من يهودية «إسرائيل».. إلى خوائنا المفجع
المطلوب اليوم إذاً من النظام الرسمي العربي، ثم منا جميعاً، أن نقدم اعترافاً للعالم بيهودية «الدولة العبرية»، ويمر هذا «المطلوب» الجديد من بين أصابع أغلب «المفكرين والمثقفين والمناضلين واليساريين واليمينيين والاشتراكيين والليبراليين»، يمر دون اهتمام يذكر كما مرت مقولة الاعتراف «بإسرائيل» بوصفها أمراً واقعاً قبل أكثر من ثلاثة عقود. وعليه فإن ثمة من يقول إنه طالما اعترفنا «بإسرائيل» وقبلنا التفاوض معها، فلماذا نقف عند الاعتراف بيهوديتها؟ وثمة أيضاً من يقول إنها مسألة سياسية على طاولة التفاوض الذي لسنا طرفاً فيه، وربما يصنفها تحت بند الخلاف في الرأي الذي لا يفسد للود قضية، قبل أن يتجه ليكتب مقالة في شأن ثقافي عربي، أو قبل أن يتجه لإلقاء آخر ما أبدعه من شعر في واحد من الصالونات الأدبية.
جوهر المسألة أن لهذا الاعتراف فضلاً عن معناه السياسي أبعاداً أكثر خطورةً على المستوى الثقافي، لأن المسألة ليست مجرد شرط على طاولة التفاوض، أو مجرد إعداد لحملة تهجير جماعي جديدة، الاعتراف بالدولة اليهودية، يعني الاعتراف بحق «العودة» ليهود العالم إلى فلسطين، ويعني إدانة النضال الوطني الفلسطيني، يعني إدانة كل حجر رمي على صهيوني في يوم الأرض، ويعني إدانة كل منظومتنا الفكرية والثقافية، بل وإدانة كاريكاتير ناجي العلي، وأدب غسان كنفاني، وشعر محمود درويش، وهكذا حتى آخر ملصق عن حق عودة الشعب الفلسطيني على جدران مخيم من مخيمات اللاجئين.
يمكن القول إن كل ما قام به العرب منذ قيام كيان العدو على أرض فلسطين، وعلى كل المستويات بما فيها الثقافية، مبني على مقولة إن أرض فلسطين للفلسطينيين الذين هُجِّروا منها، وإن أساس الصراع يكمن في أنه لا شرعية لوجود الصهاينة على أرض فلسطين، وهذا الأساس يمتد إلى كل مستويات الصراع، بما في ذلك طاولة المفاوضات والاعتراف «بإسرائيل» نفسه، بل وحتى التطبيع معها. أليست المقولة الأساسية لدعاة التطبيع أن إسرائيل باتت أمراً واقعاً يجب الاعتراف به والتعامل معه على هذا الأساس لإنهاء الحروب في المنطقة؟ ألا تحوي هذه المقولة استسلاماً بالقوة للوجود الصهيوني في فلسطين يتضمن في طياته إنكاراً لحق اليهود التاريخي فيها؟
بهذا المعنى تكون المطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية، مطالبةً بالانتقال إلى مربع جديد أساسه الاعتراف لليهود بحقوق تاريخية في فلسطين، كل هذا وليس ثمة في كل هذا الفضاء العربي الخاوي من يتحرك فعلاً لوقف التراجع، ليس ثمة من يقول في الثقافة قبل السياسة، إن أي اعتراف مفترض بيهودية «دولة إسرائيل» ما هو إلا مسح لهويتنا الثقافية، وإنكارٌ للحق العربي الفلسطيني التاريخي.
إذا كان ثمة من قال في السياسة إن توصيف «دولة إسرائيل» مسألة تخص الإسرائيليين، فإن الذي قالها هو من يجلس للتفاوض دون أي مرتكز قوة يفاوض بناء عليه، ودون مقاومة تدعم موقفه السياسي، وحتى دون موقف سياسي أصلاً. أما أن يكون هذا موقف أغلب المثقفين العرب سواء بالتصريح أو بالصمت وعدم إعطاء موقف جذري واضح من المسألة، فإن لهذا دلالات خطيرة لن تقف عند مستقبل القضية الفلسطينية، بل إنها تمتد لتشمل هويتنا جميعاً، ألم ينتبه أحد إلى أننا جميعاً نعيش حرب هوية؟