من أزمة «العدالة والتنمية» إلى حسابات الداخل الفلسطيني
تتضيق حدود المناورة السياسية في وجه «العدالة والتنمية». الحزب المأزوم، بعد سلسلة الخسارات التي راكمها في المنطقة، وعلى صعيد الممارسات الداخلية والخارجية، بات مدفوعاً اليوم للبحث في خيارات كانت «بعيدة» عن حساباته الجيوسياسية حتى الأمس القريب.
في حالة التنافس الإقليمي بين الدول الفاعلة الأربع، تركيا وإيران والسعودية ومصر، يجد الحزب الحاكم في تركيا نفسه محكوماً بالبحث عن مخارج لمأزقه الإقليمي والداخلي. فبعد الضربة التي تلقتها العلاقات الروسية- التركية، في مقابل المشهد الإقليمي المتجه للتناغم، ولو قسراً، مع الموازين الدولية الجديدة المتحركة، يفتح «العدالة والتنمية» باباً في اتجاه توطيد العلاقات مع الكيان الصهيوني، هروباً من «عزلة سياسية» تشهدها تركيا اليوم.
حسب تأكيد الناطق الرسمي باسم «العدالة والتنمية»، عمر غليك، فإن وتيرة المفاوضات التركية لإعادة «التطبيع المشروط» مع الكيان الصهيوني تتصاعد. أما الشروط التي تضعها الحكومة التركية، فلا تزال مقتصرة على «الاعتذار الرسمي» عن حادثة سفينة «مرمرة»، وتعويض أهالي الضحايا بما يقارب 20 مليون دولار (حسب قرار الأمم المتحدة في هذا الصدد)، فضلاً عن شرط وضعه كثيرون في سياق الاستهلاك الإعلامي، وهو «فك الحصار عن قطاع غزة».
في المقابل، تشترط حكومة العدو «وقف الأنشطة الإرهابية ضد إسرائيل انطلاقاً من أراضيها»، وموافقة الحكومة التركية على تمرير أنبوب «الغاز الإسرائيلي» إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، إضافة إلى تقييد حركة قياديين تابعين إلى حركة «حماس» في تركيا.
«القطيعة» وهمية أصلاً
بعيداً عن الوهم بالتحاق «العدالة والتنمية» في ركب قضايا التحرر الوطني في المنطقة، فإن أرقام التبادل التجاري بين تركيا والعدو الصهيوني، حتى بعد حادثة «مرمرة»، تبين أن العلاقات بين الطرفين قد ارتفعت إلى حدود لم تصلها سابقاً.
حسب معطيات وزارة الصناعة والتجارة لدى حكومة العدو، فإن حجم التبادل التجاري بين تركيا والكيان، قد تضاعف منذ حادثة «مرمرة» في عام 2010 وحتى العام 2014، ليتجاوز بذلك 5.5 مليار دولار في العام 2014، حيث بلغت الصادرات الصهيونية لتركيا 2.75 مليار دولار، بنمو قدره 10% مقارنة بالعام 2013، في المقابل بلغت الواردات التركية إلى الكيان 2.68 مليار دولار، بنمو قدره 13% عن العام 2013. وحسب القنصل الصهيوني في تركيا، شاي كوهين، فإن الصادرات التركية إلى الكيان بين عامي 2009 و2014 قد نمت بمعدل 94.3%..!
وحتى في الجانب العسكري، لم تكن العلاقات معلقة بين الجانبين، ففي عام 2013، وفي ذروة «الكباش» التركي- «الإسرائيلي»، زودت حكومة العدو أنقرة بمنظومات متطورة في مجال الحرب الإلكترونية، بهدف تحسين قدرات طائرة «إيواكس» للإنذار المبكر، فيما قدرت القيمة النهائية للصفقة بحوالي 200 مليون دولار، حسب شركة «إيلتا» التابعة للصناعات الجوية لدى كيان العدو.
خلفية توطيد العلاقات
توطيد العلاقات التركية- الصهيونية لا يمكن له إلا أن يندرج تحت عنوان عريض مفاده: «الولايات المتحدة تنسحب.. فما العمل؟!». حيث الرابط المشترك بين حكومة «العدالة والتنمية» وحكومة الكيان، يتجسد في مستوى الارتباط بالمركز الأمريكي المتراجع على امتداد الأعوام الماضية.
وفي هذا السياق، تنبغي الإشارة إلى أن عودة الحديث دبلوماسياً عن «تطبيع» العلاقات بين الجانبين، قد ارتبطت على الأقل بحدثين شغلا المنطقة خلال الشهرين السابقين: إسقاط طائرة «سو 24» الروسية فوق الأراضي السورية، وما تبع ذلك من نتائج وضعت حدوداً للخروقات التركية في سورية، وإصدار قراري مجلس الأمن رقم «2253» القاضي بقطع تمويل التنظيمات الإرهابية في سورية، ورقم «2254» حول التسوية السياسية السلمية في البلاد.
تشير المعطيات السابقة إلى أن الحديث عن تطبيع العلاقات، وإن كانت لم تنته إلى نتائج ختامية بعد، ترتبط ارتباطاً وثيقاً في حالة الهلع التي تبديها القوى الأكثر ارتباطاً بالمتراجعين الدوليين، والتي باتت تفعل فعلها في الداخل، سواء في تركيا التي باتت حكومتها تنتهج سياسة الحصار والقمع المنظم للمناطق الجنوبية والجنوبية شرقية، أو لدى الكيان الغاصب الذي بات يرزح تحت وطأة المرحلة، والحراك الشعبي الفلسطيني المستمر.
هل يتم القفز من «مركب أردوغان»؟
لا يمكن للباحث في تفاصيل تراجع «العدالة والتنمية» أن يختبئ خلف إصبعه حول التبعات المتوقعة لهذا التراجع على الداخل الفلسطيني نفسه. حيث لا يمكن إنكار الارتباط الذي جرى تعميقه بين حركة «حماس» والحكومة التركية خلال الأعوام الخمس السابقة على أقل تقدير. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن الخطوات اللاحقة التي من الممكن للحركة أن تتخذها، درءاً لمخاطر جديدة على الملف الفلسطيني عموماً.
في مقابل انصياع السلطة الفلسطينية الكامل لنهج «التسويات» والمساومات، يرتفع التعويل الداخلي والخارجي على دور الفصائل الفلسطينية التي لم تقبل بكسر منطق المقاومة الشاملة في وجه المحتل. ومن هنا، سمحت العلاقات المفتوحة بين بعض تلك الفصائل والحكومة التركية بانتشار المخاوف من التبعات التي من الممكن أن تدفعها القضية الفلسطينية من جراء التنازلات المتوقع أن تقدمها حكومة «العدالة والتنمية» عند أي مستجد إقليمي، أو تغيير في الوضع الدولي القائم.
وإن كان الانعطاف الذي أبدته بعض تلك الفصائل اتجاه الحكومة التركية ناتجاً عن «الانشغال الإيراني في مفاوضات الملف النووي، والسوري في الأزمة السورية»، حسب ما جرى الترويج إعلامياً وخطابياً، فإن التساؤل المشروع اليوم، هو ما الذي يدفع بتلك الفصائل إلى الإبقاء على العلاقة مع «حليف» يعيش اليوم أقصى درجات العزلة الدولية. والأهم: ما هو البديل الموجود أمام تلك الفصائل في حال أطاحت المتغيرات الدولية بـ«حليفها» التركي؟ ولعلنا ننتهي إلى التساؤل الأخير: هل يحاول أردوغان اللعب في الوقت بدل الضائع، وتمرير «تسوية» ما قد تشمل فك الحصار عن قطاع غزة، ليؤجل تراجعه المحتوم بناء على استثمار سياسي على الساحة الفلسطينية؟