مؤشرات بداية صُعودٍ جديدٍ للتحركات الشعبية
يمكن لمن يراقب النشاط السياسي للسوريين خلال الأشهر الماضية، ابتداء من 8 كانون الأول، بمختلف أشكال ذلك النشاط، أن يرصد المراحل التالية:
أولاً: صعود من 8/12 وحتى مجازر الساحل 7/3
ابتداءً من لحظة سقوط السلطة السابقة، شهدت البلاد نشاطاً سياسياً عالياً للسوريين من مختلف القطاعات والفئات؛ شمل هذا النشاط عدداً كبيراً من الفعاليات والندوات والاجتماعات والمحاضرات، التي حاول السوريون من خلالها طرح هواجسهم وأفكارهم وآمالهم بما يخص شكل الدولة الجديدة المطلوب، سواء ما يتعلق بالدستور، أو الانتخابات، أو المركزية واللامركزية، أو الوضع الاقتصادي- الاجتماعي والمعيشي وكيفية معالجته، وصولاً إلى عددٍ كبير من النشاطات ذات الطابع الفني والاجتماعي. وبالتوازي، فقد عبر النشاط العالي عن نفسه أيضاً عبر احتجاجات الموظفين المفصولين، وعبر حركة دؤوبة ضمن عدد من وزارات ودوائر الدولة وضمن المؤسسات الاقتصادية، حيث حاول موظفون وعمال وطلاب دفع الأمور نحو اختيار ديمقراطي لممثليهم ومدرائهم وعمداء كلياتهم، بعيداً عن منطق التعيين الإلزامي من فوق الذي كان سائداً أيام السلطة السابقة في مختلف القطاعات.
ثانياً: انكفاء من 7/3 وإلى أوائل شهر أيلول
الحركة النشطة، انكفأت تدريجياً وبسرعة، مع بدء الأحداث الأمنية المتنقلة، التي جرى تحميلها في البداية اسم «حوادث فردية»، ولكن اتضح مع الوقت أنها أكبر بكثير من حالات فردية، حين وصلت إلى حدود المجازر في الساحل السوري مطلع شهر آذار. مع تلك المجازر، انكفأ النشاط السياسي العام إلى حدٍّ بعيد، وهو أمر متوقع؛ لأن صوت السلاح حين يرتفع داخل البلاد، وبين تيارات وأطراف ضمنها، فإن النتيجة الأولى له عادة هي كتم أصوات الناس، وخاصة حين يتم تحميل السلاح أبعاداً طائفية، فإن النشاط السياسي الوطني العام يصبح أكثر تعقيداً وصعوبة.
عوامل أخرى شديدة الأهمية، أسهمت أيضاً في الانكفاء المؤقت للحراك الشعبي؛ مؤتمر الحوار الوطني الذي جرى يومي 24 و25 شباط، وأخذ صبغة شكلية وغير ملزمة إلى حدٍّ بعيد، وجاء تالياً أقل بكثير من الطموح الشعبي لمؤتمر وطني عام يجري فيه نقاش كل الأمور المطروحة على الطاولة، ويستطيع السوريون من خلاله التأثير على مجرى الأمور بما يصب في مصالحهم. وأيضاً تشكيل الحكومة المؤقتة الحالية التي كرست إلى حدٍّ بعيد، رغم بعض التنوع الشكلي ضمنها، منطق «الحزب القائد»، وحرمان السوريين من المشاركة السياسية الحقيقية في تقرير مصيرهم.
بعد ذلك، جاءت أحداث أشرفية صحنايا وصحنايا نهاية نيسان، وبعدها تفجير الكنيسة في 22 حزيران، ثم المجازر والأزمة في السويداء، ومعها الاعتداءات «الإسرائيلية» ابتداء من 13 تموز، وهي الأزمة التي ما تزال دون حلٍّ حقيقي حتى اليوم، رغم أنها بدأت تهدأ نسبياً خلال الأسابيع الأخيرة.
ثالثاً: بدايات صعود جديد في شهر أيلول
مع بداية هذا الشهر تقريباً، وبعد هدوء نسبي في الأحداث ذات الطابع الأمني، بدأت تظهر بشكل واضح مؤشرات صعود شعبي جديد يأخذ مظاهر وأشكال شديدة التنوع؛ ابتداء من الاحتجاجات والنشاطات ذات الطابع المطلبي والاقتصادي، والتي شملت كل المحافظات تقريباً، وفي قطاعات متعددة، اقتصادية وتجارية وإدارية وطلابية، وباتت يومية تقريباً؛ فلا يكاد يمر يوم دون احتجاج هنا أو احتجاج هناك، وفي معظم الحالات تكون ذات أساس اقتصادي-معيشي، حيث ينظم أصحاب المصالح المتضررة صفوفهم بشكل أعلى فأعلى، كي يعبروا عن تلك المصالح ويضغطوا على السلطات لإحقاق حقوقهم، مع نجاحات جزئية هنا وهناك.
بالتوازي، يعود النشاط السياسي أيضاً إلى الظهور، عبر منتديات ومحاضرات وندوات وتجمعات سياسية مختلفة، تطالب بلعب أدوار حقيقية ضمن المشهد، وبإنهاء حالة الاحتكار وعدم المشاركة...
إلى متى وإلى أين ستصعد الموجة الجديدة؟
تكوين صورة ذهنية عن الموجة الجديدة، وكم ستستمر زمنياً، وإلى أي مدى يمكنها أن تصعد، وما الذي يمكنها أن تحققه من مطالبها، هو أمر في غاية التعقيد والصعوبة؛ لأنه يتطلب معرفة دقيقة بعدد كبير من العوامل التي تؤثر في هذا المسألة؛ ابتداء من العوامل الدولية والإقليمية وكيفية تغيرها المتوقعة خلال الأسابيع والأشهر القادمة، ووصولاً إلى الظروف الداخلية بمختلف تعقيداتها.
مع ذلك، من الممكن تكوين صورة مجردة عامة، فيها قدر معقول من الصحة، عبر توسيع الإطار الزمني لفهم المسألة، وخاصة الإطار الزمني لفكرة الحركة الشعبية بين الصعود والهبوط. وهنا يمكن تسجيل النقاط التالية:
أولاً: أسباب الحركة العميقة
الأسباب العميقة لحركة السوريين السياسية، ابتداء من 2011 وحتى اليوم، هي أسباب متداخلة وعديدة، ولكن بين أهمها بكل تأكيد: احتجاجهم على عمليات نهبهم وإفقارهم من قبل السلطة السابقة عبر السياسات الليبرالية، ورفع الدعم والفساد الكبير التي ألقت بالغالبية العظمى من السوريين تحت خط الفقر. وبين أهمها أيضاً: الاحتجاج على القمع والتسلط على الناس وحرياتهم وكراماتهم... تراكم القهر عبر عقود ووصوله إلى نقطة الغليان والانفجار عام 2011. ورحيل السلطة نهاية 2024 لم يؤدِّ بعد إلى تغيير النظام، ولم يؤدِّ إلى إنهاء النهب والفساد والفقر والقمع؛ ما يعني أن الأسباب العميقة للحركة ما تزال قائمة، ولذا ينبغي دائماً توقع أنها يمكن أن تنطلق في أي لحظة، متى ما شعرت، بحكم تجربتها المتراكمة، أن الظرف مناسب لها.
ثانياً: جيبية الصعود والهبوط
موضوع صعود وهبوط الحركة الشعبية، يحتاج أيضاً إلى فهم مركب يوسع منظاره الزمني ليرى عشرات السنين في لوحة واحدة، وليس فقط الموجات الجزئية للصعود والهبوط، كالتي عالجناها في بداية هذه المادة.
إذا أخذنا مشهداً زمنياً أطول، يمكننا أن نرسم اللوحة التالية بما يخص سورية:
يمثل الشكل المرفق، تصوراً مبسطاً لصعود وهبوط الحركة الشعبية في سورية خلال أكثر من 100 عام الماضية، استناداً إلى الأحداث التاريخية التي جرت فعلاً. وما يمكن ملاحظته، هو أن دور الصعود والهبوط يشغل قرابة 100 عام، ونوبة الصعود حوالي 50 ونوبة الهبوط أيضاً حوالي 50. ما يعني أن الصعود الملموس الذي بات واضحاً ابتداء من 2011، كان قد بدأ بالتراكم قبل ذلك بعقدين وأكثر، وأنه سيستمر بعد 2011 عقدين وأكثر... وإذاً، ما يزال أمامنا نظرياً ربع قرن من صعود الحركة الشعبية حتى تصل لتحقيق أهدافها، وتبدأ بعدها بالهدوء التدريجي ثم الانكفاء... وكيف نفسر الصعود والهبوط الجزئي الذي نقسيه بالأشهر كما بدأنا في هذه المادة؟ نفسره بأنه صعود وهبوط ضمن الصعود العام؛ فالخط البياني الحقيقي لحركة الناس هو أعقد بكثير من التجريد النظري المبسط الذي يقدمه الشكل السابق... ولتقريب المسألة من الذهن، يمكن أن نرسم الشكل التالي:
يوضح الشكل أن عملية الصعود والهبوط، تتضمن موجات جزئية عديدة من الصعود والهبوط، ولكن الميل العام يبقى صاعداً، أو هابطاً ضمن كل نوبة من النوبات الكبيرة لحركة الناس.
وعليه، فإن ما ينبغي توقعه وفهمه، هو أن كل صعود جزئي جديد ضمن الحركة الشعبية، يتجاوز بالمحصلة الصعود الجزئي السابق، ويضع الناس في مرحلة أكثر تقدماً وتنظيماً في نشاطها السياسي والاجتماعي العام، مقترباً أكثر من تحقيق الهدف النهائي، أي معالجة الأسباب العميقة الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والوطنية التي ولدت الحركة من الأساس...
خلاصة أولية
نشهد بداية موجة صعود جزئي لحركة الناس السياسية في سورية، وعلى كل القوى الوطنية أن تكون ضمنها، وتعمل معها وتتعاون معها لرفع درجة تنظيم الناس لنفسها، لأن تحقيق الأهداف النهائية يتطلب درجة تنظيم عالية، تجمع صفوف المتضررين، أي الـ 90% من السوريين المنهوبين والمفقرين، وتحيد عوامل الانقسام الثانوي الطائفية والدينية والقومية بينهم...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1244