هل وصلكم نبأ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؟
سعد صائب سعد صائب

هل وصلكم نبأ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؟

الولايات المتحدة لن تسمح لروسيا أن «تحل محلها في الشرق الأوسط»، كذلك قال ماتيس، وزير الدفاع الأمريكي، خلال مؤتمر الأمن في دورة انعقاده الأخيرة في البحرين.

بدأت الحكاية، أو هكذا يقال، مطالع الشهر التاسع من هذا العام، مع تقرير نشرته واشنطن بوست «نقلاً عن مسؤولين أمريكيين كبار»، جاء فيه أن دونالد ترامب «بدّل قراره في سورية من سحب القوات الأمريكية بأسرع وقت إلى الموافقة على استراتيجية جديدة، تمتد إلى أجل غير مسمى، تشمل استمرار المجهود العسكري الأمريكي مع إطلاق دفعة دبلوماسية كبيرة، الهدف منها تحقيق الأهداف الأمريكية في سورية». وبدأنا نسمع بعد ذلك عن هدفين لتلك الاستراتيجية مرة، وثلاثة مرة أخرى، وأربعة مؤخراً...
توضيحاً للتقرير في حينه، قال جيمس جيفري، الممثل الأمريكي الخاص للانخراط في سورية (هكذا هو الاسم الرسمي لوظيفته: the United States Special Representative for Syria Engagement)، إنّ القوات الأمريكية باقية في سورية، لضمان رحيل الإيرانيين ولإلحاق «الهزيمة الدائمة» (؟!) بتنظيم داعش.
خلال الأسبوعين الأخيرين، انبعثت داعش من الرماد، وعادت لتحتل مواقع وتوجه ضربات وتقوم بعمليات اختطاف وبعمليات مبادلة، وانبعثت بالضبط في تلك المنطقة التي يفترض أن الأمريكيين هم من قادوا هزيمتها ضمنها، ولكن بالتأكيد ليس هزيمتها النهائية، بل هزيمتها «الدائمة»...
لا بد أن نتذكر هنا أن الاستراتيجية الأمريكية «القديمة»، أيام أوباما، كانت تقول إنّ إنهاء داعش سيستغرق ثلاثين عاماً، ثم قامت بعد ذلك بـdiscount كبير، وصولاً إلى ثلاث سنوات بدل ثلاثين، والآن نحن أمام استراتيجية «جديدة»، تضع هدفها، بما يخص داعش، بهزيمته هزيمة دائمة (enduring defeat)، والهزيمة الدائمة تعني أن العدو موجود دائماً، وتنبغي هزيمته مرة بعد أخرى إلى ما لانهاية، وبما أنّ أطول الاستراتيجيات عمراً، وخاصة في عصر شديد التسارع كعصرنا، لا يمكن لها أن تبقى صحيحة وفاعلة لأكثر من عقدين إلى ثلاثة عقود، فإنّ اللا نهاية إياها ليست إلا الثلاثين سنة «القديمة»... (وعلى الهامش، وربما في جوهر المتن، أنّ استمرار الاستراتيجية الأمريكية المتمثلة بإدامة الاشتباك وصولاً للتفتيت، لعقود عديدة، يمثل أحد أهم الأمثلة على الإفلاس المعرفي للإمبراطورية الأمريكية، وإذا كانت الشعوب عامة، والطبقة العاملة خاصة، هي حفار قبر الرأسمالية، فإنّ الإفلاس المعرفي هو بوّاب مقبرة التاريخ).
مما يثير السخرية، بين الاستراتيجية «القديمة» و«الجديدة»، هو تلك المرحلة التي راج فيها - وأسهم الأمريكيون أنفسهم في الترويج- أنّ الولايات المتحدة ليست لديها استراتيجية واضحة بعد في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي سورية خصوصاً، وجرى تعليل ذلك –جرياً على العادة التاريخية الأمريكية- بالفترة الانتقالية بين الإدارتين...
ما يثير السخرية أكثر، هو تعلق غرقى التشدد بحبال الوهم الأمريكي؛ دونكم مادة نشرها البارحة موقع جيرون الالكتروني، حول «تبلور جديد للاستراتيجية الأميركية ضد التوسع الروسي في الشرق الأوسط»، يستطلع فيها الموقع آراء أربعة من جهابذة المعارضة السورية، والتي تسرد بمجموعها قصة واحدة تصلح ترنيمة لما قبل النوم لعناصر داعش، عناصرها هي التالية:
- الدور الروسي في سورية جاء ضمن تكليف وضوء أخضر من «الرب الأمريكي» الذي لا يتحرك في العالم شيء بغير إشارة منه.
- روسيا فشلت في تنفيذ المهمة «الموكلة إليها»، لأنها طمعت بأكل حصة «معلمها».
- أثار ذلك غضب المعلم، الذي كان على ما يبدو منشغلاً بأمور أكبر من سورية والشرق الأوسط، وأكبر من الكرة الأرضية بأسرها؛ ربما كان منشغلاً في حربه السرية الخيرة مع كائنات فضائية تهدد البشرية بأسرها، ولكنه الآن (عاد إليكم من جديد) ليلقن الجميع درساً في الأحجام والأوزان.
- ينفرد الذي استقبلته «جبهة النصرة» استقبال الأبطال، في إيغاله في الوهم حدود الوسواس القهري، مؤكداً أنّ الوجود الأمريكي في منطقتنا «راسخ ومتجذر»، ويستشهد بوجود «إسرائيل» وقوتها، وبالتحالف التاريخي مع دول الخليج، وبوجود تركيا ضمن الناتو، بل ويصل هذيانه حد القول إن «الروس شبه مطوقين في سورية».
لا مكان في هذه السردية «الوردية»، لأس الصراع الدولي وجذره؛ لا مكان لحقيقة الصراع ضد السيطرة الدولية للدولار، والعمل المتسارع على إزاحته، ولا مكان للتقدم المتسارع في ضرب التبادل اللامتكافئ على المستوى الكوني، وإضعاف مؤسساته الأساسية: (صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية والناتو...)، الواحدة بعد الأخرى. لا مكان للصين هنا، فهي بعيدة؛ هنالك فقط روسيا، «دولة إقليمية ليس إلا، وقد انتفخ رأسها بأوهام العظمة، وبدأت تعتقد أن في مقدورها مناوشة الكبير، والكبير هذا هو واحد لا غير». ومن نافل القول أنّ هذه السرديات (التي ليست سرديات أطفال مطلقاً، فالأطفال يأتون بالجديد والإبداعي دائماً، وهذه سرديات مكررة تفتقر حتى إلى أدنى محاولات التجديد)، لا تقترب البتة من محاولة تكوين نظرة عامة للمشهد الدولي؛ فكيف لها أن تجيب عن سؤال الهزيمة الأمريكية في أوكرانيا، وفي اليمن، وفي العراق، وفي كوريا الشمالية، وفي حدود الصين كلها تقريباً، بل وفي تركيا... كل ذلك سيؤدي «للأسف» إلى القول بالهزيمة الأمريكية في سورية أيضاً... وهذا يعني هزيمة «المعلم» ويعني تيتم التلاميذ...
بكل الأحوال، فعن نبأ الاستراتيجية الأمريكية «الجديدة»، إنْ جاءكم فاسق بنبأ...