الإسلام السياسي يستقدم الاحتلال.. ويسقط!
 طلال سلمان طلال سلمان

الإسلام السياسي يستقدم الاحتلال.. ويسقط!

ثبت شرعاً، وبالدليل الحسي الناصع، كما الدم الذي يغطي مساحات هائلة من أرجاء "الوطن العربي الكبير"، أن التنظيمات الإسلامية التي خرجت من باطن الأرض العربية لا تملك الأهلية لأن تقود "أمة الإيمان" إلى مستقبلها الأفضل.. ولقد أسقطها "المجتمع" برفضه عمى التعصب الذي يحكم منطلقاتها المجافية لأهدافه، قبل أن تسقطها "السلطة" التي تبارت معها في استخدام العنف فلم تستطع أن تكتسب به ما يعوّض شرعيتها المنقوصة.. وهي التي كانت ذريعة "الإسلاميين" في الانقضاض عليها لإسقاطها بذريعة خروجها على مبادئ الدين الحنيف.

من تونس إلى مصر، ومن سوريا إلى العراق وانتهاءً بليبيا، لم تستطع هذه التنظيمات أن تكسب "شرعية" تمثيل المجتمعات التي كانت قبلتها في الماضي كدليل على رحابة صدرها واحترامها الشعارات التي تحملها، وليس لبرنامجها كمشروع سلطة تقود في اتجاه المستقبل.

أما حين تقدمت هذه التنظيمات لتكون "ولي الأمر"، فقد فضحها مشروعها الملفق والمستخرج، مشوّهاً، من بطن الماضي الملتبس والذي لا يمكن أن يؤخذ كمصدر للوعد بمستقبل أفضل، حتى و"أمير المؤمنين" الملفقة قيافته بحيث ينافق السّنة والشيعة معاً (العمامة السوداء)، ويوهم بالعصرنة (الساعة السويسرية الفخمة في يمناه)، و"الدعاة" يستخدمون وسائط التواصل الاجتماعي المستوردة من "فسطاط الكفر" لبث أخبار فتوحاتهم مرفقة بصور حية لإعدام "الكفار" و"المشركين"، لا فرق بين المسلم والمسيحي والأزيدي، كما لا فرق بين العربي عرقاً والكردي والآشوري والتركماني...
لقد سقط «الإخوان المسلمون» في مصر بالانتفاضة الشعبية التي ملأت الميادين بجماهير "المؤمنين" الرافضين للسلطة المرصعة بالشعار الديني قبل أن يتولى الجيش إطلاق رصاصة الرحمة عليهم، معززاً بهذا الرفض الإجماعي أكثر مما بسلاحه الذي لم يستخدم إلا في حالات محددة ومحدودة.
أما في تونس، فقد تصرفت قيادة «الإخوان» بذكاء تُحسد عليه (لم تتمتع بمثله رصيفتها الأعرق والأعظم خبرة في مصر)، فتواضعت ـ ولو مؤقتاً ـ في طموحاتها مستسلمة لصندوق الانتخابات، بعد تجربة في الحكم فشلت من قبل أن تكتمل.
وها هي إنجازات جيش "الخليفة أمير المؤمنين" في العراق والشام تتجاوز بضحاياها والتخريب الذي أحدثته (وسوف تحدثه بعد)، في المجتمع قبل الدولة، نتائج أي حرب أهلية كانت محتملة فجعلتها واقعاً أسود.
أما ليبيا، فتتمزق نتفاً في غمار الحرب الأهلية المعززة بقدرات استثنائية، بينها الطيران الحربي الوافد (من الإمارات في ما يُقال بتسهيلات بعض دول الجوار رداً على التدخل القطري المكشوف بذريعة الانتقام لـ«الإخوان» في مصر) مع ذلك، فـ"الإخوان" ومعهم تنظيمات إسلامية أشد تطرفاً يقاتلون ضد إعادة تجميع أشتات هذه القارة الليبية في "دولة ما"، وفي خطتهم أنهم يمكن أن يتخذوها منصة للهجوم المضاد على النظام في مصر الذي أسقط حلم الإخوان بإقامة دولتهم العتيدة.
على أنه يمكن للإسلاميين في "الوطن العربي" الادّعاء، بعد، أنهم قد أثبتوا انهم القوة السياسية الوحيدة ذات الوجود الفاعل في هذه المنطقة التي أنهكها الصراع بين "العسكر" و"الأحزاب العلمانية" التي لم تثبت جدارتها في حكم البلاد، فكان أن خلعها "الجنرالات" أو اختلسوا منها شعاراتها وحكموا باسمها زوراً وتزويراً لجيل، حيناً، ولجيلين وأكثر، أحياناً.
كذلك يمكن لهؤلاء الإسلاميين أن يدّعوا أنهم قد خلّصوا البلاد العربية من أوهام "العروبة" وسائر أنماط الفكر العلماني الذي يأخذ إلى الكفر، وأنهم قد أعادوا تثبيت الهوية الأصلية، أي الإسلامية، لهذه البلاد.
بل إن بوسع هؤلاء الإسلاميين أن يدّعوا أن "الأنظمة العلمانية" في كل من سوريا والعراق وليبيا، ومعها مصر أيضاً، قد سقطت ولا مجال لأن تعود، وهذا فوز عظيم لهم، خصوصاً أن هذه الأنظمة قد بادرت فوراً إلى الاستعانة "بفسطاط الكفر" في مواجهة "معيدي الاعتبار إلى الدين الحنيف"، وأن الحرب الجديدة التي فُتحت ستمتد طويلاً، ومن الصعب اعتبار نتائجها الراهنة نهائية. وفي أي حال، فإن هذه الأنظمة التي "أعادت الاستعمار الكافر إلى أرض الإسلام"، واستعانت بأساطيله الحربية في مواجهة القرآن الكريم ودعاة الإيمان، قد خرجت من الإسلام وعليه، كما أسقطت بنفسها ادّعاءاتها بأنها تعمل لتوحيد الأمة العربية من أجل غدها الأفضل. فها هي قد فتحت الأرض أمام "الاستعمار الكافر" ومكّنت لسيطرته عليها مجدداً وإلى أمد غير معلوم: "ربما لم ننجح تماماً، ولكننا أسقطنا الكثير من الأوهام وكشفنا حقيقة هذه الأنظمة المارقة والتي تستقوي بالأجنبي على شعبها، بذريعة مقاومتنا، نحن الذين نريد تجديد "الدعوة" واستعادة عصر الفتوحات بالإيمان...".

من يملك الأجوبة عن الأسئلة الصعبة التي ترتسم في الأفق العربي الذي يحتله الضباب وافتقاد اليقين: إلى أين من هنا؟ كيف ستكون صورة الغد، ومن هي القوى التي سوف تتصدى لتشكيلها؟! وإذا سلّمنا أن «النظام القديم» قد سقط، فمن يملك القدرة على رسم ملامح «النظام الجديد»؟!
من يملك أن يقدم تصوراً عن مستقبل سوريا؟ أو عن مستقبل العراق؟ عن مستقبل اليمن أو مستقبل ليبيا؟ هل سقطت «الدولة القديمة» في كل من هذه الأقطار ومن يملك القدرة على رسم خريطة بلاد «الهلال الخصيب» أو «المشرق العربي» في مستقبله؟! وأين «حدود» إسرائيل في الخريطة الجديدة.. وأين منها فلسطين؟!
إن الأسئلة تحتل أفق المستقبل، ولا أحد يملك الأجوبة، خصوصاً متى انتقلنا إلى أهداف هذه النجدات الأميركية بالأساس والغربية عموماً، وكيف سيكون تأثيرها على خريطة الغد للأرض العربية ودولها العتيدة؟!
ثم إن النار التي تلتهم جنبات العراق وتتمدد، من الجهة الأخرى، في اليمن، تشكل تهديداً مباشراً للاستقرار الذي وفّرته عائدات النفط الغزيرة لأقطار الجزيرة والخليج. والأحداث الأمنية التي يتوالى تفجرها في بعض أنحاء السعودية تنذر بمخاطر جدية على هذه المنطقة التي وفَّر لها ذهبها الأسود، معززاً بالقبضة الحديدية والرعاية الخارجية، حالة من الاستقرار المحروس جيداً، من الداخل كما من الخارج. فهل يمكن حماية هذا الاستقرار بينما الأرض من حولها تتفجر بالبراكين، والحروب بالشعار الإسلامي تجتاح المنطقة عموماً، وقد كان هذا الشعار المعزز بمواقع الأماكن المقدسة بين أسباب الحماية المعنوية للنظام القائم فيها، والذي تتبدى فيه وعليه بعض مظاهر صراع الأجيال؟
في ضوء هذه الوقائع، يمكن فهم هذا الإشغال المنهجي للنظام الجديد في مصر. فهذه الدولة المركزية القوية بتاريخها، كانت دائماً القوة الوحيدة المؤهلة لحفظ التوازن وتوفير الحماية، لما جاورها من أقطار، خصوصاً، وحتى البعيد عنها، بفعل قوة التأثير المعنوي التي تملكها.
لقد تعددت الجبهات، وتنوعت أشكال المواجهات، وتحول الشعار الإسلامي من أداة جمع، ولو معنوياً، إلى مصدر للانقسام إلى حد الاحتراب.
كذلك، فإن «العروبة» قد أصابها ضرر عظيم نتيجة تستر أنظمة القمع، وهي بمجملها عسكرية المنشأ والممارسة، بشعاراتها التي كانت تشكل وعداً بمستقبل عربي أفضل، إذا توفر لها من يحوّلها من حلم أو أمل إلى خطة عمل أو برنامج سياسي قابل للتنفيذ.
إن الأمة في حال من الضياع لم يسبق لها مثيل: لا قائد ولا قيادة، ولا حزب مؤهلاً ببرنامجه لكي يقدم نفسه البديل من الأنظمة الفاشلة التي حوّلتها الممارسة إلى ديكتاتوريات دموية تهتم بدوام سلطتها ولو على حساب الوطن ودولته والأمة وأحلامها في التوحد والتحرر واللحاق بالعصر.
وليس مؤهلاً للنجاح وتأكيد الانتصار أن يدّعي الإسلام السياسي أنه قد أسقط العروبة، أو أنه قد فتح أبواب المنطقة لعودة «الاستعمار» جديداً، من فوق، أي عبر طيرانه الحربي، لإجهاض أحلام الاستقلال وتعزيز الكيان الإسرائيلي وقدرته على الهيمنة على هذه الأرض العربية جميعاً تحت المظلة الأميركية.
على أن الأمور بخواتيمها، وما زلنا في خضم الصراع، وأمام هذه المنطقة بعدُ سنوات طويلة قبل الوصول إلى شاطئ الأمان.. ولو بعيداً عن أحلامها، أو عبر التضحية بهذه الأحلام!

 

المصدر: السفير