عن موت «علم النفس الإيجابي» ومواجهة الواقع
يحمل التطور أو التغير السياسي في كل حقبة تغيّراً في النظم الاجتماعية، وتغيّراً في كيفية طرح ومعالجة المشاكل. والنظام الرأسمالي كنظام تاريخي محدد ليس اسثناء. أهم هذه المشاكل هو الاغتراب عن المجتمع والذات والطبيعة. والذي رافقه العديد من الاضطرابات النفسية والاجتماعية تجسدت أكثرها في الهستيريا والاكتآب وارتفاع القلق، أو في ما يسمى بالتوحّد وغيرها. وكان لا بدّ من تفسير ما لهذه الاضطرابات. أولاً، لأن كل حقبة تحمل معانيها بسب تغيّر النشاط. وثانياً، لأنه لا يمكن التمجيد والتبرير لحقبة معينة أدخلت تطوراً في المجتمع من دون إيجاد مبرر يتماشى مع بروز هذه الاضطرابات.
لقد انتقل علم النفس من البحث المعزول في تفسير النفس والإدراك إلى القول المادي (بمختلف مستويات جذريته) أن التغيّر في نشاط الأفراد يؤدي إلى تغيّر في اضطراباتهم، وبأن التغيّر في كيفية فهم الحياة أو التصدي للمشاكل اليومية قد يقلّص أو يؤدي إلى زوال الاضطرابات النفسية. وقد ترافق مع كل تيار في علم النفس إسقاطات على المرافق الحياتية في أغلبها، في التعليم أو العلاجات النفسية أو العمل.. إلخ. ومنذ بروز علم النفس السوفييتي ظهر تفسير لعلم النفس ينفي السائد، أو ينفي هذه التيارات والفصل الحاصل بينها. فكان لا بدَّ من إنتاج نظرية جديدة (مضادة) في علم النفس للتصدي لعلم النفس السوفييتي، فكان علم النفس الإيجابي.
وهو في مقارنة مع عمر علم النفس، ومع الانشقاقات التي حصلت فيه يُعتبر جديداً نسبياً. وبالعامّ يدعو علم النفس الإيجابي إلى النظر بإيجابية إلى الأحداث أو المعاني. فبدلاً من التطلّع إلى حل سبب المشكلة فإنه يدعو إلى محاولة رؤية ما هو إيجابي بها للتعاطي معها (وتقبلها). أو مثلاً، في نظرية «التحديد الذاتي» التي تقول بالفرق بين تعاطي الأشخاص مع أي قرار تبعاً للمحفزات الداخلية الذاتية والخارجية (الاجتماعية). ومن هذا تدعو النظرية إلى أهمية تقييم الممكن في الحالة الموجودة وما تحمله من إمكانيات. بمعنى: أنه لا يجب على من هو غير قادر مادياً مثلاً على تعلم أي شيء (الموسيقى أو دراسات علية أو إلخ) على الطموح إلى ذلك، بل يجب عليه الطموح إلى ما يستطيع القيام به حسب محدودية قدراته المادية. وهذا يسري على كافة الظروف والحالات. بمعنى عام: الطموح مرتبط بالقدرة المتاحة، والظرف الموجود، وإمكاناته يتم عزلها عن الطبيعة الموضوعية للمجتمع وقوانينها، فيتم اعتبار «العوامل الخارجية» كمطلقات غير قابلة للتغيير، بل يتم قبولها كما هي. كالدعوة إلى التأمل أو الروحانية في التعامل مع المشاكل أو الاضطرابات، التي تكبت الاضطراب والدفع لتناسي وتجاهل القلق الناتج عنه، بدل تقبل وجوده والتعامل معه. وحتى النظرية الوجودية حول معنى الحياة، فإنها تطرح خلق المعنى الوجودي من الحدث في ثباته، وليس خلق المعنى من خلال تغير الحدث عنه، أي تجاهل التعامل مع الحدث على أساس حركته ونفي العملية المنتجة الإبداعية في تحويل الواقع.
هل وصلنا إلى نهاية علم النفس الإيجابي
أحد أسباب فشل علم النفس السائد أنه أراد التأكيد على أن الحياة في النظام الرأسمالي ممكنة، لذا كان لا بدَّ له من القول إن المشاكل نابعة من الأفراد أنفسهم، وإن الحياة جميلة ولكن نحن من ننظر إليها بسلبية. بغضِّ النظر عن الفكرة بحد ذاتها وتقييمنا لمدى جمال الحياة، ولكن النظر إلى المنحى الإيجابي للمشاكل الحياتية، لم يعد ممكناً، لتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وللموت البطيء الذي نعيشه، إما من الضغط المعنوي والجسدي (السرطان كمرض هذه المرحلة) الهائل أو الفقر أو التلوث والكوارث الطبيعية، وأبرزها مؤخراً الاحتباس الحراري.
يبدأ عميد كلية علم النفس في جامعة شمال- شرق الصين محاضرته عن علم النفس الإيجابي بالقول إنه «يتوقع موت علم النفس الإيجابي قريباً، لأنه علم عام جداً لا يدخل في الحالات الفردية. وإن علم النفس ركَّز كثيراً على دراسة الجانب السيء في الإنسان، إما في الأمراض أو في الاضطرابات، وعلينا أن نركز أكثر على الجانب الإيجابي في الإنسان». وهو أحد الباحثين الرئيسين في علم النفس الإيجابي في الصين أقلّه. ويعتبر أنه لدراسة الإيجابي عند الإنسان يجب أن ندرس ما الذي يساعد الإنسان على التطور. ونضيف: إن النقطة الأولى في العلاج النفسي الاعتراف بالمشكلة، وفي هذه الحالة الاعتراف بأننا مغرّبون عن واقعنا، ومن ثم يليه الاعتراف بما نتج عن هذا الاغتراب، وما سببه، لكي نستطيع التعامل معه وحلّه. والحل يختلف، ففي علم النفس السائد يكون إما بتغيير السلوك كما في علم النفس السلوكي أو في النظرة الإيجابية كما في علم النفس الإيجابي. ولكن حتى في الحالات الأقل تطرفاً، أي حتى لو لم نكن نتحدث عن حالات الحرب أو الفقر أو الجوع وكل ما هو مهدد بشكل مباشر للحياة، فلن يفيد تغيير السلوك لأنه يقوم بكبت علّته وتحويلها إلى سلوك آخر دون حلّها. أما النظر إلى المنحى الإيجابي للمشكلة فهو ينفي رؤية السلبي فيها وينفي بالتالي إمكانية العلاج. وفي أية حالة كانت، يكون دائماً الاعتراف بالمشكلة وتقبلها في حركتها وتعقيد عواملها الداخلية والخارجية هو الطريق نحو حلّها. وهذا يعني أنه ليس ما مات هو علم النفس الإيجابي فقط، بل ما يموت أيضاً هو علم النفس السائد بالعام، والرهان اليوم هو على علم النفس البديل، الذي بدأ مع علم النفس السوفييتي وهو مستمر بالتطور من صلب الحياة ومشاكلها العملية التاريخية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 936