ثلاثة أسئلة حول التقسيم

ثلاثة أسئلة حول التقسيم

بات الحديث عن تقسيم سورية مادة متداولة تحتل حيّزاً متزايداً من النقاش والجدل، سواء داخل البلاد أو خارجها. لكن هذا الحديث يُطرح عادةً من زاويتين أساسيتين:

الأولى: كردّ فعل مباشر على ما جرى من عمليات قتل ممنهج في الساحل، ثم في السويداء، والتهديدات التي وُجّهت إلى قوات سوريا الديمقراطية. وهنا يظهر التقسيم كخيار يطرحه بعض الناس بدافع الخوف والصدمة، أو كبحث يائس عن مخرج من مأساة متكررة.

الثانية: في إطار قراءات سطحية، إما ناتجة عن جهلٍ بالتاريخ ومساراته، أو نابعة عن تزوير متعمَّد له، وتختلط فيها النزعة العدمية والزئبقية التي لا تعترف بانتماء ولا تلتزم بموقف واضح. هذا الميل يبرز خصوصاً عند بعض «زبائن» إعلام البترودولار، وقناة «الحرة»، ممن يلهثون وراء ريع الاستكتاب والظهور الإعلامي، محاكين مزاج شرائح تبحث بأي ثمن عمّا تظنه «طوق نجاة»، تحت شعارات برّاقة مثل: «الحرية»، «الديمقراطية»، و «حقّ تقرير المصير». وبالتوازي، نشهد سوقاً مزدهرة للترويج لهذه الأفكار، تُدار جلّها عبر ذباب إلكتروني انتعش على مزبلة الأزمة وتداعياتها.

من هنا تبرز ثلاثة أسئلة أساسية:

أولاً: هل التقسيم ممكن فعلاً؟

الواقع الديموغرافي السوري يقدّم الجواب الأوضح: تكاد لا توجد منطقة في سورية من لون واحد. الخريطة السكانية شديدة التشابك والتداخل قومياً ودينياً وطائفياً، ما يجعل أي مشروع تقسيم أقرب إلى الوهم.
دينياً وطائفياً: المسيحيون منتشرون في معظم المحافظات، فيما يشكّل الساحل والمنطقة الوسطى نموذجاً لتنوع ديني وطائفي متداخل داخل القرى والمدن نفسها.
قومياً: الكرد موزعون في مناطق متفرقة في الشمال، غير متصلة جغرافياً، وغالباً ما يعيشون في خليط معقد من القوميات والأديان والطوائف.
وإذا نظرنا إلى عقود الدولة الوطنية، رغم كل شوائبها، نجد أنها ساهمت في رفع مستوى الاندماج بين المكونات السورية. دمشق وحدها تكفي كمثال: مدينة يمكن اعتبارها «سورية مصغّرة»، حيث يتعايش الجميع في فسيفساء واحدة.
أي مشروع تقسيم يعني عملياً تهجيراً قسرياً ومجازر جديدة وصراعات بلا نهاية، أي إنتاج كارثة فوق الكارثة القائمة. والمفارقة أن القوى الإقليمية والدولية التي تدفع بهذا الاتجاه تدرك جيداً استحالة التقسيم، لكنها تستخدمه كأداة لتكريس الفوضى وتعميق الانقسامات. من هنا، يمكن القول: إن التقسيم لن يحل أي مشكلة بل سيعقّدها أضعافاً مضاعفة.

ثانياً: سورية و»سايكس – بيكو”

من أبرز حجج دعاة التقسيم الزعم بأن سورية مجرد نتاج اتفاقية سايكس– بيكو، وبالتالي لا مبرر للتمسّك بوحدتها.
لكن الحقيقة التاريخية أكثر تعقيداً: سايكس – بيكو كانت مشروعاً لتقسيم تركة الدولة العثمانية إلى كيانات طائفية وقومية وقبلية تابعة، لا لتأسيس دولة وطنية. هذا المشروع نفسه اصطدم بعوامل عدة: الثورة البلشفية التي فضحت الاتفاق عام 1917، تغيّر التوازنات الدولية مع صعود الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والأهم التفاعلات الداخلية السورية.
الإنذار الذي وجّهه غورو للملك فيصل، موقف يوسف العظمة الاستثنائي في معركة ميسلون، ثم اندلاع الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش، كلها عوامل أسقطت مشروع «الكانتونات»، ومهّدت لاستقلال 1946. يضاف إلى ذلك أن حدود سورية الحالية ليست نسخة عن خطوط سايكس – بيكو، بل نتاج صفقات فرنسية – إنكليزية وأخرى فرنسية – تركية.
القول: إن سورية «صنيعة سايكس – بيكو» إذاً مجافٍ للحقيقة. ما يجري اليوم من مشاريع تفتيت هو الاستكمال الفعلي لما لم يكتمل من سايكس – بيكو. أما الرفض الحقيقي للإرث الاستعماري فيعني السير نحو استكمال بناء دولة وطنية جامعة، عبر إصلاح التشوه البنيوي الذي عانت منه الدولة السورية بفعل سياسات السلطات المتعاقبة، والجغرافيا السياسية المحيطة.

ثالثاً: ذريعة «حماية الأقليات»

من أكثر الأوراق استخداماً لتبرير مشاريع التقسيم ورقة «حماية الأقليات». وهي ورقة قديمة: استُخدمت في سايكس – بيكو قبل قرن، كما استخدمتها السلطة الحاكمة في سورية لتسويق نفسها حين ضاقت بها السبل.
لكن الوقائع التاريخية تُفنّد هذا الادعاء:
أحداث حماة في الثمانينيات كانت سياسية بالأساس، ارتدت لباساً طائفياً. والدليل أن مراكز سنية كبرى، مثل: دمشق وحلب لم تدعم الإخوان المسلمين.
الصراعات داخل السلطة لم تكن طائفية: حافظ الأسد انقلب على صلاح جديد (العلوي)، ثم تصارع مع شقيقه رفعت، وبعده جاء الصراع بين بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف.
زعامات درزية قادت الثورة السورية الكبرى وكسبت ثقة سوريين من مختلف الطوائف.
حتى في سنوات الأزمة، شهدنا مظاهرات في إدلب ضد «حكومة الإنقاذ»، وصراعات مسلحة بين فصائل من الطائفة نفسها.
الخلاصة، إن الطائفية لم تكن يوماً حالة سياسية شعبية متأصلة في سورية، بل كانت دائماً نتاج انحرافات السلطة وردود أفعال مشوهة عليها. وما يُسوَّق اليوم حول «حماية الأقليات» ليس إلا خطاباً دعائياً لتكريس الانقسام وإدامة الصراع.

خاتمة

الجميع في سورية دفع ثمن الأزمة: قتل، تهجير، نزوح، إذلال، وتفكك اجتماعي. السوريون جميعاً ضحايا تطور سياسي مشوّه ومشاريع جيوسياسية دولية متشابكة. لكن هذه المعاناة ذاتها تكشف أيضاً عن وحدة المصير المشترك، الذي لا مفر من استعادته إذا كان الهدف تجاوز الفوضى والتشظي.
التقسيم ليس حلاً. إنه وصفة لمزيدٍ من الدماء والمآسي. أما الطريق الوحيد للخروج من هذه الدوامة فيكمن في مشروع وطني جامع، يواجه الطائفية بوصفها أخطر أدوات التمزيق، ويُعيد الاعتبار لوحدة السوريين كشرط للكرامة والحرية معاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1241