السودان... قبورٌ عميقة لأنظمة ميتة

السودان... قبورٌ عميقة لأنظمة ميتة

 شهدت السودان مظاهرات احتجاجية في الأيام القليلة الماضية، والتي جاءت تلبية لدعوات «مليونية 21 أكتوبر»، وإن كان البعض يرى فيها حدثاً عادياً وخصوصاً بعد أن تبين أن المظاهرات لم تكن «مليونية» فينيغي عليهم أن يمتلكوا إجابة عن السؤال: ما الذي يدفع النظام السوداني القائم لقمع هذه التحركات «البسيطة» بهذا الشكل؟ الأمر الذي أدى إلى مقتل شاب في المواجهات التي ترافقت بحملات اعتقال وإغلاق للشوارع العامة، وما هي النتائج التي ستترتب على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الذي أعلن عنه يوم الجمعة 24/10/2020.

في البداية ينبغي القول إن الإقرار بأن الحركة الاحتجاجية السودانية التي بدأت في أواخر العام 2018 انطلقت لأسباب موضوعية، ومن ضرورة حلّ المشاكل المتراكمة، يعني ضرورة الإقرار بأنها لن تتوقف قبل أن تنجز الحركة الشعبية السودانية التغيير التاريخي الضروري المطلوب.

الأسباب قائمة!

بعد موجة من النشاط المرتفع للشعب السوداني وقواه السياسية المختلفة، شهد الشارع انخفاضاً مؤقتاً في مستوى هذا النشاط لأسباب عديدة ومتراكبة. ولكن عودة النشاط العالي لهذه الحركة والنشاط الأكثر تنظيماً وجذرية (خاصة بعد التطبيع)، هو أمر لا مفر منه، والنظام السوداني ربما يكون أكثر من يعرف ذلك، ولذا فقد اشتغلت مستشعرات الخطر لديه!

فالمظاهرات التي خرجت في شوارع السودان مؤخراً، لم تكن مجرد نتيجة عفوية لاستمرار أسباب الموجات السابقة من الاحتجاج، بل وأيضاً نتيجة لعمل منظم من قوى معارضة. وإن كانت الحركة لم تصل إلى المستوى المطلوب بعد إلا أن التحريض مستمرٌ وهادف؛ فالقوى المتنوعة التي تعارض النظام السوداني تقوم فعلياً بإعادة حشد الشارع على أساس برنامج سياسي، وهذا البرنامج هو استمرار وتعميق لذاك الذي حملته الحركة الاحتجاجية في انطلاقتها الأولى ولم ينفذ بعد، ويجري الآن تطويره استناداً للتجربة الماضية، فهو يشمل جملة من القضايا الملحة من معالجة الأزمة الاقتصادية عبر دعم الإنتاج والمنتجين وتوسيع الدعم ومحاربة الفساد بالإضافة للمطالبة بالالتزام بالوثيقة الدستورية الموقعة بين قوى «الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري» ويضاف فوق هذه المطالب ضرورة إحلال السلام وإنهاء الحرب الأهلية السودانية وآثارها.

«التطبيع» وتكديس المشاكل

بالنظر إلى المطالب المرفوعة اليوم ومدى تطابقها مع المطالب التي رفعت مع بداية الاحتجاجات، نرى أن المشاكل التي يعاني منها الشعب السوداني لم تحل بعد، بل أضاف النظام القائم جملة من القضايا الجديدة؛ فسلوكه الحالي يضيف إلى الحركة بعداً إضافياً لم يكن حاضراً بهذا الشكل منذ عامين. 

فما جرى اليوم يمكن من خلاله بناء تصور لمستقبل النظام القائم في السودان، فاليوم أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل رسمي عن موافقة كلٍ من السودان والكيان الصهيوني على تطبيع العلاقات فيما بينهم، وكان الموقف حاضراً في مظاهرات قبل هذا الإعلان والتي ندد المتظاهرون خلالها بهذا التوجه وأحرقوا أعلام الكيان. وسيشكل قرار التطبيع مفصلياً، وسيولد آثار فورية على جملة من المواضيع، فاحتمالات تصدّع التحالف بين قوى «الحرية والتغيير» والمجلس العسكري أصبحت كبيرة، فجزء مهم من الأحزاب السياسية المنضوية ضمن «الحرية والتغيير» ترفض التطبيع. وحدوث هذا التصدع يعني إما إخراج القوى الجديدة من التركيبة الحالية أو يفتح الباب لإخراج القوى القديمة التي لا تزال تملك وزناً جدياً ضمن التركيبة القائمة، أي فتح المعركة السياسية من جديد. 

لم ينجز النظام الحالي التغيير المطلوب، فالأوضاع الاقتصادية في السودان تتراجع بشكل مضطرد، والحكومة تتخذ إجراءات تصب ضد مصلحة الشعب السوداني؛ حيث يجري رفع منظم وسريع لكل أشكال الدعم، ويجري تحرير لأسعار الوقود التي ترتبط بأسعار الصرف المتراجعة مما يحمل الشارع السوداني فوق طاقته. ويدرك النظام السوداني خطورة خطوة التطبيع بالتأكيد، ولكن بحكم طبيعته التي لا تختلف عن طبيعة النظام السابق في السودان (إذا افترضنا أنّ التغيير الذي جرى قد مس فعلاً جوهر النظام) فإنّه مستعد لتقديم أي نوع من التنازلات بالمعنى الوطني، تنازلات للخارج، وغير مستعد إطلاقاً على تقديم أي تنازلات جدية للشعب السوداني نفسه... وكل ذلك خدمة لمنظومة النهب... خصوصاً أن الضغوط الأمريكية قد وصلت حد الابتزاز العلني من خلال ربط رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب بشرط إنجاز صفقة التطبيع، ويجري إغفال حقيقة أن رفع السودان من هذه القائمة المشؤومة سيكون مقابل ثمن باهظ؛ فبحسب تصريحات البيت الأبيض، حوّلت الحكومة الانتقالية السودانية 335 مليون دولار لصالح ضحايا الإرهاب الأمريكيين وعائلاتهم! وفوق ذلك فإنّ الرفع من قائمة الدول الراعية للإرهاب، يأتي –للمفارقة الساخرة والبائسة- عبر تطبيع العلاقات مع إرهاب الكيان الصهيوني... وهو العدو الذي لا يراه السودانيون إلا بوصفه عدواً...

إطلاق المعركة السياسية ضمن هذه الظروف سيجعل احتمالات تحكم النظام السوداني القائم بالأحداث أضعف، فإن كانت الجولة الماضية من هذه المواجهات انتهت بشكل ما من التوازن بين قوى المعارضة وقوى النظام الذي اضطر أن يقدم بعض التنازلات، ستكون الجولة الجديد أكثر شمولاً وستسمح بفرض توازنات جديدة عبر عملية فرز ضرورية لقوى المعارضة ذاتها التي لا يتمايز قسم منها في برامجه عن النظام السوداني الحالي، بل والسابق. احتمال صعود الحركة الشعبية درجة جديدة باتجاه الخلاص هو احتمال جدي وممكن لكنه مرهون بقدرة القوى السياسية الجذرية على حشد الشارع بالاتجاه المطلوب، ومرهون أيضاً بقدرة هذه القوى أن تبقي صفوفها منظمة بالقدر المطلوب.

المؤكد أن النظام السوداني القائم، ومع توقيعه لاتفاق التطبيع، يكون قد أنجز كل الخطوات اللازمة (على المستويات الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية) للمضي عميقاً نحو القبر المشترك للأنظمة الميتة... المسألة باتت مسألة وقت فحسب.

آخر تعديل على السبت, 24 تشرين1/أكتوير 2020 23:03