حول مصير الدولة السورية والهوية السورية
تزخر مواقع التواصل الاجتماعي، وقسمٌ من وسائل الإعلام التقليدي والمواقع الإلكترونية، خلال الفترة الأخيرة، بقدرٍ هائل من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية التي تتقاطع في مقولةٍ واحدة: «سورية انتهت كدولة، سورية انتهت كهوية، والبحث الآن هو عما سيحل محلها ومتى وكيف».
ويتوزع المساهمون في محاولة تكريس هذه المقولة، بين من تدفعهم إليها الخيبة والألم، وبين آخرين يعون ما يقولونه جيداً، ويعرفون ما يمكن أن يترتب عليه، سواء منهم من كان «مثقفاً سورياً»، أو من كان أجنبياً.
الخيط الجامع للتحليلات والمقولات والطروحات التي تصب في هذه المقولة، أي مقولة انتهاء سورية كوحدة جغرافية سياسية، يشتمل على عنصرين أساسيين:
الأول: هو وقائع الانحدار نحو مستوى جديد من ارتفاع مستوى الخطاب والممارسات الطائفية الطابع، والتي تساهم في تحويل المجتمع السوري بشكل متزايد إلى جزر معزولة عن بعضها البعض؛ ليس فقط على مستوى تقسيم الأمر الواقع الذي كان قائماً لسنوات متتالية ما بعد 2011 وما بعد الدخول في طور الاشتباك العنيف، والذي ما يزال مستمراً من حيث الجوهر، بما يعنيه ذلك من عزلة نسبية بالمعنى الاقتصادي، وحتى الثقافي والأهلي، بل وأبعد من ذلك عبر العمل لتحويل «خطوط التماس» من خطوط اشتباك مؤقتة إلى أسوارٍ صينية افتراضية، تحجز خلف كل منها «مجتمعاً» متمايزاً بالكامل عن «المجتمعات» الأخرى.
الثاني: هو افتراض أن الخط المنتصر والسائد في منطقتنا هو الخط «الإسرائيلي»/الأمريكي، وأنه هو من سيفرض ما يريد، وما يريده معلنٌ وواضح: التقسيم.
الهوية من وجهة النظر «الاستشراقية»
ضمن مستوى آخر، أعلى قليلاً من النقاش السياسي الآني، يسعى البعض إلى تأصيل مقولة انتهاء سورية عبر تعريف الهوية السورية تعريفاً استشراقياً، ينطلق بالضبط من الحدود السياسية التي فرضها الاستعمار الأوروبي عبر سايكس بيكو، ويجعل من تلك الحدود المعطى الأساسي الوحيد والجوهري في الهوية السورية. بكلام آخر، يجري الحديث عن التكوينات المتنوعة للمجتمع السوري، بوصفها تكوينات جرى «حشرها» و«جمعها» ضمن الحدود السياسية، في حين أنها متناقضة بطبيعتها، ومعزولة عن بعضها البعض، ولا يكاد يجمعها شيء سوى القمع والقسر المركزي لجهاز الدولة الناشئ في النصف الأول من القرن العشرين!
تنسجم هذه النظرة الاختزالية مع الفكر الاستعماري التقليدي، الذي رأى في الاستعمار نفسه «دفعاً للأمم البربرية باتجاه الحضارة»، على حد تعبير ستيوارت ميل، والذي رأى أن بداية التاريخ، وبداية الحضارة، هي تلك اللحظة التي بدأت فيها جحافل وأساطيل أوروبا الغربية باجتياح العالم قبل أربعة قرون تقريباً.
خلافاً لهذه النظرة الاختزالية، فإن الجذور الفعلية للهوية السورية، تمتد أعمق بكثير من الحدود السياسية المرتبطة بتقسيم تركة الرجل العثماني المريض بين دول الاستعمار الغربي، وتمتد أعمق من فكرة الدولة السورية نفسها، كدولة ضمن منظومة الأمم المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل ويمكن القول: إن جذور هذه الهوية أعمق وأبعد من فكرة الأمة بمفاهيمها القومية أو الدينية أو الدولتية؛ الجذور هذه ذات طابع اقتصادي وسياسي وثقافي مركب، هي نتاج مراحل طويلة من الإمبراطوريات المتعاقبة على منطقتنا، والتي اشتركت في فضاء عام جغرافي وثقافي واحد عبر آلاف السنين، بالضبط، لأن سورية بالمعنى الواسع هي ركن أساسي ضمن فضاء اقتصادي وثقافي واحد، يجمعها بجملة من البلدان المحيطة بها وفقاً للوصف المعاصر للتقسيمات.
المسألة أبعد من اللغة أو الثقافة القومية/الدينية السائدة، على ما تشكله هذه من أهمية؛ فالهوية الإجمالية لسكان هذه المنطقة، هي انصهار تاريخي واقتصادي وثقافي لحوض جيني واسع بقي مستمراً ومتواصلاً ومتدفقاً عبر الجغرافيا نفسها، رغم اختلاف الأنظمة والإمبراطوريات والتقسيمات السياسية.
الموضوع المتكرر في الدرس التاريخي لمنطقتنا، هو أن مراحل التقهقر والتراجع والانكسار، كانت تتمظهر عبر انقسامات واسعة تعبر عن نفسها بما يشبه الحدود والتخوم والمتاريس، في حين تمتاز مراحل التقدم والازدهار بأنها مراحل التوحيد والتجميع... وما ينبغي معرفته للحكم على المرحلة التي نعيشها وآفاقها، هو طبيعة التغيرات على المستوى الكلي، وليس فقط التغيرات على المستويات الجزئية؛ فالتغيرات على المستوى الكلي، الإقليمي والدولي، هي من تسهم إسهاماً رئيسياً في تحديد الاتجاه العام بما يخص الجغرافية المحددة لسورية كدولة، ولسورية كهوية وثقافة في الإطار العام لمنطقتنا.
عن الانتصار المفترض للخط «الإسرائيلي»/ الأمريكي
إذا كان فيما قلناه أعلاه إجابات جزئية حول موضوع «الهويات الجزئية» كمفردة من الخط الجامع للقائلين بانتهاء سورية، فإن المفردة الثانية الأكثر تأثيراً وحضوراً في خلفية التفكير، هي القول بانتصار «إسرائيلي»/أمريكي، بل وبأننا قد دخلنا «العصر الإسرائيلي» في كامل منطقة «الشرق الأوسط».
الرد على هذا الافتراض الخاطئ يتطلب قراءة موضوعية لموازين القوى الفعلية على المستوى الدولي والإقليمي، ابتداء بالموازين الاقتصادية ثم العسكرية فالسياسية.
لا يختلف عاقلان اليوم على أن المعركة الاقتصادية على المستوى العالمي قد حسمت لمصلحة الصين وبريكس في وجه الغرب الجماعي؛ فالأرقام تتكلم وحدها عن هذا الموضوع... أرقام الناتج العالمي والحصص فيه، والأرقام الخاصة بالمعادن النادرة والمعادن الحرجة والذكاء الاصطناعي والتصنيع العسكري وإلخ.
ما يخلق التباساً هو عدم رؤية الأمور في حركتها؛ فحين يرى البعض الأمريكي و«الإسرائيلي» يبلطج ويبطش هنا وهناك على الخارطة العالمية، يفترض أن الميزان هو في صالحهما، ولكن المعادلة التاريخية المعروفة، تقول بأن صعود أي قوة، يبدأ اقتصادياً، ثم عسكرياً، وصولاً إلى الترجمة السياسية النهائية. نحن بالضبط في مرحلة الانتقال من الترجمة الاقتصادية والعسكرية للتراجع الأمريكي/ الغربي، وللتقدم الاقتصادي والعسكري للصين وروسيا والهند و«شنغهاي» وإلخ، إلى الترجمة السياسية للتراجع والتقدم... الترجمة السياسية لا تأتي دفعة واحدة، ولكنها مع ذلك تعبر في عتبات انتقال تظهر فيها بما يكفي من الوضوح، ونحن الآن ضمن عتبة جديدة نوعية اسمها نتائج حرب أكرانيا، والتي ستتمظهر بشكل أوضح خلال الأشهر القليلة القادمة، ليس بوصفها معركة بين روسيا والغرب، بل معركة بين روسيا والصين وحلفهما الدولي وبين الغرب.
الميزة الأساسية للعالم الجديد الذي يتشكل الآن، ليست الانقسام والتفتيت، بل على العكس من ذلك، بناء التحالفات الإقليمية الأوسع... يكفي النظر إلى طبيعة العلاقة بين السعودية وتركيا ومصر وإيران في منطقتنا على سبيل المثال، لأخذ فكرة عن الاتجاه العام الذي تسير الأمور نحوه.
في سورية أيضاً الاتجاه العام الذي سنسير نحوه هو اتجاه التجميع الأوسع، أي ليس فقط تجميع السوريين ضمن سورية بحدودها السياسية الراهنة، بل وأيضاً الدخول ضمن تعاون إقليمي جديد مرتبط بالتوازن الدولي الجديد، أي بالضد من الأمريكي و«الإسرائيلي» الذي لن يطول الوقت حتى يفقد قدراته على التأثير التخريبي، ليس ضمن منطقتنا فحسب، بل في العالم أجمع...
في الأثناء، فإن العمل من أجل التخريب والتقسيم وإدماء الشعوب سيزداد شراسة، ويحتاج التصدي له والحفاظ على أرواح الناس، إنضاج العوامل الذاتية الداخلية، بما في ذلك عبر فهم مختلف للهوية الوطنية السورية، يكون المركز فيه هو التوافق والتجميع على أساس احترام الحقوق والحريات وضمانها، والقطع نهائياً مع عقليات القسر والإجبار والإكراه والاستئثار، لأن هذه العقليات لن تأكل البلاد وأهلها فقط، بل وستأكل نفسها بالتوازي، وبسرعة كبيرة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1240