وداعًا للسلاح خيار الضرورة

وداعًا للسلاح خيار الضرورة

في مشهد رمزي لافت، أقدم عشرات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني، قبل أسابيع، على إحراق أسلحتهم، في إشارة إلى انطلاق مرحلة تاريخية جديدة بين الدولة التركية والأكراد، عنوانها الأبرز هو السلام. تأتي هذه الخطوة ترجمةً لمبادرة زعيم الحزب التاريخي، عبد الله أوجلان، التي تحوّلت إلى قرار نافذ خلال المؤتمر الثاني عشر للحزب.

بغية إدراك أبعاد هذه العملية وشروط نجاحها وحواملها السياسية والاجتماعية ينبغي فهم سياقها الموضوعي الواقعي، ومن خارج إطار الوعي السياسي التقليدي الذي يستند إلى منطق العالم أحادي القطب.

أولاً: العملية تمثّل ضرورة وجودية للدولة التركية.

ثانياً: وهي في الوقت ذاته ضرورة موضوعية للشعب الكردي.

ثالثاً: الحديث عن منتصر ومهزوم هو تبسيط مُخلّ؛ فهذه العملية إما أن ينتصر فيها الجميع أو ينهزم الجميع.

تعكس هذه الخطوة وعيًا مشتركًا لدى الطرفين بحاجتهما المتبادلة، في عالم يشهد تحولات جيوسياسية عميقة. وهي تعبير عن فهم عميق لحقائق العالم المعاصر وتوازناته، ورؤية للالتفاف على المشاريع الدولية التي تستهدف المنطقة عبر تنشيط تناقضاتها الثانوية على حساب التناقضات الرئيسية.

تناقضات نموذج الدولة

ما يُعرف بـ»نموذج الدولة الوطنية» – وتركيا واحدة من أبرز حالاته – لم يتمكن من استكمال مشروع التحرر الوطني. فالاستقلال السياسي، رغم كونه شرطاً أساسياً، تبيّن أنه غير كافٍ ما لم يُقترن بالتحرر الاقتصادي والاجتماعي، والقدرة على تحقيق تنمية مستقلة ومستدامة.

كما أن حماية هذا الاستقلال لا يمكن أن تتم من دون مشروع ديمقراطي حقيقي، خصوصاً في البلدان المتعددة القوميات والأديان، حيث ينبغي تحويل الصراع من صراع هويات إلى صراع برامج وسياسات. فالدولة الهشّة، التي تتحوّل أزماتها إلى أزمات قومية أو طائفية، غير قادرة على تحقيق التنمية أو الحفاظ على سيادتها.

في السياق ذاته، لم تعد السيادة في العالم المعاصر مقتصرة على سلطة الدولة وأجهزتها، بل باتت تشمل سيادة الشعب على قراراته السياسية والاقتصادية وتحالفاته الإقليمية والدولية.

الانهيار المتكرر في سعر صرف الليرة التركية، والابتزاز الأمريكي المستمر، والتهديدات الاقتصادية التي تواجهها أنقرة كلما حاولت انتهاج سياسة مستقلة، كلها شواهد تؤكد هذه الحقيقة. وهذا ما تعكسه أيضاً رسائل أوجلان وتصريحات دولت بهجلي.

فالحمائية التي تتبعها الولايات المتحدة، في إطار استراتيجيتها الجديدة لعالم متعدد الأقطاب، تتناقض كليًا مع طموحات الدول الساعية إلى أدوار مستقلة، حتى إن كانت من بين أقرب حلفاء واشنطن. وهو ما يفسّر انفضاض العديد من الحلفاء عنها.

تركيا بين التيارات الثلاثة

من يراقب الحراك السياسي التركي، يلاحظ وجود ثلاثة تيارات تتنازع على رسم خيارات البلاد:

تيار التبعية : يسعى إلى استمرار الدور الوظيفي لتركيا ضمن المنظومة الغربية، خصوصًا الأمريكية. إلا أن حظوظ هذا التيار محدودة تاريخيًا، في ظل عقيدة «أمريكا أولاً»، التي لا تترك متسعًا حتى لحلفائها المقربين.

التيار الإمبراطوري التقليدي: يروّج لاستعادة أمجاد الدولة العثمانية. لكن هذا التوجّه يصطدم بمصالح قوى إقليمية ودولية كبرى، ويُعدّ خياراً غير واقعي في السياق الحالي.

التيار العقلاني: يدعو إلى تموضع إقليمي مستقل لتركيا، عبر بناء علاقات متوازنة قائمة على الندية، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة. وهو خيار لا يمكن تحقيقه من دون تسوية التناقضات الداخلية، وفي مقدّمتها القضية الكردية.

وعلى مآلات هذا التنازع سيتحدد مستقبل تركيا، بما في ذلك مصير عملية السلام الجارية مع حزب العمال الكردستاني.

حق تقرير المصير... في وحدته لا في تفتيته

ثمّة قناعة لدى بعض النخب الكردية بإمكانية تحقيق حق تقرير المصير بصيغته الكلاسيكية (الانفصال)، بهدف تجاوز الفوات التاريخي والالتحاق بركب الدول القومية. وقد يُعوّل بعضهم على التناقضات الإقليمية والدولية، متخيّلين إمكانية أن يصبح الأكراد بديلًا وظيفيًا عن تركيا في الاستراتيجية الأمريكية.

إلا أن رسائل عبد الله أوجلان قطعت الطريق على هذا المسار. فحق تقرير المصير، في ظل المعادلات الراهنة، لا يتطلّب بالضرورة تفتيت الكيانات، بل يمكن أن يتحقّق عبر اندماج طوعي متبادل، يقوم على الاعتراف بالهويات المتعددة، وتجاوز نموذج الدولة القومية الأحادية.

إن تجاوز الأحادية القومية ليس بالضرورة أن يكون الانفصال، خاصة في ظل التشابه الثقافي والاجتماعي بين مكونات الدولة ووحدة فضائها الاقتصادي. ففي المنطقة وكما تشير التجربة التاريخية لا يمكن ان يستقر وضع أحد من مكوناتها القومية دون استقرار إقليمي شامل، ولا يمكن حل مشكلة شعب على حساب شعب آخر.

الخيارات المحتملة

منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، شكّلت تركيا إحدى الركائز الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وقدّمت لها واشنطن الدعم الكامل لأداء دورها الوظيفي، بما في ذلك إدراج حزب العمال الكردستاني على لوائح الإرهاب، والمساعدة في اعتقال أوجلان، كما بيّنت مرافعاته أمام المحكمة.

ومع بروز مساعٍ مشتركة بين أنقرة وأوجلان لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية، فإن خيارات واشنطن قد تتوزع بين:

العرقلة المباشرة: من خلال نفوذها داخل مؤسسات الدولة التركية، والحفاظ على حالة التوتر المزمن.

الاحتواء الناعم: عبر التناغم مع طموحات النخب التركية للتحول إلى مركز إقليمي، شرط أن يتم ذلك تحت «التحكّم عن بُعد» الأمريكي، وبما يخدم أولويات واشنطن الاستراتيجية، وعلى رأسها الصراع مع الصين.

مهما يكن، فإن ما يحدث اليوم يمكن أن يشكّل خطوة أولى نحو تطبيع شامل للوضع الإقليمي، إذا توفرت الإرادة المشتركة لدى قوى الإقليم، وتمكّنت القوى الدولية الصاعدة من أن تقدّم نموذجاً بديلاً يُحتذى به.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236