مروى صعب مروى صعب

نوع العصاب الذي نعيش، وصراع المعاني

يقول فكتور فرانكل: إن «لكل عصر عصابه الجماعي الخاص، لذا كان كل عصر بحاجة إلى علاجه النفسي الخاص لمواجهة عصابه. وفي ذلك يمكن وصف الفراغ الوجودي على أنه العصاب الجماعي المميز لهذا العصر». (من كتاب الإنسان يبحث عن معنى، مقدمة في العلاج بالمعنى الصادر عن دار القلم عام 1982).

وفكتور فرانكل: هو عالم نفس وجودي كان سجيناً في المعتقلات النازية وقد شرح نظريته أو علاجه في علم النفس من خلال خبرته في المعتقل.
ويستند فرانكل إلى المعنى في علاجه، حيث يعتبر أن معنى الحياة هو الهدف الذي يلجأ إليه الإنسان. فلا شك أن العلاج بالمعنى: هو أحد أهم العلاجات النفسية، لكون المعنى بالنسبة لأي فرد هو في تغيّر دائم بحسب الظروف. ولكن ما سنأخذه من أسلوب علاج فرانكل ليس العلاج بحد ذاته، إنما تفاصيل خبرته ومطابقتها إلى حدٍّ كبير بما يحدث الآن في العالم.

المعنى، تغييره، وتأثيره على الأفراد

يعتبر فرانكل: أن هدف الإنسان هو الوصول إلى معنى للحياة التي بالطبع تختلف بين فرد وآخر، وتختلف من ظرف لآخر. فالإنسان قبل المعتقل يحمل هدفاً ما. وبالتالي، معنى آخر لحياته عن داخل المعتقل وبعده. كالإنسان الذي في أي ظرفٍ سابق كان يحمل هدفاً ومعنى لحياته عن ظرف جديد مهما كانت بساطته. ومن خلال تجربته يقول: إن أصعب مهمة في المعتقل كانت عدم فقدان المعنى من الحياة، والتي كانت ترتبط بأمل الخروج من المعتقل، فهذا الأمل كان إمّا من خلال التشبث بفكرة لقاء أو العيش لأجل أحد خارج المعتقل أو من خلال استكمال عمل ما. وهذا إلى حدٍّ كبير يشبه من يعيش في حالة اقتصادية صعبة أو في حالة حرب، فالتشبث بالحاضر يكون من أجل الأمل بمستقبل أفضل. ولكن حتى لو أنّ فرانكل يعترف بتأثير العامل الاجتماعي أو الخارجي على الأفراد، إلا أن حلوله فردية، فبالنسبة له لم تكن نهاية الحرب هي إحدى المهام أو الأهداف التي تؤدي إلى استمرار الحياة أو الخروج من المعتقل، بل إن التشبث بفكرة خاصة في حياة الفرد. بينما في الواقع، فإن نهاية الحرب هي الحل الأشمل من التطلّع للخروج الفردي من المعتقل. وهذا أيضاً ينسحب على موقفه بعدم ربطه الوضع السياسي بمصير أو أهداف الأفراد. وبالتالي معاني حياتهم، فإذا أخذنا حالة المعتقلات النازية، لم يكن الحل هو الخروج من المعتقل والاستمرار تحت حكم نازي سيقوض عمل وحرية الأفراد، بل في انهيار أو خسارة النازية والإتيان بنظام جديد سيسمح لهم بالحرية والعمل. مثلما نعيش اليوم في انهيار اقتصادي وحروب، الحل الفردي الذي وجده البعض لم ينهِ الحرب، ولم يعطِ الفرصة الحقيقية بالأمل، بل إن نهاية الحرب والخروج من الأزمة الاقتصادية هو الذي سيؤدي إلى الحرية أو يعطي الأمل بالمستقبل. وهذا ليس بعمل فردي كونه مرتبطاً بتغيير أسس اجتماعية واقتصادية كلية. 

ومن أبرز ما جاء في الكتاب تغير معنى العلاقات عند المعتقلين. مثلاً كانت هناك زمرة من المعتقلين الأعلى رتبة عند النازيين وهم من يقومون بكافة أشكال التعذيب وبكافة المهام في المعتقل، وللتشبيه فهؤلاء هم عملاء «جيش لحد» أثناء الاحتلال «الإسرائيلي» لجنوب لبنان. يقوم النازيون باختيار هؤلاء لكي يشرفوا على المعتقل، لدرجة أنهم أصبحوا أكثر قسوة من المعتقل النازي. وهنا الكثير من الأمثلة، وللاختصار يقول مصطفى حجازي: إنهُ في المجتمع المقموع تسيطر هرمية القوة على الأفراد، فالأقوى (في أية علاقة قوة كانت) سيثبت قوته على من هو أضعف منه، لذا نجد العميل أكثر شراسة من مرؤوسيه، ونجد الخائف من الحرب أكثر شراسة من مجّنِده. ولهؤلاء تغيَّر المعنى لكي يصبح علاقة امتياز فهم يعتبرون أنفسهم أعلى اجتماعياً من غيرهم. وبالتالي، بعد المعتقل أو بعد الحرب ليس كما قبله، فإما ستنكسر هذه القوة (المشوهة) أو سيستمرون بها. لكي تنكسر علينا أن نُري هؤلاء (ونجد لهم مكاناً جديداً) إن علاقة القوة التي أُعطيت لهم لم تكن أكثر من مورفين مؤقت لخوفهم وشعورهم بالنقص تجاه الوضع والقامع واسترضائه.
وفي المقلب الآخر، وجد فرانكل أن من عانى في المعتقل تغير عنده معنى العلاقات عندما خرج منه. فمن كان في صلب المعاناة ولم يجد من يسعفه أو يحاول التخفيف عنه، انقلب إلى عدم اكتراث لكل هذه القيم. وهذا مفهوم ولكن أيضاً بحسب فرانكل أن هناك مهمة إفهام هؤلاء أن اعتقالهم ومعاناتهم لا تسمح لهم بالتعدي على حرية الآخرين.
بالخلاصة، يقوم العلاج بالمعنى على إيجاد المعنى للحياة من خلال ثلاثة أشياء أو إحداها: العمل، التجارب، أو أسلوب التعامل مع معاناة لا يمكن تجنبها. الحرب هي إحدى المعاناة التي إنْ أصبحت واقعاً لا يمكن تجنبها، ولكن التعامل معها يعطي معنىً جديداً للحياة.
باختصار: فإنه في كل حدث جديد تتغير المعاني عند الأفراد، وبعض هذه المعاني تتغير جماعياً كونها تصيب بلداً بكامله مثل: الحرب، التي سنجد تغيراً في المعاني الفردية بكل حسب تجاربه وحسب موقعه فيها. وفي حالة السلام يكون الحل وتغيّر المعاني جماعياً أيضاً، إذ لا يمكن إقناع الجميع أنهم متساوون بمستوى المعاناة إذا لم يتم فتح جميع الملفات بوضوح تام، وتأمين الأفق لتحويل المعاناة إلى إنتاج فكري وعملي- اجتماعي يسمح للجميع بتقبل ما جرى وتعويضه نسبياً. وبالتالي، من إنتاج معنى جديد لما بعد الأزمة من علاقات اجتماعية، وإنتاجية، ووطنية تربطهم بالحاضر وبالمستقبل لكي تصبح الأهداف مصبوبة نحو السلم والتقدم الجماعي بدلاً من الحلول الفردية المتمثلة بمعنى من يستطيع الهروب للأمام أسرع من غيره.

معلومات إضافية

العدد رقم:
929
آخر تعديل على الإثنين, 02 أيلول/سبتمبر 2019 12:35