رضوخ سورية أم مناورة

رضوخ سورية أم مناورة

اخفاق التجربة الدولية في التخلص من السلاح الكيميائي وتجلياتها في الميزان السوري

انفرجت أسارير «المجتمع الدولي» بعد إعادة الاعتبار إلى الحل الديبلوماسي للأزمة السورية، وتراجع التهديد الأميركي بشن عدوان عسكري “شامل ومركز وانتقائي ..الخ،” واضحت المبادرة الروسية العنوان الابرز على كل لسان، وفعلها بدد مناخ الاحتقان الدولي. وسرعان ما أعلنت الاطراف والقوى المتضررة عن تحفظاتها ومعارضتها وشكوكها في تنفيذ سورية تعهداتها الدولية كما اعلنت او كما يراد لها ذلك، ارفقته بابقاء التلويح بالعدوان قائماً. وسعى كل من له شأن الادلاء بدلوه في “كيفية وآلية وضمانات التخلص من الاسلحة الكيميائية.” وهذا ما سنلقي عليه الضوء من عدة زوايا متداخلة: علمية وتقنية وسياسية.

 

بداية، لا بد من المرور على ادعاءات ومزاعم توفر الاسلحة الكيميائية لدى سورية كذريعة اميركية وغربية للابتزاز وشن عدوان عسكري عليها، واقصاء الحل السياسي عن التداول. واذ بالمبادرة الروسية تنضج في اللحظة الاخيرة لتوقف التلويح العسكري الاميركي واعادة الاعتبار لعقد مؤتمر جنيف -2 . موافقة سورية العاجلة بالانضمام لمنظمة حظر الاسلحة الكيميائية سحب ورقة تفاوضية هامة من على طاولة ذرائع البحث، فسرها البعض بانها تراجع للوراء درءا للعدوان. ربما، تراجع خطوة للخلف وتقدم خطوتين للأمام، يليها انفراج أممي رغم الغيوم الملبدة والتهديدات المتجددة بوضع سورية تحت “الفصل السابع” من ميثاق الامم المتحدة – الذي يتيح استخدام القوة ضد طرف يجري التيقن من كونه يشكل تهديدا للأمن والاستقرار الدوليين.

 

المبادرة الروسية اطاحت “بالرقص على حافة الهاوية،”  فهي نجحت في تفريغ التبرير الاميركي للعدوان بحجة السلاح الكيميائي من محتواه، وحرص الطرف الروسي على الا يفلح الجانب الاميركي بمكاسب خارج اطار المبادرة التي وافقت عليها سورية وجعل الحل السياسي هو الخيار المتداول فقط، يعززه الوضع الميداني الذي يسير في اتجاه مغاير لرغبات معسكر الحرب. وشكلت المبادرة “خيبة أمل عظيمة لاسرائيل” وداعميها في الكونغرس ودوائر صنع القرار المختلفة لتيقنهم من انها رحلت العدوان “والقصف الانتقائي” التدميري إلى اجل غير منظور. المحلل الابرز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية انثوني كوردسمان سعى حتى اللحظة الاخيرة إلى التمهيد والحث على العدوان العسكري، قائلا “اكتشاف ان سورية استخدمت سلاح كيميائي ربما يكون خدعة سياسية” منها لكسب المزيد من الوقت (13 أيلول).

 

الانفراج الروسي الاميركي، ثمرة مناورات سورية روسية مشتركة بارعة، نص في وثيقة التفاهم على تحديد منتصف عام 2014 موعدا للتخلص من الاسلحة الكيميائية السورية. من سخريات القدر ان الطرفين، الروسي والاميركي، واللذين يملكان ترسانة هائلة لا تضاهيها اي من القوى الاخرى، اخفقا في تطبيق التزامهما الأممي للتخلص من تلك الاسلحة وطلبا تمديدا اضافيا: الولايات المتحدة لعام 2023، وروسيا لعام 2015.

 

بالنظر إلى هذه الحالة، لماذا يطلب من سورية التخلص من ترسانتها بسرعة  هائلة، وفرض “برنامج زمني محدد ومحكم” عليها، كما تطالب الوثيقة، ووضع كافة منشآتها الكيميائية تحت الرقابة الدولية تهيئة لتدميرها. وهذا ربما هو بيت القصيد: لن تستطيع سورية الامتثال والالتزام بالجدول المعلن نظرا للظروف الاستثنائية التي تمر بها فضلا عن وقوع بعض المنشآت في مناطق تسيطر عليها المعارضة المسلحة، سيما وان الولايات المتحدة اعلنت رسميا ان التخلص من الترسانة الكيميائية السورية قد يستغرق بضعة سنين، استنادا إلى تجربتها الخاصة الممتدة لثلاث عقود من الزمن دون الوفاء بالتزاماتها.

دورية “فورين افيرز” الرصينة، التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية، علقت على الاتفاق الاميركي الروسي قائلة بانه يشكل “.. نبأً عظيما لاسرائيل .. لما يوفره من اطار للتخلص من اسلحة سورية الكيميائية (وهو) من اضخم برامج الاسلحة الكيميائية في الشرق الاوسط .. بل اضحت سياستها في الصمت والكتمان والغموض (حول حقيقة ترسانتها الكيميائية والنووية) تشكل عبءاً سياسيا عليها …” واضافت انه لم يعد “من مبرر لحاجة اسرائيل لاسلحة كيميائية بالمطلق.” (عدد 19 ايلول 2013).

 

مصير الاسلحة النووية “الاسرائيلية”  لم يغب عن بال “فورين افيرز،” اذ اوضحت “قالها الرئيس الاسد بوضوح ومر عليها عابرا الرئيس الروسي بالدعوة إلى ترابط مسألة تخلص سورية من ترسانة اسلحتها الكيميائية مع اسلحة الدمار الشامل لدى اسرائيل،” كي يشملها اطار الاتفاقية والسير على طريق تخليص منطقة الشرق الاوسط من اسلحة الدمار الشامل.

في تطور متصل، استطاعت الولايات المتحدة وحلفائها من افشال مشروع اممي لاخضاع الاسلحة النووية “الاسرائيلية” تحت المراقبة الدولية، خلال الاجتماع السنوي للوكالة الدولية للطاقة النووية في فيينا، يوم 20 ايلول. المشروع قدمته ايران بمساندة عُمان “لحمل اسرائيل على الامتثال بمعاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية ووضع كافة منشآتها تحت رقابة شاملة للوكالة.” نتيجة التصويت كانت 43 دولة مع المشروع مقابل 51 ضده وتغيب 32 دولة.

 

يجمع الخبراء في حقل الاسلحة الكيميائية على اعتبار المدة الزمنية المنصوص عليها لسورية بانها غير واقعية. استاذ علوم تسمم البيئة في جامعة ليدز البريطانية، الاستير هاي، اوضح لشبكة بي بي سي (19 ايلول) انه “يعلق آمالا لضرورة امهال السوريين بعض المرونة – في حال اخفاق برنامج التخلص في بعده الزمني .. لدي تفاؤل معقول بانه لو اتضح ان سورية لا تماطل في التفاوض بغية كسب مزيد من الوقت، يتعين عندئذ التعاطي بايجابية لتمديد الجدول الزمني المحدد،” مذكرا في هذا الصدد بالعقبات التقنية الملازمة لتدمير حاويات غازات الاعصاب، مثلا، والتي هي ايسر واسهل من رؤوس الاسلحة الكيميائية التي ينبغي تفكيكها وضمان سلامتها قبل التخلص منها. تتعدد اساليب واليات التخلص من الاسلحة لتلائم طبيعة العناصر الكيميائية واوعيتها الحاضنة.

 

دخلت معاهدة الاسلحة الكيميائية حيز التنفيذ في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، وانضمت لها زهاء 189 دولة، وامتنعت 7 دول هي: سورية، انغولا، “جنوب السودان،” بورما (ميانمار)، مصر، كوريا الشمالية، و”اسرائيل.”

 

وافقت الدول الموقعة على تدمير ترساناتها المتعددة خلال عشر سنوات من تاريخه، والاحتفاظ بطلب التمديد لمدة خمس سنوات اخرى. اما الدول التي تخلفت عن الوفاء بالتزاماتها في الموعد الاصلي المدرج، 2007، فهي: الولايات المتحدة، روسيا، كوريا الجنوبية، الهند، والبانيا. وطلبلت ثلاث دول منحها تمديدا اضافيا قبل سنتين: الولايات المتحدة وروسيا وليبيا. روسيا بدورها اعلنت انها ستفي بالتزاماتها للتخلص من تلك الاسلحة في العام 2015؛ اما الولايات المتحدة فطلبت التمديد لغاية العام 2023.

 

يذكر ان جهود الهند وكوريا الجنوبية نجحت في التخلص من ترساناتهما الكيميائية، المتواضعة نسبيا، بيد ان الامر تطلب زمنا اضافيا ابعد مما كان يعتقد، نظرا لما تطلبه من انشاء معامل خاصة للعملية. تجربة البلدين ينبغي الاقتداء بها نظرا لحجم مخزونهما الكيميائي الذي ربما يقارب حجم الترسانة السورية.

 

تجربة الولايات المتحدة ربما شكلت نموذجا للعقبات التي واجهتها، وهي لا تزال تحتفظ بمخزون معتبر في ولايتي كولورادو وكنتكي اللتين تشكوان من العقبات التقنية البارزة لانجاز مهمة التخلص. تخزن بلدة بويبلو بكولورادو نحو 2611 طن من غاز الخردل. اما الترسانة في ولاية كنتاكي فقد بلغ حجمها نحو 524 طنا من الاسلحة الكيميائية المعدة للاستخدام والتي تحتوي على عدة انواع من الغازات السامة والفتاكة وغازات الاعصاب. ونظرا لتنوع العبوات المعبأة (قذائف صاروخية، قنابل، قذائف مدفعية، الغام ارضية) فان كل منها يتطلب اجراء محدد لتفكيكها.

 

فضلا عن ان كل عنصر كيميائي له خواصه المميزة مما يفاقم المعضلة. على سبيل المثال، فان العناصر الكيميائية التي تنتشر في الجسم عبر الدورة الدموية تكمن وظيفتها في تحييد سمّية العناصر التي تؤثر على الاعصاب، اذ صممت على هذا النحو لتعقيد عملية الوقاية من الاسلحة الكيميائية. فعناصر الدورة الدموية تدمر اجهزة الوقاية من الاسلحة، مما يحرر عناصر غازات الاعصاب لفعل فعلها بشدة اكبر. اما المواد المتفجرة المتوفرة في كل عبوة من تلك الاسلحة من شأنها تحويل منشأة ومعامل التدمير إلى أثر بعد عين، وتلويث المنطقة بسرعة هائلة. لهذه الاسباب والتعقيدات سيجري التعامل مع مخزون ولاية كنتاكي في اسفل قائمة الاولويات.

 

اما النجاحات التي تحققت في الدول التي اخفقت في الوفاء بالتزاماتها، روسيا والولايات المتحدة والهند وكوريا الجنوبية والبانيا، فهي تعود إلى عزمها في التخلص التلقائي من تلك الاسلحة. الحالة السورية لما لها من تعقيدات لوجستية وأمنية اضافية قد تفاقم الازمة مع المراقبين الدوليين المكلفين بالاشراف على عملية التدمير. على الرغم من التزام ليبيا في العام 2004 بتدمير ترسانتها الكيميائية والسماح لمراقبي الامم المتحدة التحقق من الجهود، الا ان بعض مخزونها من غاز الخردل تبين انه لا يزال بحالة جيدة بعد العدوان الاطلسي عليها في العام 2011.

 

في الجانب التقني البحت، ينبغي تحديد المنشآت التي تخزن بداخلها الاسلحة الكيميائية. وزير الخارجية الاميركية، جون كيري، صرح مطلع الاسبوع ان سورية تمتلك نحو 1،000 طن من المكونات الكيميائية معظمها في حالة خام كعناصر مخزنة قابلة للاستخدام. ان ثبت صحة الأمر، فانه يسهل مهام التفتيش والتدمير. ونظرا للحجم الكبير لصواريخ سكود المحملة برؤوس كيميائية فيصبح من السهل ايضا تحديد امكنتها وملاجيء تحصينها. كذلك القذائف التي تطلق من الجو تخضع لذات الآلية من التحقق سيما وانها عادة ما تكون بقرب قواعد جوية ومدرجات للاغراض العسكرية.

 

التحدي الاكبر يكمن في قذائف المدفعية والالغام نظرا لصغر حجمها، والتي قد تخزن بعيدا في حاويات متواضعة الحجم نسبيا، مما يسهل استخدامها في اشتباكات وحروب محدودة. وكما رأينا في حالة المخزون في ولاية كنتاكي، فان التحقق من تلك العبوات وتدميرها هو امر عسير.

 

 

سيناريو التنفيذ المحتمل في سورية

 

 

مرحلة التدمير تعقب جهود سورية لتحديد نوعية واماكن تخزين اسلحتها الكيميائية، وتقتضي انشاء منشآت معدة خصيصا لجهود الاتلاف والتدمير، التي ستتم على مراحل عدة تبدأ عادة بالتخلص من خزانات الاسلحة الكيميائية يليها التخلص من الاسلحة المعدة والجاهزة للاستخدام التي تتطلب التفكيك اولا وعزل مكوناتها الكيميائية الاولية، ومن ثم التخلص من المواد المتفجرة والملوثة.

 

قبل المباشرة بتنفيذ اي من الخطوات المذكورة، يتعين تواجد خبراء الاسلحة الكيميائية في سورية للتحقق والاشراف على الترسانة الكيميائية لتطابق البيانات المعدة سلفا. استناد إلى تجربة تدمير الاسلحة العراقية، اعرب رئيس مفتشي الاسلحة الدوليين السابق، الاميركي ديفيد كاي، ان الامر يستوجب انتشار نحو 2000 عنصر من المفتشين لتغطية الاراضي السورية، وهم بحاجة لقيام سورية بتوفير الأمن الشخصي لهم جميعا، اذ لا يزال الغموض يكتنف قدرة سورية على تنفيذ ذلك سيما وان بعض المكونات الاولية للاسلحة الكيميائية تقع في مناطق قد لا تخضع لسيطرتها التامة.

 

عملية انشاء معامل خاصة للتخلص من الاسلحة قد يستغرق بضعة سنين لتأهيلها، سيما وان كل منشأة لها خواصها ومميزاتها التقنية لتتماثل مع متطلبات مباديء علمية معينة تخص عناصر ومكونات بعينها. حاويات تخزين المواد الكيميائية يجري حرقها وتحويلها إلى رماد بسهولة نسبية. اما الرؤوس الكيميائية المعدة للاستخدام فينبغي التعامل معها بحرصٍ عالٍ وتفكيك موادها المتفجرة في معامل خاصة بذلك. بعد نجاح فرز المكونات المختلفة إلى عناصر معزولة ينبغي معاملة كل مكون على حدة، ومن ابسط قواعد السلامة العلمية التعامل مع المكونات الجامدة وغير الفعالة، كالمنصات، والتي ينبغي معالجتها كعناصر ملوثة والتخلص منها وفق تلك القاعدة.

 

البعض طالب بشحن المكونات الكيميائية خارج سورية للتخلص منها بسلاسة اكبر، بيد ان اي من الدول لم تعرب عن ترحيبها استضافة المواد الملوثة مؤقتا على اراضيها.

اضحت تقنية حرق المكونات الكيميائية متطورة ومفضلة على غيرها من اساليب، اذ تعتمد على درجة حرارة عالية لتحويل العناصر إلى رماد، وما يرافقها من بخار الماء وغاز ثاني اكسيد الكربون، ومواد اخرى ناتجة عن عملية الاحتراق. وتستخدم التقنية عينها للتخلص من اغلفة الطلقات الفارغة وما تبقى من مواد كيميائية خطرة عالقة.

 

فيما يخص غازي الخردل والاعصاب، عادة يتم ابطال مفعولهما وتحييدهما. في الترسانة الاميركية، مثلا، تم تخزين غاز الاعصاب، في اكس، في مدينة نيوبورت بولاية انديانا في حاويات كبيرة بسعة طن، افرغت عبر تقنية معينة لتحولها إلى عناصرها الاولية المكونة، ومن ثم ضخت بداخل مفاعل يخضع لمراقبة محكمة. تم تحليل الغاز المنبعث باضافة محلول من الماء وهيدروكسيد الصوديوم تحت حرارة بلغت 200 درجة فهرنهايت. ثم خضعت الحاويات الفارغة إلى عملية غسيل مكثفة لتخليصها من العناصر الملوثة باستخدام تقنية الحرارة العالية.

 

على الرغم من التوصل إلى تحييد العناصر الكيميائية فانها لا تزال بحاجة إلى معالجة اضافية. ففي العام 2002، استخدمت الولايات المتحدة تقنية التحييد الموصوفة اتبعتها بتقنية المعالجة البيولوجية للتخلص من نحو 2،611 طنا من عناصر غاز الخردل المعد للقذائف والطلقات في معامل التخلص من الاسلحة في مدينة بويبلو بولاية كولورادو. تقنية المعالجة البيولوجية تستند إلى معالجة النفايات العضوية، مخلفات العناصر الكيميائية في هذه الحالة، باستخدام كائنات حية مثل البكتيريا والفطريات او الكائنات وحيدة الخلية – البروتوزوا. من ميزاتها انها “صديقة للبيئة،” وسهلة الاستخدام وذات كلفة متدنية بالنسبة إلى خيارات التخلص الاخرى.

تستخدم الولايات المتحدة تقنية نموذجية في معامل التخلص من المكونات الكيميائية، بولاية كنتاكي، باضافة عنصر تأكسد الماء فوق المرحلة الحرجة للتخلص من مكونات غاز الاعصاب والفقاعات التي تدخل في صناعة القذائف الصاروخية. عملية التأكسد تستند إلى اخضاع الماء لدرجة عالية من الغليان والضغط تفوق الدرجة الحرجة المحددة البالغة 374 درجة مئوية، 705 درجة فهرنهايت، وقدرة ضغط تعادل 3،205 رطل على البوصة المربعة. عند التوصل لتلك الشروط، يتم التخلص من النفايات الجانبية للمواد الكيميائية الاولية عبر عملية تأكسدها.

 

كلفة تلك المنشآت المتطورة ليست متدنية. اذ قدرت هيئة المواد الكيميائية التابعة لسلاح الجيش الاميركي، المخولة بالاشراف على عملية التخلص والتدمير، كلفة معالجة 28،364 طنا من الاسلحة الكيميائية (ما يمثل نحو 90% من محمل الترسانة الاميركية) نحو 28 مليار دولار، اي ما يعادل مليون دولار لكل طن. وعليه، تصبح كلفة تخلص سورية من ترسانتها الكيميائية نحو مليار دولار، بمقياس ذلك الزمن.

 

على الرغم من نجاح جهود الولايات المتحدة في التخلص من معظم ترسانتها الكيميائية، فان ما تبقى منها كلفته باهظة. اذ تقدر هيئة الجيش الاميركي المشرفة على عملية التخلص من الاسلحة ان كلفة التخلص من باقي الترسانة 3،136 طنا، 10%، ستبلغ 10.6 مليار دولار، اي ما يعادل 3 مليون دولار للطن. في الحالة السورية سترتفع كلفة التخلص إلى 3 مليار دولار، والتي لا تأخذ بعين الاعتبار كلفة المنشآت والمعامل الجديدة، يضاف اليها الاعتبارات والاجراءات الأمنية الضرورية لتوفير الحماية مما يضاعف الكلفة مجددا. يذكر ان معامل التخلص من ترسانة البانيا للاسلحة الكيميائية، 16 طنا، تم انشاؤها في المانيا وشحنت المكونات الاولية والمواد بعد التخلص من تلوثها مرة اخرى إلى البانيا.

 

المنظمات والهيئات الدولية ستتحمل قسطا وافرا من الكلفة المادية، في الحالة السورية، ويتوقع ان تتحمل الولايات المتحدة الجزء الاكبر منها. ستواجه عملية انشاء المفاعل والمنشآت والتخلص من الترسانة الكيميائية عقبات لا محالة، مما ينذر بعدم تحقيقها ضمن المدة الزمنية المقترحة، اوسط عام 2014.

 

القوى المتضررة من الاتفاق الروسي الاميركي تستغل مسألة الكلفة لترويج شكوكها مجددا بأن سورية ليست طرفا فاعلا في هذه الاتفاقية وستسعى لاخفاء بعض ترسانتها من المفتشين الدوليين، مستندة إلى تصريح لاول رئيس لوكالة الرقابة على نزع الاسلحة الاميركية، امروم كاتز، بالقول “لم نتوصل لأي شي استطاع الطرف الآخر اخفاءه بنجاح.”

 

 

حقيقة مخاوف عدم امتثال سورية لشروط الاتفاقية

 

 

اعطت الادارة الاميركية لنفسها الحق “بالجوء إلى العمل عسكري ان اخفقت سورية في التخلص من برناج اسلحتها الكيميائي،” وفق نصوص الاتفاق كما تزعم. لو تحققت هذه الفرضية، فان الخيارات العملية تبقى محدودة، وربما محدودة جدا، على الرغم من سعي فرنسا الحثيث لفرض البند السابع من ميثاق الهيئة الاممية على الاتفاق المغاير لذلك، جسده الرفض الروسي الفوري “للاقتراح الفرنسي لمجلس الأمن،” حتى قبل الاطلاع على نصوص ما تدعيه.

 

امكانية استخدام سورية الفعلي للاسلحة الكيميائية هو الفرضية الحقيقية التي ستستدعي تحركا دوليا مغايرا على مستوى مجلس الأمن الدولي، وهو امر مستبعد. على الرغم من الحدة العالية للخطاب السياسي الاميركي، فان الولايات المتحدة “سترد من داخل نطاق مجلس الأمن الدولي،” كما صرح بذلك وزير الخارجية جون كيري. الامر الذي يعني ان آلية التحقق من امتثال سورية واصدار قرار مواز سيبقى تحت اشراف “منظمة حظر انتشار الاسلحة الكيميائية،” بالاشتراك مع مجلس الأمن، سيما وان المنظمة ليست ذراعا مباشرا من اذرع الامم المتحدة. عند توصل المجلس التنفيذي للمنظمة لدلائل تشير إلى انتهاكات لميثاقها، “يتعين عليها اعلام الجمعية العمومية للأمم المتحدة مباشرة ومجلس الأمن الدولي بذلك.”

 

اما اخضاع سورية لاجراءات عقابية نظرا لابطائها في آليات التنفيذ فانه امر غير قابل للتحقيق، سيما وان الدولتين الكبريين خالفتا نصوص الميثاق واخفقتا في الامتثال للمدة الزمنية المحددة للتخلص من ترسانتهما.

 

عند التدقيق في التصريحات الرسمية الاميركية وتحليل مغزاها نتوصل إلى نتيجة مفادها ان تظاهر الولايات المتحدة بالصرامة والحدة والعزم على التدخل ليس هناك ما يدعمه من ادلة. على سبيل المثال، رفضت نائب الناطق الرسمي باسم الخارجية الاميركية، ماري هارف، توصيف عدم امتثال سورية بالكامل بانه “امر غير مقبول،” موضحة ان اخفاق سورية في تسليم ملف كامل ومفصل لاسلحتها الكيميائية سيندرج تحت توصيف “عدم الامتثال” للاتفاق. واستدركت بالقول انها “تأبى استخدام توصيف مقبول او غير مقبول.” يذكر في هذا الصدد استمرار حملة داخل اروقة مجلس الشيوخ لتمرير مشروع قرار بصياغات مختلفة يخول الولايات المتحدة “الحق في شن اعتداء” على سورية “اذا ارتأت الادارة ان تجاوب النظام غير مقبول” حتى في غياب تفويض من الامم المتحدة.

 

من المسلم به، استنادا إلى موازين القوى الداخلية والمعطيات الميدانية، ان ادارة الرئيس اوباما سعت جاهدة لاستغلال حادث الهجوم الكيميائي في غوطة دمشق ذريعة لتغيير ميزان القوى على الارض في سورية طمعا في توفير التفوق العسكري والسياسي “لاسرائيل” في المنطقة وبسط الهيمنة الاميركية رغم تقهقرها على المستوى العالمي.

 

يبقى ان التعامل مع نزع سلاح سورية الكيميائي سيدفع إلى الواجهة البحث الجدي بموضوع لاتزال اميركا وحلفائها يمارسون اشد انواع النفاق والتغاضي والمتعلق بقرار سابق لمجلس الامن ومساعي مزمنة لجعل منطقة الشرق الاوسط خالية من اسلحة الدمار الشامل … ولن يكون بمقدور الكيان الصهيوني الاستمرار وبتغطية اميركية فاضحة التهرب من طرح منشآتها وترسانتها من هذه الاسلحة وخاصة النووية على بساط البحث .

 

 

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية