية الوسطية المعتادة للأسابيع المناظرة لها من الأعوام السابقة، والعديد من الوفيات بسبب نقص الوصول إلى الرعاية الصحية، وليس بسبب كوفيد19. فالعديد منهم ماتوا بسبب عدم وصولهم إلى الرعاية الإسعافية (مثل الأمراض القلبية) حيث انخفض عدد القبولات الإسعافية لغير مرضى كوفيد19 بنحو 50%، بينما انخفضت إحالات مرضى السرطان بنسبة 70%. وأثارت هذه الدراسة احتمال أن يكون التأثير الأوسع للإغلاق قد تسبب في مقتل عدد من الأشخاص أكبر مما تسبب به فيروس كورونا نفسه!
وحسب الصحيفة حتى تاريخ نشر مقالها كانت الأرقام الرسمية تشير إلى أنَّ وفيات المملكة المتحدة من كوفيد19 قد بلغت 45961 شخصاً. وأنّ أكاديميين من جامعة أكسفورد قالوا إنّ عدداً من الأشخاص الذين تم الإبلاغ عن وفاتهم بسبب فيروس كورونا تعافوا ولكنهم ماتوا بعد ذلك لأسباب أخرى ولكن احتُسِبوا كوفيات كورونا (لأنه في إنكلترا تم احتساب أي شخص ثبتت إصابته بالمرض بأي وقت سابق على أنه وفاة بفيروس كورونا عند وفاته).