أزمة العلوم الاجتماعية المعاصرة كأزمة في الرأسمالية
محمد المعوش محمد المعوش

أزمة العلوم الاجتماعية المعاصرة كأزمة في الرأسمالية

في الأعوام 1926-1927 كتب السوفييتي فيغوتسكي (مطوّر علم النفس على أسس الماركسية) نصاً طويلاً بعنوان «المعنى التاريخي للأزمة في علم النفس».

جوهر الطرح، يقول إن علم النفس كما باقي العلوم هو بالنهاية تعبير عن نظرة معينة إلى العالم، ولكنه أكثر تعقيداً في التعبير عن تلك النظرة، وذلك لوجود العامل الذاتي نفسه ضمن موضوع الدراسة (الدراس هو الإنسان والمدروس هو الإنسان أيضاً). ويؤكد، مستعيراً من فريديرك إنجلز، أن مجمل الصّراع بين التيارات المختلفة السائدة وقتها في علم النفس ليس إلا تعبيراً معقداً عن الثنائية القطبية: مثالية- مادية في مجال الصراع الفلسفي تاريخياً. الذي هو بدوره تعبير عن الصراع الطبقي بين خطّين طبقيين: تقدمي- تغييري أو رجعي- محافظ (الذي هو اليوم تدميري أكثر منه محافظ). بل أكثر من ذلك، إن علم النفس يعيش حالة من الإنكار والنفي تجاه هذه الأزمة.
ويؤكد فيغوتسكي: أن البشرية لن تتقن وتفهم حقيقة العقل (الوعي) والإنسان قبل أن تتقن وتفهم حقيقة المجتمع. لهذا يكمل: إن علم النفس لم يكن له أن يظهر ولن يظهر كعلم عام في المجتمع القديم (يقصد الرأسمالي)، بل إن ولادة هكذا علم ممكنة فقط في المجتمع الجديد وحده (الاشتراكي). آخذاً بعين الاعتبار أن فيغوتسكي كان يشهد ولادة هذا المجتمع الجديد في الاتحاد السوفييتي وقتها. ويحدد موقع هذه المهمة (اتقان فهم الوعي والإنسان) في عملية التغيير التاريخي. بالتالي، إن الانتقال من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية تحتم علينا الإجابة عن سؤال فهمنا لأنفسنا وإخضاعها لذاتنا، ووضع هذا السؤال على جدول الأعمال. ويعتبر فيغوتسكي (معيداً موقف العالم السلوكي بافلوف) أن علم النفس بهذا المعنى سيكون آخر علم يدرس الإنسان في مرحلة ما قبل التاريخ (في إشارة إلى مقولة أنجلز إن البشرية يبدأ تاريخها الفعلي عند إزالة المجتمع الطبقي، وما نحن إلا في مرحلة ما قبل التاريخ)، فالمجتمع الجديد سيلد الإنسان الجديد.

بعد حوالي 100 عام، أين نحن «الأزمة»؟

أشارت ورقة لمانوليس دافيرموس (جامعة كريت، اليونان) مؤخراً أن الأزمة في علم النفس لا تزال قائمة، بل تزداد حدة، ومن أهم مظاهرها التكاثر الكبير للمدارس والتطبيقات، ويستمر التجاهل والإنكار الكبيرين تجاهها، مشيراً إلى عدة كتاب أعادوا نقاش الأزمة (فاسيليف-1996، جوورتزن-2008، زيتون، جيليبسي وكورنيش-2009). ونضيف بأنه على الرغم من أن فيغوتسكي تم الاعتراف العالمي بإنتاجه (لم يحصل هذا الاعتراف إلا مؤخراً في النصف الثاني من القرن الماضي)، نظرية وتطبيقاً، إلا أن الاعتراف في غالبه حصل منتقصاً منه العمق الثوري الذي تضمنه إنتاج فيغوتسكي. أما يواكيم كوينتينو- أيرس (معهد فيغوتسكي، ليشبونة- البرتغال) في نصه «الفراغ في علم النفس والممارسة» (2016) فيعتبر أن علم النفس الحالي لا زال يعيش الأزمة، وبحدة أكبر أيضاً، حيث إنه لا يمكن أن نجدَ حتى اتفاقاً حول موضوع هذا العلم، حتى ضمن برنامج الجامعة الواحدة، وبأنه على الرغم من رواج هذا العلم بين الجيل الجديد إلا أن القليلين منهم يتابعون ممارستهم فيه، ويقول متعجباً إن أغلب البرامج الدراسية في علم النفس اليوم تدفع الشباب نحو التأمل، والرّيكي (العلاج بطاقة اللمس). بينما تشير «ماريا غجورغجيوسكايا» (جامعة روما)، و«أنّا توميسيك» (لندن كوليج) (2019) في نصّهما (أزمة علم النفس الاجتماعي في ظل النيوليبرالية) إلى أن العلوم الاجتماعية وعلم النفس شهد اجتياحاً لمفاهيم المنافسة الحادة الأنانية بين الباحثين، ومفاهيم السوق والربح وسياسة العولمة السائدة، واحتكاماً أكثر لمنطق كمية المنشورات لا المضون، والتقليل من أهمية الكتاب على حساب الأوراق البحثية، التي يسود فيها المنطق الكمي وتضخم الجانب التجريبي على حساب البحوث المعمقة والنظرية، مما يزيد الضغط النفسي على الباحثين (طال البحث مقابلات مع باحثين في المجال)، وانخفاض وقت التفكير والتعمق في المسائل خصوصاً بعد تراجع التمويل الكبير بعد الأزمة المالية في الـ 2008. هكذا شكلت النيوليبرالية علاقات ومعايير في الأكاديمية في خدمة علاقات السيطرة السياسية والاجتماعية حسب الكاتبتين. 

اشتداد تناقضات الرأسمالية والأزمة

إضافة إلى ما سبق، كانت عدة مقالات في قاسيون (مثال:آخر صيحات الرأسمالية، إلغاء الواقع والإنسان) أشارت إلى أن الأزمة العميقة في الرأسمالية عززت الجانب المثالي في علم النفس، فالحقائق التي لم يعد من الممكن تجاهلها يحاول العلم السائد أن يهرب منها من خلال نفيها، وهنا هو ينفي الإنسان كموضوع لهذه الظواهر. فالطروحات التي تنفي الوعي وتحوله إلى وهم وسلب الإرادة الحرة من الأفراد، هي تعبير عن نظرة فلسفية عدمية و«لا أدرية» في جوهرها. وهكذا نرى أن قانون فعل الاتجاهات الاجتماعية والإيديولوجية التاريخية في العلم (كما عبر فيغوتسكي، وأنجلز أيضاً) يظهر من خلال هذا الاتجاه المثالي ودفعه إلى السطح على إثر اشتداد أزمة الرأسمالية. هكذا ظهر المضمون الفلسفي المتخفي تحت ستار الأفكار العلمية، مشيراً إلى أي الطبقات وأي المصالح يخدم، كما أشار فيغوتسكي.

السؤال إياه لا زال على جدول الأعمال

في ظل وصول «المجتمع القديم» إلى حدوده التاريخية، وبعد توسع الاستغلال ليطال البنية النفسية ويشركها بشكل معقد في الصراع الاجتماعي طوال العقود الماضية، وهو ما أنضج التناقض بين الفرد وعلاقات رأس المال، وخصوصاً مسألة الإغتراب. على العلم الثوري أن يتصدى للعلم «المأزوم» العدمي ومن هم خَلْفَه، عبر جدّية استكمال إتقان وفهم الوعي وتحولاته، ونقل هذا الإتقان والتنظيم الجديد إلى متناول وعي الأفراد وفهمهم لأنفسهم، وإطلاق طاقات المجتمع الجديد نحو مملكة الحرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
934
آخر تعديل على الإثنين, 07 تشرين1/أكتوير 2019 14:13