رفع العقوبات... إيجابياته وسلبياته والسّياق الدّولي والإقليمي الذي يجري ضمنه...

رفع العقوبات... إيجابياته وسلبياته والسّياق الدّولي والإقليمي الذي يجري ضمنه...

مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن عزمه رفع كل العقوبات الأمريكية المفروضة على سورية، انفتحت آفاق انتقال الوضع السوري نحو مشهد جديد يحمل فرصاً جديدة من جهة، ومخاطر قديمة- جديدة من جهة أخرى، ما يتطلب العمل على استيعاب هذا المشهد بإحداثياته المختلفة، كأرضية للسياسات التي ينبغي اتخاذها وتطبيقها، وهو ما سنحاول البدء به في هذه المادة...

هل توقعنا رفع العقوبات؟

ينبغي الإقرار بداية، بأننا في مركز دراسات قاسيون، وفي حزب الإرادة الشعبية، لم نكن نتوقع أن يُتخذ قرار رفع العقوبات الأمريكية في أي وقت قريب، والسبب الأساسي في ذلك هو دراستنا لتجارب العقوبات الأمريكية المختلفة خلال أكثر من نصف قرن مضى، وفي عدد كبير من البلدان بينها العراق وإيران وكوبا وأفغانستان واليمن وبيلاروسيا والكونغو وهايتي وغيرها الكثير. علماً أنه ينبغي ألّا يتم التعامل مع تصريحات الرئيس الأمريكي حول رفع العقوبات على أنها أمرٌ نهائي وغير مشروط، فالتجربة تقول: إن الولايات المتحدة حتى حين أقدمت على رفع العقوبات في بعض الحالات، لم ترفعها بشكل كامل، وأبقت جزءاً منها كأداة ابتزاز سياسي طويل الأمد. ومع الإقرار بأننا أخطأنا في توقع اتخاذ قرار رفع العقوبات، إلا أن السياسة التي اعتمدناها في التعامل مع موضوع العقوبات الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، كانت وما تزال صحيحة، وارتكزت إلى خمس نقاط أساسية هي:

أولاً: المستهدف من العقوبات كان وما يزال الشعب السوري والدولة السورية، والعقوبات لم تؤثر على نظام الأسد إلا بشكل ثانوي، ولذا فقد كنا وما نزال ضدها.

ثانياً: ينبغي الاستمرار بالمطالبة برفع العقوبات المفروضة على سورية والشعب السوري، بكل الطرق الممكنة، وفي كل المحافل الدولية والإقليمية.

ثالثاً: ينبغي أن نبني اقتصادنا منطلقين من افتراض أن العقوبات لن يتم رفعها مطلقاً، بالاستناد إلى الإمكانات المحلية، وإلى التناقضات القائمة على المستوى الدولي، والتي تمنحنا- إنْ أحسنّا استخدامها- هوامش حركة واسعة، ودرجة استقلالية عالية.

رابعاً: يمكن لرفع العقوبات مقابل شروط سياسية تقيدنا وتضعنا في ظروف التبعية أن يكون أسوأ من إبقائها، لأن «إغضاب المستعمر هو دائماً أقل كلفة من إرضائه».

خامساً: يمكن لرفع العقوبات مقابل الخضوع للوصفات الاقتصادية لصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، أن يكون أسوأ بكثير من استمرارها؛ لأن التجارب التاريخية المختلفة تعلمنا أن تطبيق وصفات هذه المؤسسات، وخاصة في بلدان «العالم الثالث»، أنتجت دائماً دولاً هشة وشعوباً ضعيفة ومفقرة وأزمات بالجملة، بما في ذلك أزمات عنيفة ودموية.

سادساً: الانطلاق في بناء السياسات من افتراض عدم رفع العقوبات، (أي من السيناريو الأسوأ)، مع استمرار المطالبة والعمل من أجل رفعها، هو التوجه الأسلم والأعلى فائدة، فإن هي رُفعت فأمر جيد يمكن البناء عليه، وإنْ لم تُرفع نكون قد تجهزنا مسبقاً، ولم نترك أنفسنا محكومين لها.

هذه الاتجاهات العامة ما تزال صحيحة بعد إعلان الرئيس الأمريكي عن قراره برفع العقوبات عن سورية، خاصة وأن التنفيذ الفعلي لرفع العقوبات ما يزال في طوره الأول، ويحتاج إلى سلسلة من الخطوات القانونية، بما في ذلك عبر الكونغرس، والتي قد تنجز في وقت قريب وقد لا تنجز. كما أن الشروط الفعلية، وطبيعة التوافقات والتعهدات المتعلقة برفع العقوبات، لم تتضح بنطاقها الكامل بعد، وستكشفها الأسابيع والأشهر القادمة تباعاً.

وأما وقد تم الإعلان من الرئيس الأمريكي عن نيته رفع العقوبات، فإنه من المطلوب الآن تقييم النتائج المحتملة لهذه الخطوة على الوضع السوري، بإيجابياتها وسلبياتها المتوقعة.

إيجابيات رفع العقوبات

حتى لو لم يتم رفع العقوبات بشكل كامل وفوري، فإن مجرد الإعلان بشكل رسمي عن الاتجاه نحو رفع العقوبات، يحمل آثاراً إيجابية عديدة على الوضع السوري العام، اقتصادياً وسياسياً، ربما بين أهمها ما يلي:

أولاً: إنهاء الحصار الاقتصادي على سورية، من شأنه أن يحسن من إمكانيات وظروف الاستثمار في البلاد بأشكاله المختلفة، العام والخاص.

ثانياً: يسمح رفع العقوبات لسورية (نظرياً على الأقل) بالتخلص من أعباء دفع كومسيونات ضخمة لتأمين إيصال العديد من المواد إلى السوق السورية عبر آليات الالتفاف على العقوبات، ما يعني تقليل كلف الاستهلاك والإنتاج، وما يعني تحسين إمكانيات إعادة الإقلاع الاقتصادي.

ثالثاً: إضافة إلى الفوائد الاقتصادية المتعددة (بافتراض عدم الخضوع لوصفات المؤسسات الدولية)، فإن هنالك فائدة سياسية ووطنية واضحة تتمثل في إضعاف الاتجاهات التي تدعو نحو تقسيم سورية داخلياً، والتقييد (الجزئي على الأقل) لحالة التغول «الإسرائيلي» على سورية؛ لأن رفع العقوبات عن سورية يتعارض بالمعنى الاستراتيجي مع مشروع «الشرق الأوسط الجديد الإسرائيلي» الذي يستخدم العقوبات أداة من أدوات التوتير، ومن أدوات إضعاف سورية ورفع احتمالات تقسيمها، على العكس من الأجواء التي يمكن أن يحدثها رفع العقوبات، والتي تتسم بقدر أكبر من الميل نحو الاستقرار.

سلبيات رفع العقوبات

في حين يحمل رفع العقوبات إيجابيات أكيدة محققة بمجرد الإعلان عنه، فإنه يحمل سلبيات كامنة، أي بوصفها احتمالات ليست مؤكدة بالضرورة، وتتعلق بطبيعة الاتفاقات التي أدت لرفع العقوبات، وبالسياسات التي سيتم اتباعها بالمعنى الاقتصادي والسياسي في المرحلة اللاحقة. ويمكن تلخيص هذه السلبيات بما يلي:

أولاً: من غير المعلوم بشكل دقيق، ما هي القائمة الكاملة للشروط والتعهدات السياسية التي مهدت للإعلان عن قرار رفع العقوبات؛ ما يجعل الاحتمالات السلبية أمراً قائماً لا يجوز إغفاله في النظر للسياسة الداخلية والخارجية اللاحقة للبلاد.

ثانياً: إذا تم تبني سياسات اقتصادية ليبرالية موافقة لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، كما تشير التصريحات الرسمية، فإن هذا سيكون وصفة كاملة للفشل، تتضمن إضعاف جهاز الدولة، وصولاً لإنهاء دوره الاجتماعي بشكل كامل، وسيؤدي إلى بناء اقتصاد ضعيف الإنتاجية لا يرتكز إلى صناعة متطورة ولا إلى زراعة متطورة، ولا يدعمهما، ويرتكز بالمقابل إلى الفقاعات المالية والتجارية والقطاعات الخدمية، كما هو الأمر في لبنان مثلاً، الأمر الذي من شأنه إعادة إنتاج الكارثة السورية في وقت لاحق غير بعيد، وربما بأشكال أشد قسوة.

ثالثاً: إذا اقترن رفع العقوبات مع تنفيذ الوصفات الغربية، فهذا يعني وضع البلاد على سكة معاكسة تماماً لاتجاه التطور التاريخي العالمي، الذي انتقل مركز ثقله بالمعنى التكنولوجي والإنتاجي نحو الشرق، وخاصة الصين، الأمر الذي يعني وضع سورية على الضفة الخاطئة من التطور التاريخي، بكل ما يمكن أن يحمله ذلك من مخاطر.

ما الذي يعنيه رفع العقوبات من وجهة النظر الأمريكية؟

من الأهمية بمكان، مناقشة موضوع رفع العقوبات، ليس فقط كإيجابيات وسلبيات ضمن الإحداثيات المحلية السورية، بل وأيضاً من وجهة نظر السياسات الأمريكية العامة في مجمل منطقتنا، وذلك عبر محاولة الإجابة عن سؤال أساسي هو: لماذا ترفع الولايات المتحدة عقوباتها عن سورية؟

رغم أهمية المطالبات الإقليمية برفع العقوبات، وبشكل أساسي المطالبات السعودية والتركية والقطرية المتكررة، إلا أنه لا يمكن تفسير القرار الأمريكي بهذه المطالبات فقط، كما لا يمكن اختزال المسألة (كما يحاول البعض) في أن الرئيس الأمريكي قد قبض ثمن هذه الخطوة صفقات بمئات مليارات الدولار خلال زيارته للخليج العربي، لأن هكذا تفسير يبقى ناقصاً، بل وحتى مضللاً عبر تبسيط الموضوع إلى مجرد صفقة تجارية.

لمحاولة تفسير القرار، لا بد من المرور عبر طريق طويل نسبياً؛ يبدأ من وضع الخطوط العامة الأساسية لملامح المنطقة التي نعيش فيها اليوم، من حيث التوازنات والعلاقات الدولية، ويأخذ بعين الاعتبار ملامح الوضع الدولي العام وتوازناته الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ليمر في النهاية على وضع «إسرائيل» الجديد، وصولاً إلى سورية نفسها، لفهم معنى رفع العقوبات عن سورية كجزء من سياسة عامة أمريكية، عالمية وإقليمية، وتجاه سورية.

1227_h_31

وضع الإقليم

يمكن أن ندلل على اتجاهات التطور الأساسية ضمن إقليمنا الواسع، بالنقاط والمؤشرات الأساسية التالية:

أولاً: بالكاد تم ذكر «اتفاقات أبراهام» خلال زيارة ترامب للدول الخليجية الثلاث، ناهيك عن أنها لم تحقق أي إضافة أو تقدم من أي نوع، ولم يتم استخدامها كشرط على الاتفاقات التي وقعتها الرياض مع واشنطن... ما يؤكد مقولة افتتاحية قاسيون الماضية، وافتتاحياتها منذ 7 أكتوبر حتى الآن، من أن «عصر اتفاقات أبراهام انتهى ولن يعود».

ثانياً: لم يعد بعيداً التوصل لاتفاق نووي جديد مع إيران، لا يختلف في جوهره عن اتفاق 2015، إلا في أمر أساسي هو أنه يجري في ظروف إقليمية مختلفة بعد المصالحة السعودية الإيرانية، وبعد تصريحات مثيرة للانتباه لوزير الدفاع السعودي قال فيها طهران: «من الآن وصاعداً، أقول بفخر وبشكل علني: المملكة العربية السعودية تعتبر إيران صديقاً وأخاً وجاراً كريماً»، وبالتوازي، أعلنت إيران عن رغبتها وموافقتها على وجود مراقب خليجي (هو السعودية عملياً) لبرنامجها النووي كجزء من الاتفاق المزمع عقده مع واشنطن. هل يتذكر أحد اليوم مشروعاً رافق اتفاقات أبراهام وحمل اسم «الناتو العربي» وكان قائماً على تعاون بين الخليج العربي والكيان للوقوف في وجه إيران تارة، وفي وجه تركيا وإيران تارة أخرى؟ هذا المشروع هو الآخر تبخر نهائياً، خاصة مع جملة المصالحات الثنائية التي شملت كلاً من السعودية وإيران وتركيا ومصر ودول الخليج الأخرى، خلال السنتين الماضيتين.

ثالثاً: النظر في طبيعة الاتفاقات الاقتصادية- التجارية التي تم توقيعها خلال زيارة ترامب الأخيرة، ومقارنتها بالاتفاقات التي وقعت في زيارته عام 2017، يشير إلى تطور كبير لم يعد ممكناً معه، وبأي حال من الأحوال، وصف دول الخليج العربي بـ«البقرة الحلوب» التي تدفع الجزية لـ«السيد الأمريكي» مقابل الحماية؛ فالمجالات التي شملت الذكاء الاصطناعي، والسلاح المتطور وبرنامجاً نووياً سلمياً، تسمح بالقول: إن الدول الخليجية، بقوتها الذاتية، وبقوة التوازنات الدولية الجديدة، باتت في مرحلة تستطيع فيها أن تفرض جزءاً من شروطها على الأقل في التعامل مع الأمريكي، خاصة أن هذا كله، وفي حالة السعودية خاصة، تم بعيداً عن «اتفاقات أبراهام» أو عن موقفٍ معادٍ لإيران، كما أشرنا آنفاً.

رابعاً: ترامب يصل إلى اتفاق ثنائي مع الحوثيين على وقف حالة الحرب بين الطرفين، مع استمرار الحوثيين بإطلاق صواريخهم ومسيراتهم صوب الكيان وسفنه، بل وأطلق الحوثيون بعضها بالضبط خلال وجود ترامب في زيارته للخليج العربي!

خامساً: بالتوازي مع ما يشهده الإقليم بأسره من تحولات عاصفة، تبرز مبادرة أوجلان-بهتشلي-أردوغان، باتجاه حل سلمي للقضية الكردية في تركيا، وفي المنطقة ككل عملياً، لأن الوزن الجغرافي والبشري والتاريخي الأساسي للقضية الكردية، كان دائماً في تركيا. وأثبتت الأسابيع والشهور القليلة التي تلت إطلاق المبادرة، أنها جدية إلى أبعد الحدود، وأنها ماضية عبر مراحل نحو التنفيذ الكامل. وهذا أمر بالغ الأهمية إلى الحد الذي يجعل وسائل الإعلام العالمية المختلفة، بل وحتى في الإقليم، تحاول تجنبه وتجنب الحديث في نتائجه الكبرى ومعانيه... وكي لا نطيل في هذا السّياق، يكفي القول باختصار: إن حل القضية الكردية حلاً عادلاً ديمقراطياً في عموم منطقتنا، يعني نزع فتيل تفجير تاريخي لعب دوراً أساسياً في إبقاء التوتر قائماً في مجمل منطقتنا طوال عقود، ويعني أيضاً تمهيد الطريق لعلاقات بناءة ليس فقط بين دول الإقليم، بل وأيضاً بين القوى القارية عبر العالم، التي تسجل نصراً مهماً بالمعنى التاريخي في الانتقال بمنطقتنا من منطقة حرائق ومنطقة عزل بين القوى الاقتصادية الصاعدة، إلى منطقة اتصال وازدهار بالضد من مصالح القوى المحيطية التاريخية (قوى الاستعمار الغربي).

سادساً: رغم كل العنجهية والإجرام «الإسرائيلي» في التعامل مع الحرب على غزة، إلا أن مختلف المؤشرات تدل على أن الحرب اقتربت من وضع أوزارها على غير ما يشتهي الصهيوني، وبالضد من إرادته.
إذا حاولنا تجميع عناصر اللوحة الإقليمية، يمكننا اختصارها بعبارة واحدة، هي أنها تشير جميعها بعكس اتجاه «مشروع الشرق الأوسط الجديد الإسرائيلي»، والذي ليس مشروعاً «إسرائيلياً» بحتاً، بل هو مشروع أمريكي من حيث الأساس... ما يفتح الباب على احتمال التخلي الأمريكي عنه عبر إعادة تموضع نحو مشاريع جديدة وآليات جديدة... وهو ما سنناقشه في الفقرات التالية.

الوضع الدولي

لأن «حقائق الحياة أشياء عنيدة»، فإن المهرجانات الإعلامية التي تحاول تصوير ما يجري في منطقتنا، وخاصة بعد زيارة ترامب، على أنه انتصار أمريكي تاريخي، وعودة للهيمنة الأمريكية على منطقتنا وإلى ما هنالك... ليست أكثر من مهرجانات إعلامية لا ينساق نحوها إلا من تغيب عن عينيه قراءة «الحقائق العنيدة»، وعلى رأسها حقائق الاقتصاد والعسكر والسياسية.

هذه الحقائق تؤكد يوماً بعد يوم، أن الاتجاه ما يزال ثابتاً؛ اتجاه الصعود الصيني والروسي، ومعهما بريكس ككل، ومجموعة من الدول الإقليمية ذات الأوزان الكبيرة. واتجاه التراجع الغربي العام، وضمناً الأمريكي والأوروبي. يظهر ذلك واضحاً في الأرقام الاقتصادية (بينها على سبيل المثال فقط، انخفاض حصة مجموعة السبع الكبار الغربية إلى 29% من الناتج العالمي، مقابل ارتفاع حصة بريكس إلى 38% منه). ويظهر أيضاً في التفوق التكنولوجي (السيارات الكهربائية ليست إلا مؤشراً مكثفاً لجملة صناعات متقدمة)، وفي التفوق التكنولوجي العسكري (دروس المواجهة القصيرة الأخيرة بين الهند وباكستان، والمواجهة الطويلة بين حاملات الطائرات الأمريكية والحوثيين المدعومين بالصواريخ فرط الصوتية التي لم تتوصل واشنطن لتقنياتها بعد!). وفي التفوق العسكري- السياسي (المفاوضات حول أوكرانيا مثالاً، وموقع الولايات المتحدة منها، بما في ذلك سحب كل الشروط السابقة عملياً، والانطلاق من الواقع الجديد على الأرض). ويظهر طبعاً في التفوق التجاري (رأس جبل الجليد هو الرسوم الجمركية الترامبية، وفشلها، والتراجع التدريجي والسريع عنها، وخاصة تجاه الصين، وجزء من قاعدة جبل الجليد هو سلاسل التوريد المكتملة الأركان لدى خصوم واشنطن، الصين خاصة، والمتهتكة والمقطعة لدى واشنطن نفسها، والجزء العريض والعميق من قاعدة الجبل هو الإنتاج الحقيقي الذي يتمركز خارج الولايات المتحدة ولدى خصومها). ويظهر أيضاً في الإعلان الأمريكي يوم أمس عن عزم واشنطن بدء نقاش مع دول الناتو حول سحب القوات الأمريكية من دول أوروبا...

1227_h_32

واشنطن نحو الانكفاء

تجميع الإحداثيات الدولية الكبرى، وتمظهراتها في إقليمنا، يسمح بقراءة الاتجاه العام للسياسات الأمريكية عالمياً، وفي منطقتنا أيضاً، وضمناً يسمح بتقديم تفسير أولي لقرار رفع العقوبات عن سورية.

هذه الإحداثيات بمجملها، تؤكد الاتجاه العام الذي سبق لقاسيون أن تحدثت عنه مراراً، وهو الاتجاه الانكفائي الاضطراري للولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان قبل ترامب (إمكانية)، ومع ولايته الجديدة، بدأ بالتحول إلى (واقع).

الانكفاء الأمريكي لا يعني الانكفاء إلى داخل حدود الولايات المتحدة، ولكن يعني الانكفاء عن أدوار أساسية في العالم القديم، والتراجع عن أحلام تدمير الصين وروسيا، والاتجاه نحو ترشيد الموارد المتراجعة، والتركيز على الهيمنة على «الغرب الجماعي»، عبر وضع اليد على غرينلاند وكندا وبنما، وعبر امتصاص الثروات ورؤوس الأموال المتراكمة في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا. وهذا الاتجاه يتطلب تخفيضاً نوعياً في الإنفاق العسكري الخارجي (أكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم)، وعدد كبير من الحروب بالوكالة التي تتطلب إنفاقاً مستمراً، من الحرب على غزة إلى الحرب على اليمن وغيرهما الكثير من الحروب التي تنفق الولايات المتحدة عليها بأشكال مباشرة وغير مباشرة، بما في ذلك عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).

في منطقتنا، فإن خطة الانكفاء الأمريكية تعني بالملموس: التخلي عن «مشروع الشرق الأوسط الجديد الإسرائيلي»، الذي لا يتطلب موارد هائلة فحسب، ولكنه يتطلب ظروفاً إقليمية ودولية لم تعد موجودة؛ فتقسيم منطقتنا وتفتيتها عبر حروب طائفية ودينية وقومية يتطلب وضعاً تناحرياً بين دول الإقليم، ويتطلب استغلالاً للقضايا القومية والطائفية باتجاه التفجير... اللوحة اليوم معاكسة (حتى وإنْ بدت الأمور مختلفة بعض الشيء في سورية نفسها، عبر الدفع من قوى بالداخل والخارج باتجاه اقتتال طائفي وقومي)؛ فالفالق «السني الشيعي» الذي تم الاستثمار فيه طويلاً، وأريقت على مذبحه دماء مئات الألوف من أبناء المنطقة، بات معطلاً تماماً (جرى تأريضه بشكل أولي عبر تشكيل ثلاثي أستانا ،الذي ضمن تركيا وإيران إلى جانب بعضهما البعض، واستكمل تأريضه مع المصالحة السعودية الإيرانية برعاية صينية)، والفالق القومي وخاصة عبر القضية الكردية، يجري الآن تأريضه بشكل متسارع عبر مبادرة أوجلان-بهتشلي-أردوغان، وعبر الاتفاق الذي جرى توقيعه بين الشرع وعبدي في 10 آذار.

واشنطن تدير الانكفاء

إذا كانت هذه المؤشرات بمجموعها تؤكد غلبة التيار الداعي للانكفاء ضمن النخبة الأمريكية الحاكمة، فإن المطلوب فهمه هو الآلية التي ستدير واشنطن من خلالها عملية الانكفاء هذه، ولعل قرار رفع العقوبات عن سورية نفسه، يساعد في فهم هذه الآلية على المستوى العام.

إذا كان مركز ثقل العمل الأمريكي خلال محاولاتها عبر عقود متتالية السيطرة على العالم بأسره بشكل متكامل، وخاصة عبر ضرب الصين وروسيا، هو تأجيج التوترات والحروب، وخاصة الحروب البينية والداخلية، واستخدام العقوبات كأداة عامة في رفع التوتر في كل المناطق المستهدفة، فإن مركز ثقل العمل الأمريكي ينتقل اليوم موضوعياً، وبشكل إجباري تقريباً، نحو نقطة توازن جديدة.

الاستمرار في محاولة فرض الهيمنة بالقوة العسكرية والاقتصادية، من شأنه إنهاء أي هيمنة أمريكية على الإطلاق في كل «العالم القديم» وخاصة في آسيا وأفريقيا. ترامب نفسه، على سبيل المثال: وصف العقوبات الاقتصادية بأنها تحولت إلى أداة لتقويض النفوذ الأمريكي ولتقويض العملة الأمريكية، وهو محق تماماً في ذلك، لأن استمرار الضغط على دول العالم المختلفة عبر تحويل الدولار إلى سلاح، دفع ويدفع عدداً متزايداً من الدول إلى الانعتاق التدريجي من المنظومات الدولية المرتبطة بالدولار، بما فيها سويفت وغيرها، والانتقال نحو منظومات وعلاقات بديلة، كما يجري في بريكس وشنغهاي وغيرهما، خاصة وأن العصا الأمريكية الغليظة العسكرية، لم تعد قادرة على أداء الأدوار السابقة بالكفاءة نفسها وبالنتائج نفسها، بل وباتت تجلب نتائج معاكسة في أحيان كثيرة، كما جرى في موضوع الحوثيين مثلاً، وفي المصالحة السعودية الإيرانية...

وإذاً، فإن مركز الثقل الجديد للعمل الأمريكي سيبتعد شيئاً فشيئاً عن الاستثمار المباشر والعلني في العقوبات، وفي التخريب وفي الحروب بالوكالة (مع بقاء التعويل على هذه الأمور بشكل جزئي هنا أو هناك حيث تكون التكاليف أقل من العائدات)، وسيقترب من محاولة استثمار الوضع الحالي للوجود العسكري والسياسي والاقتصادي الأمريكي، في تثبيت نقاط استناد اقتصادية-تجارية-سياسية تسهل عملية الانكفاء وتقلل خسائرها.

سورية ضمن السيناريو الأوسع

بهذا المعنى، يمكن أن نفهم رفع ترامب للعقوبات على سورية، بوصفه واحداً من أدوات التمهيد للانكفاء العسكري عن منطقتنا، مع تأمين ظروف مناسبة لإبقاء قدر ما من التحكم عبر الاقتصاد والسياسة...

لهذا السيناريو الانكفائي (إنْ اكتمل تحوله من إمكانية إلى واقع)، فوائده الكبرى على منطقتنا ككل، وعلى القضية الفلسطينية ضمناً، رغم أن له محاذيره ومخاطره التي تصبح أكبر بشكل خاص حين نفهمه بشكل معكوس، لا كانكفاء بل كتمدد... ولكن المحصلة العامة له هي إيجابية بالضرورة ولمصلحة شعوب المنطقة، ولتعظيمها ينبغي ألا يغيب عن ناظرنا ميزان القوى الحقيقي بالمعنى الدولي والإقليمي، وأن نبني استراتيجيتنا انطلاقاً من هذا الموازين الحقيقية، بما في ذلك عبر بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي، وبالتعاون مع من يلزم من القوى الصاعدة خاصة... الأمريكي لم يرفع عقوباته كبادرة كرم أخلاق أو حسن نية، بل بالضبط لأنه مضطر لذلك... ولا ينبغي لنا كسوريين أن نتعامل مع الموضوع وكأنه مكرمة من علينا بها ترامب، بل هي فرصة هو مضطر لمنحها، ونحن علينا تلقفها والاستفادة منها دون الخضوع لأي شروط اقتصادية أو سياسية مخالفة لمصلحة سورية والشعب السوري...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1227