أسباب تجعلنا نقدّر المرحلة التاريخية التي نحن فيها عالياً!
من الغريب، لا بل من الصّادم، أن يقول أحدٌ ما اليوم: «نحن محظوظون كوننا نعيش في هذه المرحلة التاريخية». فكيف نكون كذلك في ظل كل المعاناة والدمار والقلق على الحاضر والمستقبل وفي ظل الموت والانهيار الاقتصادي والسياسي والحروب والبؤس الروحي وتدهور نظام الحياة على الأرض بحيث نعيش تهديداً لوجود الحياة نفسها؟ وما هو مبرر هذا القول سياسياً؟ والأهم، ما هو مبرره التاريخي في سياق تاريخ البشرية كلّه؟ وهل الصراع على المستوى العلمي بمضمونه الفلسفي يعطينا دلالات بهذا الاتجاه؟ وما المعاني التي يمدّنا بها هذا القول على المستوى الذاتي- الجماعي، مُنتِجة الانتماء للإنسانية ولأمميّتنا وارتباطنا العميق باللحظة التاريخية ضد العدمية وضحالة القيم التي سادت طوال عقود سابقة، هذه القيم التي انكشف بؤسها ووهمها ورجعيتها وعدوانيتها الضمنية؟ ونقول: إن هذا القول «الصادم» يستند إلى نقيضه بالتحديد، أي عُمق الأزمة بحد ذاتها.
الاستناد إلى عُمق الأزمة وإلى موازين القوى
من جهة هو نابع من احتمالات تجاوز الأزمة، انطلاقاً من الصراع ضد النظام الرأسمالي، ومن حجم القوى التي تخوض هذا الصراع عبر التوازن الذي وصلت إليه موازين القوى عالمياً بعد تراكم عمره قرن من الزمن للقوة المعادية للإمبريالية وللموروث السياسي والاقتصادي والعسكري الداعم لميزان القوى هذا. أي إن القول نابع بالتحديد من المعنى التاريخي لتخطي النظام الرأسمالي نفسه في صيغة أشمل من تلك التي بدأت في مطلع القرن الماضي. هذا المعنى التاريخي لتخطي الرأسمالية يعيد المقولات كلها حول بداية التاريخ البشري، أي إننا سنتخطى مرحلة ما قبل التاريخ حسب تعبير إنجلز، من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية. هذا الانتقال كان يتم تراكمياً وشيئاً فشيئاً، مؤسساً للحظة القطع التاريخية التي تحكم التوتر التاريخي خلال القرن الماضي كله. ولكن تسارع تطور الرأسمالية على كل المستويات خلال العقود الماضية رفع من حدة التناقضات، وبالتالي وسَّع قاعدة لحظة القطع التاريخية تلك. فليس كوننا نعيش على مفترق طرق إلّا تكثيف لضرورة لحظة القطع.
الاستناد إلى التناقض على مستوى العلوم والتكنولوجيا
يعتبر إنجلز أنَّ العلم لا يمكن أن يكون إلا مادياً، وبأن الفكر عامة والعلم خاصة يتحرك بين قطبين، المثالية والمادية. هذه الثنائية مادية- مثالية حاضرة في الفكر العلمي وتياراته السائدة بشكل مشترك دون انفصال مطلق بين الوجهتين، وهذه الثنائية نابعة من تناقضات المجتمع الطبقي نفسه التي تكبح عدم القطع مع المثالية. وإذا كانت العلوم التطبيقية المباشرة تنحكم أكثر بالمادية كونها لا تتعامل مع مواد اجتماعية خالصة بطبيعتها، دون أن ننفي حضور المثالية فيها بشكل غير مباشر. فإن ثقل المثالية في العلوم الإنسانية أكبر كونها مجبرة على أن تعلن صراحة عن رؤية إلى العالم، هذه الرؤية التي لا يمكن لها اليوم أن تكون مادية تاريخية بسبب من رجعية الرأسمالية نفسها. وخصوصاً أن هذا الاتجاه المثالي تعزز خلال العقود الماضية على وقع تعاظم أزمة الرأسمالية وتناقضاتها، وهو ما رفع من مستوى التذريرية والتشظي والعدمية واللاأدرية والتجريبية في هذه العلوم. وهذا ما يشكل أزمة العلوم في المرحلة الراهنة. ولكنَّ الأزمة في العلوم تعاظمت حدتها أيضاً بسبب تلاقي اتجاهين متعارضين، الأول: هو تطور الرأسمالية نفسه وشروطه الإنتاجية والمادية التكنولوجية، وما تفرضه من وقائع تجريبية وحقائق لا يمكن تخطِّيها. أما الثاني: هو الأزمة الناتجة عن الثنائية التي تحكم الفكر العلمي، ونتائج الأزمة على مستوى المنهج والرؤية عن العالم. وكما يقول فيغوتسكي: إن الضغط الذي يولّده تراكم الحقائق وضرورات المهام التطبيقية للعلوم يفرض علينا أن نختار طريقاً محدداً، فأي تقدم غير ممكن اليوم دون تجاوز الثنائية التي تشكل أرضية الأزمة في التيارات العلمية السائدة كلها.
بين علم النفس والذكاء الاصطناعي!
يعتبر فيغوتسكي أن علم النفس يعيش أزمة منهجية تاريخية، ناتجة عن الثنائية مادية- مثالية التي تحكم التيارات العلمية السائدة. ويقول إن قيام علم نفس عام يدرس الإنسان وسلوكه وآليات انعكاس الواقع في الوعي غير ممكن في «المجتمع القديم» (أي الرأسمالي، آخذاً بعين الاعتبار أن فيغوتسكي كان يشهد ولادة المجتمع الجديد الاشتراكي وقتها) لأن «إتقان وفهم النفس الإنسانية لا يمكن أن يتم دون إتقان آليات المجتمع نفسه». وهذا الإتقان لقوانين المجتمع يعني الإقرار بقوانين المادية التاريخية والصراع الطبقي وضرورة الانتقال إلى الاشتراكية، وهذا ما لن يتبناه العلم السائد.
ولكن تطور الذكاء الصناعي عمَّق التناقض الذي يعيشه علم النفس، وفرض تجريبياً ضرورة تجاوز الأزمة. فإن استناد الذكاء الصناعي على مواضيع ومنهجيات علم النفس نقل إليه الأزمة التي يعيشها علم النفس ضمن شروط ميدان الذكاء الصناعي. فهذا الميدان تطبيقي بامتياز، وخصوصاً تسارعه المحكوم بآليات الإنتاج الرأسمالية المتوسعة وتطور التكنولوجيا، ما عمَّق من الأزمة نتيجة تناقض المادية- المثالية، فالاتجاه المثالي يكبح تطوره، وهو اليوم يعاني من عدم قدرته على إنتاج قدرات التجريد والتعميم وإنتاج المعاني التي هي أساس الفكر عامة، بسبب استناده إلى اتجاه الفكر التجريبي الحسي المعتمد على الحواس مباشرة (كتيار مثالي في المعرفة). عزز ذلك أن الذكاء الصناعي غير مجبر على إعلان نظرة فلسفية صريحة عن العالم كما علم النفس (فيغوتسكي) ما أعطى الخلفية الفلسفية المثالية قدرتها على التخفي في هكذا ميدان.
ولأن الجانب التطبيقي في أي علم هو الدافع للجانب المادي فيه (كما يشدد فيغوتسكي) فإن الذكاء الاصطناعي وضع أزمة علم النفس أمام لحظة تاريخية حاسمة لا يمكن تجاهلها. أمام لحظة قطع.
المعنى الفلسفي للأزمة وحلّها
عبر الذكاء الاصطناعي كتعبير تطبيقي لعلم النفس خاصة، ولنظرية المعرفة الفلسفية عامة، كنظرة محددة عن العالم، يتظّهر السؤال الفلسفي الذي طُرح على البشرية طوال تاريخها: كيف تنتج المعرفة والوعي؟
وإذا قلنا إن توظيف النظرة المادية التاريخية لعلم النفس الماركسي (السوفييتي تحديداً) في مجال الذكاء الاصطناعي، فإنَّ حلَّ الأزمة المنهجية ممكن، والإجابة عن السؤال الفلسفي الأساس للبشرية سيتم برهانهاً عملياً.
إنَّ تطور التكنولوجيا والإنتاج الموسع والمتسارع وتحديداً في مجال الذكاء الاصطناعي يفرض لحظة القطع المعرفية، ما يعني قطعاً فلسفياً تاريخياً وتجاوزاً للصراع الفلسفي مادية مثالية من بوابة العلم تحديداً. وهذا الحل من مستوى علم النفس عبر الذكاء الصناعي يعني تملكنا لقوانين ذواتنا علمياً، أي تملُّكنا لحريتنا عبر وعينا لضرورة قوانين ذواتنا ووعينا (حسب فيغوتسكي).
نعم، نحن محظوظون أننا نشهد هذه المرحلة التاريخية النوعية من تاريخ البشرية والإنسانية. ونكون محظوظين فقط إذا طوَّرنا هذا الممكن إلى واقع عبر خوض الصراع، والانتصار فيه للإنسانية، إنسانيتنا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 946