لبراليان يغيبان الاقتصاد السياسي ويشتبكان ثقافوياً
(ملاحظات على نقاش جوزيف مسعد وجلعاد عتصمون حول جوانب من الصراع العربي الصهيوني)
يكون النقاش لافتاً حينما يتناكف لبراليان، فلسطيني أصيل مؤدب ومستوطن صهيوني متعجرف على أرضية ثقافوية يناقض بها أحدهما الآخر. الفلسطيني خجول رغم حقيقية موقفه، والصهيوني وقح وعدواني رغم كونه مستوطناً.
يدور مدخلهما الثقافوي على السطح متهربا من المرتكز المادي التاريخي للصراع. وليس التذكير بالمرتكز المادي التاريخي للنقاش معهما كلبراليين، فحتى أن كثيراً من الماركسيين (بداية ب لوكاتش وكورش) غادروا المنهج المادي التاريخي في تحليل المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وهو ما تورطت فيه مدرسة فرانكفورت. وكون نقاش الرجلين يرتد إلى قرون سابقة فإن ذلك لا ينفي أن عجزهما الأساسي هو في عدم الارتكاز على العامل المادي التاريخي، بمعنى أنهما لم يحللا موضوع الصراع بمبضع الاقتصاد السياسي.
لقد بدأ كلاهما بمناقشة الصهيونية بدءاً من اليهودية ومن ثم مناقشة علاقتهما ببعضهما، دون أن ينتبه أي منهما إلى أن الصهيونية ليست خلقا يهودياً، هذا وإن كان كلاهما قد حصر الصهيونية في كونها خلقاً ثقافوياً، وخاصة من اللاساميين بتنوعاتهم.
وهنا، رغم غضبهما سوف استحضر لينين فيما يخص المسألة الثقافوية لأن موقفه تأسيس صالح حتى اليوم.
رفض لينين مطلب أل “بوند” في حق تقرير المصير الثقافي لثلاثة أسباب:
الأول: لأنهم طالبوا بالاستقلال الذاتي الثقافي داخل الحزب مما يقود إلى تدمير وحدة البروليتاريا من الداخل
والثاني: لأن لينين يرى تمازج الأمم خطوة تقدمية، والابتعاد عن ذلك خطوة للوراء. ولذا نقد دُعاة عدم الاندماج.
والثالث: لم يعتبر “الاستقلال الثقافي غير المناطقي/الجغرافي” الذي يدافع عنه أل “بوند” وأحزاب يهودية أخرى أمراً مفيدا، عملياً، أو يمكن ان يكون عملياً.
لينين لم يعتبر اليهود كيانا قوميا كالأمم الأخرى. وكان رده على الـ بوند صارما وواضحا: “آسف يا شباب، أنتم لم تكونوا. أنتم لستم أقلية قومية وذلك لسبب أنكم لا ترتبطون بقطعة جغرافية.”
أعتقد أن ليس أمام عتصمون الآن سوى الرد التالي على لينين: نحن الآن على قطعة جغرافيا بالقوة. وحينها سوف يصطف عتصمون إلى جانب جابوتنسكي وبن غوريون ونتنياهو، شاء أم أبى. هذا هو الخطاب المُضمر لعتصمون كما أرى في رده على مسعد.
بدأ مسعد بقراءة المسألة منذ مارتن لوثر ( 1483-1546) الذي كان أول من أبدى اهتماما سياسيا ولاهوتيا باليهود، ونصَّب اليهود ورثة حقيقيين لسلالة بني إسرائيل التوراتيين ب “فتوى” أنثروبولوجية” دون أن يبني ذلك على أي أساس علمي. كان ذلك طبعاً قبل ان يرتد ضدهم، دون أن يتعمق لرؤية البعد الاقتصادي/المصلحي أي المادي وراء ذلك.
بدأت صهينة النخبة الإنجليزية أيام هنري الثامن، وخاصة عام 1534 حين نصب نفسه على رأس الكنيسة الإنجيلية وتطور ذلك حين سمح لهم بالعودة الى انجلترا عام 1655 بعد أن كان طردهم إدوارد الأول 1290.
في نهاية القرن السادس عشر تدفق اليهود من العالم الكاثوليكي حيث تم إنشاء أول مصرف وطني في التاريخ (بنك هولاند 1604) (أنظر محمد ولد إلمي، الأصل غير اليهودي للصهيونية في مجلة كنعان، العدد 113 نيسان 2010). ومنذ 1600 بدأت شركات الهند الشرقية الهولندية والبريطانية واشتد التنافس بين الرأسماليتين الميركنتيليتين في البلدين، وليس هنا موضع مناقشة علاقة الشركة بالدولة من حينها حتى اليوم. وبدأت كلتا الدولتين تتقربان من اليهود، حيث بدأ ذلك الأمير اورنج الهولندي ولاحقا أوليفر كرومويل الإنجليزي محفوزين بجاذبية الموارد المالية اليهودية. وسمح كرومويل للتجار اليهود بالسكنى في لندن لتقوية انجلترا في صراعها مع هولندا (I. Wallerstein, The Modern World-System vol II. P. 78)
إذن ترافقت “فتوى” مارتن لوثر الألماني مع تطور وتناقض الرأسمالية الميركنتيلية في هولندا وبريطانيا، وهو العامل الحاسم الذي حكم علاقات مختلف الدول الأوروبية بعد ذلك وحتى اليوم مع اليهود. ولم يكن البعد الثقافوي سوى عامل جانبي يزركش العامل الاقتصادي مجسدا في المصالح الاقتصادية. لقد تنقل الدعم الأوروبي للاستيطان اليهودي الأبيض في فلسطين من دولة أوروبية إلى أخرى دون أن تتحول أي من هذه الدول من داعم إلى معارض لهذا الاستيطان وتواصل هذا عبر مراحل: الرأسمالية الميركنتيلية، فالرأسمالية الاستعمارية، فالرأسمالية الإمبريالية، فالرأسمالية المعولمة، وهو ما ورثته بالطبع الحركة الصهيونية ولاحقاً الكيان الصهيوني الإشكنازي (السكناجي).
وهذا يفتح على نقطة هامة أخرى استثمرها عتصمون ضد مسعد بزعمه أن كل مستوطنة بيضاء كان لها ” وطن أُم” ما عدا اليهود. وهذا زعم غير علمي. فكندا مثلاً، لها “أم بريطانية وأخرى فرنسية”! والأهم أن الوطن الأم للكيان الصهيوني الإشكنازي هو النظام الرأسمالي العالمي بأكمله وهي أمومة اقتصادية مادية استعمارية أكثر مما هي أمومة دم أو جنسية دولانية. (انظر عادل سمارة، الكيان الصهيوني الإشكنازي في مجلة كنعان العدد 142 صيف 2010).
قد يفسر هذا أن كل يهودي في فلسطين يحتفظ بجنسية موطنه الأصلي، قوميته الأصلية ويورثها لنسله. ولا شك في أن عتصمون يعرف أن معظم المقاتلين الطيارين، ورجال المدفعية وأطباء العيون …الخ. في حرب 1948 من الجانب اليهودي كانوا متطوعين من الدول الغربية ومن المستوطنات الرأسمالية البيضاء.
وعليه، فإن ديانة هؤلاء المستوطنين اليهودية لا تنفي أصولهم القومية التي ترتد ربما إلى مئة قومية وخاصة الأوروبية. وهنا يجدر التذكير بأن أنظمة مركز النظام الاقتصادي العالمي (أي الطبقات الحاكمة/المالكة) والاشتراكية الدولية وحتى المعسكر السوفييتي أقرت تقسيم فلسطين 1947 ولاحقا اعترف معظمها بالكيان الصهيوني الإشكنازي. فهل هناك أكبر من هكذا بلد أم؟
تجاوز عتصمون على كل هذه الحقائق ونفى بانفعال قول مسعد بالأصل الأوروبي لليهود المستوطنين في فلسطين. والطرافة هنا:
• أن ما يُضمره مسعد هو أنه في حال حصول حل جذري للصراع، أي تحرير فلسطين، يمكن (وهذا قولي أنا) أن يرحل بعض، أو معظم، أو جميع اليهود الأوروبيين من فلسطين إلى مواطنهم الأصلية، وخاصة بافاريا، رحيلا عاديا كما حصل في الجزائر لا سيما وأنهم لن يطيقوا الحياة مع عربٍ “متخلفين”. يُضيىء على هذه النقطة موقف نوعام تشومسكي الذي يعتبر الدولة الواحدة ظلماً لليهود، بل ويرى أن من المحال أن يقبلوا بها، ما قد يضطرهم إلى استخدام القنبلة النووية. وبهذا يعود تشومسكي اللغوي اللبرالي المتحضر لاستعادة حل شمشون!
• أما عتصمون، فيرفض مجرد النقاش في الأصل الأوروبي لليهود المستوطنين في فلسطين، لأن موقفه المضمر هو أن هؤلاء اليهود هم من سلالات اليهود القدامى في الوطن العربي منذ 3000 سنة في امتداد نقي، يحظر على أيِ كان مجرد التفكير، فما بالك بالمجادلة، في هذا الأمر. وهو بهذا المعنى مثل الكثيرين من اليهود الذين يزعمون نقد الكيان حيث يقولون: تعالوا لنبدأ من اللحظة دون أية قراءة للتاريخ لا الحديث ولا القديم. وهدف هذه القراءة اللاتاريخية هو الزعم بأن اليهود الحاليين هو أحفاد موسى وشمشون، وبأن المحتل 1948 هو دولة اليهود، ومن يريد التفاوض فهو على أجزاء من المحتل 1967، وأن التفاوض يجب ان يكون فلسطينياً/إسرائيلياً، وأي حل يجب ان يُعزل عن العمق العربي للقضية والصراع.
وهذا يلتقي في النهاية مع مزاعم هرتسل بقوله: “إن اليهود التعساء يحملون الآن بذور اللاسامية إلى إنجلترا؛ كما سبق لهم أن أدخلوها إلى أمريكا”، وبأن على “الشعب” اليهودي مغادرة أوروبا من أجل استعادة “سيادته القومية” في فلسطين أو في الأرجنتين.
أية سيادة قومية، لمن ليسوا قومية، على أرض الغير؟ وهل هي غير استيطانية تلك “القومية” التي تتنقل في خيارات بين أوغندا، الأرجنتين، فلسطين، وسيناء؟ بل إن الانتهاء في فلسطين هو تأكيد على غياب العلاقة بين يهود أوروبا ويهود ما قبل 3000 سنة من جهة، وتأكيد على أن ما حول الصهيونية إلى فلسطين ليس العامل الثقافي بل العامل الاقتصادي المصلحي للغرب الراسمالي حيث مصالحه أكثر “حيوية” في الوطن العربي منها في الأرجنتين.
يحاول عتصمون نفي قول مسعد بأن الفلسطينيين يعتبرون اليهود الذين يستوطنون فلسطين أوروبيين وذلك بزعمه أن الفلسطينيين لا يقولون هذا؟ ولا ندري كيف استنتج عتصمون كل هذا؟
قد يصح قولنا بأن الإفاضة في أن اللاساميين ركزوا على طرد اليهود من أوروبا على أرضية عنصرية وبأن اليهود ليسوا أوروبيين، لا قيمة كبيرة لها لأنها ربما وُظفت من قبل الطبقات الرأسمالية في أوروبا لحشر اليهود في فلسطين، حيث هناك سوف يصبحون بالضرورة أدوات للإمبريالية في المنطقة. وقد يكون في ما آل إليه وضع قيادات وكوادر كميونة باريس بعد نفيهم إلى الجزائر حيث أصبحوا عنصريين والأكثر تطرفا ضد العرب الجزائريين.
بدوره يتورط مسعد في مقارنة بائسة حين ينتقد: “عدم وجود نصبٍ تذكاريٍّ واحدٍ لمحرقة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) أو محرقة الأمريكيين الأفارقة التي ارتكبتها الولايات المتحدة”. وهل يُعقل أن يقوم المستوطنون بهذا؟ أو مثلاً: أن يقوم نتنياهو بإقامة نصب تذكاري لأكثر من سبعين مذبحة ضد الفلسطينيين!
ليس مفهوماً كيف تمكن مسعد من التأكد بأن المحرقة خصصت في معظمها لليهود الاندماجيين؟ هل هناك مسحٌ لهذا أو قتلٌ على الهوية السياسية، كما هو القتل في سوريا اليوم على الهوية المذهبية؟
أختم، بان مسعد الذي واظب على الكتابة للجزيرة قد فقد كثيراً من مصداقيته العلمية عبر الكتابة لمؤسسة افتضح أمرها في التزوير ناهيك عن كونها مؤسسة أباحت الدم وجهاد النكاح.
بقلم عادل سمارة
نشرة كنعان