الفاشية الإعلامية..
في محاولة للعودة إلى عهدي العبودية والقنانة، تعمل «الفاشية الإعلامية» على إنتاج ونشر برامج، كمحاولة نفسية واجتماعية لتدمير الإنسان والمجتمع. أنتجت هذه البرامج في الولايات المتحدة في تسعينات القرن الماضي للسيطرة والتحكم بالناس.
في محاولة للعودة إلى عهدي العبودية والقنانة، تعمل «الفاشية الإعلامية» على إنتاج ونشر برامج، كمحاولة نفسية واجتماعية لتدمير الإنسان والمجتمع. أنتجت هذه البرامج في الولايات المتحدة في تسعينات القرن الماضي للسيطرة والتحكم بالناس.
موت الأميرة ديانا، اغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي، أحداثٌ أخفت خلفها نماذج لنظريات مؤامرة شهيرة واسعة الانتشار داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذا النوع من النظريات، يتدرج من البساطة إلى التعقيد، ولا تتوقف عن الانبعاث على مر السنوات، كان آخرها الاعتقاد بأن مجموعة من الديمقراطيين والنخب تحاول تقويض رئاسة دونالد ترامب. في حين يعتقد البعض الآخر أن مركز أبحاث شهير في ولاية ألاسكا هو مختبر للتحكم في العقول.
في مجال علم النفس، يقال بأن المرء وحينما يجد نفسه في موقفٍ ضاغط أو خطر، يهدد حياته، يقوم بأحد شكلين من أشكال الاستجابات: إما الكرّ أو الفرّ، أو ما يعرف باللغة الإنكليزية بـ (Fight Or Flight Response).
أقل من شهر على بداية العام الجديد ترافق معه: حريق أدى إلى مقتل نصف مليار حيوان في أستراليا، وخسائر بشرية ونزوح، بالإضافة إلى عواقب كبيرة على النظام البيئي، الغذاء، والمياه، وانتشار الأمراض، وتفاقم مشكلة الاحتباس الحراري. مما ترافق أيضاً بمحاولة توسيع رقعة الحرب والتوتر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وضعت العالم أجمعه بحالة من الترقب والخوف. وآخرها: انتشار فيروس جديد في الصين مع عدم وجود معلومات واضحة حول متى، وما إذا كان يمكن معالجته؟ بينما تُبذل الصين جهوداً كبيرة وجدية، من بينها إغلاق مدن بأكملها، توقف النقل العام والخاص، وإلغاء احتفالات العام الجديد. في أقل من شهر استطاع هذا العام أن يلفت انتباه العالم، أننا نسير نحو الهاوية بسرعة، وإلى أننا بعد أعوام قليلة من عمر البشرية «استطعنا» (كنظام اجتماعي اقتصادي) تدمير مكان عيشنا.
من الغريب، لا بل من الصّادم، أن يقول أحدٌ ما اليوم: «نحن محظوظون كوننا نعيش في هذه المرحلة التاريخية». فكيف نكون كذلك في ظل كل المعاناة والدمار والقلق على الحاضر والمستقبل وفي ظل الموت والانهيار الاقتصادي والسياسي والحروب والبؤس الروحي وتدهور نظام الحياة على الأرض بحيث نعيش تهديداً لوجود الحياة نفسها؟ وما هو مبرر هذا القول سياسياً؟ والأهم، ما هو مبرره التاريخي في سياق تاريخ البشرية كلّه؟ وهل الصراع على المستوى العلمي بمضمونه الفلسفي يعطينا دلالات بهذا الاتجاه؟ وما المعاني التي يمدّنا بها هذا القول على المستوى الذاتي- الجماعي، مُنتِجة الانتماء للإنسانية ولأمميّتنا وارتباطنا العميق باللحظة التاريخية ضد العدمية وضحالة القيم التي سادت طوال عقود سابقة، هذه القيم التي انكشف بؤسها ووهمها ورجعيتها وعدوانيتها الضمنية؟ ونقول: إن هذا القول «الصادم» يستند إلى نقيضه بالتحديد، أي عُمق الأزمة بحد ذاتها.
يحمل التطور أو التغير السياسي في كل حقبة تغيّراً في النظم الاجتماعية، وتغيّراً في كيفية طرح ومعالجة المشاكل. والنظام الرأسمالي كنظام تاريخي محدد ليس اسثناء. أهم هذه المشاكل هو الاغتراب عن المجتمع والذات والطبيعة. والذي رافقه العديد من الاضطرابات النفسية والاجتماعية تجسدت أكثرها في الهستيريا والاكتآب وارتفاع القلق، أو في ما يسمى بالتوحّد وغيرها. وكان لا بدّ من تفسير ما لهذه الاضطرابات. أولاً، لأن كل حقبة تحمل معانيها بسب تغيّر النشاط. وثانياً، لأنه لا يمكن التمجيد والتبرير لحقبة معينة أدخلت تطوراً في المجتمع من دون إيجاد مبرر يتماشى مع بروز هذه الاضطرابات.
0المشهد اليوم مليء بمظاهر الفوضى والجنون، وخلف السطح يكمن قانون الحركة المحدد لهذه «الفوضى». وإذا كان الخراب العالمي والحرب المتنقلة و«الفوضى» في الطبيعة، تعبيراً صارخاً عن قانونية وأزمة الرأسمالية (الفوضى الخلاقة)، فإن نوعاً آخر من الفوضى يظهر في هيئة البشر أنفسهم، في ملامحهم وأجسادهم وعواطفهم، وفي انفجارهم وهدوئهم، وفي فوضى السلوك. هذا النوع من الفوضى الذي يصدم البعض ويستغربُه، ويعلن بأخلاقوية وإنسانوية: «الإنسانية ماتت والعقل مات أيضاً»، تكمن خلفه أيضاً قانونية الرأسمالية وأزمتها. فكما يقول «بولونيوس» في مسرحية هاملت لشكسبير: «هناك طريقةٌ لجنونه»، ويقول عالمٌ في الإنسان: «حتى الجنون ليس بكامله بلا معنى»، و«خلف لوحة الفوضى الفاقدة للمعنى هناك معنى كامن وضمني».
في الأعوام 1926-1927 كتب السوفييتي فيغوتسكي (مطوّر علم النفس على أسس الماركسية) نصاً طويلاً بعنوان «المعنى التاريخي للأزمة في علم النفس».
في محاولة تناول الظاهرة الفنية والأدبية (إنتاجا وتذوقاً) في المرحلة الراهنة واجهتنا أزمة، ومحاولة حلّها أسّست في ذات الوقت للردّ على اتهام نرى ملامحه تتشكّل بشكل مبطّن. الأزمة هي: بحث مسألة الظاهرة الفنية في بعدها النّفسي المباشر، والتشديد على دور الدينامية النفسية في المرحلة التاريخية الراهنة لتفسير التيار الفني- الأدبي.
يقول فكتور فرانكل: إن «لكل عصر عصابه الجماعي الخاص، لذا كان كل عصر بحاجة إلى علاجه النفسي الخاص لمواجهة عصابه. وفي ذلك يمكن وصف الفراغ الوجودي على أنه العصاب الجماعي المميز لهذا العصر». (من كتاب الإنسان يبحث عن معنى، مقدمة في العلاج بالمعنى الصادر عن دار القلم عام 1982).