بين رقم النمو ومؤشر توزيع الثروة...
عماد طحان عماد طحان

بين رقم النمو ومؤشر توزيع الثروة...

تركز الصحافة الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم، على بعض المؤشرات الاقتصادية بوصفها الأداة الأساسية في قياس الوضع الاقتصادي لأي دولة من الدول.

بين المؤشرات التي تحوز عادة أكبر قدر من الاهتمام، رقم الناتج المحلي الإجمالي GDP ويتم على أساسه ترتيب الدول من الأغنى إلى الأفقر، وذلك بالرغم من أن هذا المؤشر مخادع إلى حد بعيد، إذا ما تمت مقارنته بالناتج المحلي الإجمالي وفقاً لتعادل القوة الشرائية GDP(ppp)، والذي ينتج ترتيباً آخر مختلفاً كلياً عن الأول، وهو ترتيب أقرب إلى الواقع لأنه يستند إلى حسابات مرتبطة بالبضائع الملموسة، وليس بالأرقام التي في البنوك.

وطبعاً هنالك مئات المؤشرات الأخرى في الاقتصاد، بينها معدل النمو، الفقر عند الخط الأعلى والأدنى، توزيع الثروة بين أجور وأرباح، ومعدل البطالة، ومعدل التهميش، وطريقة تركيب الناتج المحلي بين الخدمي وغير الخدمي، وإلخ وإلخ...

حين يتم وضع خطة اقتصادية، عادة ما يكون أبرز رقم فيها هو رقم النمو المنشود، ويكون أداة في محاسبة الحكومات في نهاية العام أو وقت الخطة.

وحين ينظر الناس إلى رقم النمو الذي تعد به الحكومات، فإنها تتعامل معه تعاملاً بسيطاً على أساس أكبر من وأصغر من؛ أي كلما كان الرقم الذي تعد به الحكومة أكبر فهذا أمر أفضل، والعكس بالعكس... وهذا الفهم صحيح إلى حد ما، ولكنه غير كافٍ.

رقم النمو ليس هدفاً بذاته، بل ينبغي أن يوضع على أساس المشاكل التي ينبغي حلها في مجتمع من المجتمعات، وعلى أساس معدل النمو السكاني في ذلك المجتمع.

على سبيل المثال: في بلد مثل سورية، معدل النمو السكاني السنوي فيها هو بحدود 2.5% بالحد الأدنى، فإن تحقيق نمو بالاقتصاد بمقدار 2.5% خلال عام يعني أن حصة الفرد في الاقتصاد قد نمت خلال سنة بمقدار صفر مكعب، أي لم يحدث أي نمو، أي أن صفر نمونا هو معدل النمو السكاني... ولذا حين يعدنا وزير اقتصاد بأننا سنحقق نمواً قدره 1%، فهذا يعني أننا سنحقق انكماشاً أو تراجعاً بنسبة 1.5%!

هذا جانب في المسألة، أما الجانب الثاني فيتعلق بحل المهام المطروحة أمامنا على المدى المتوسط والبعيد، ودور رقم النمو فيها.

إذا وضعنا أمامنا مهمة إعادة سورية من حيث رقم الناتج المحلي إلى عام 2011، أي من 19 مليار حالياً وفق تقديرات إسكوا (مع عدم وجود موثوقية كافية بهذا الرقم)، إلى حدود 60 مليار دولار كما كان في 2011. ووضعنا مهمة أبعد هي الصعود نحو 90 مليار دولار، فإن اللوحة تكون بالشكل التالي:

ما تأثير ذلك على الفقر والبطالة؟

هنالك خطآن كبيران يتم ارتكابهما بشكل مستمر حين النظر إلى أرقام النمو وإلى رقم الناتج المحلي الإجمالي؛ الأول: هو افتراض أن مجرد ارتفاع الرقم يعني حل مشكلات الفقر والبطالة. الثاني: هو افتراض أنه يمكن أن ترتفع أرقام الناتج المحلي الإجمالي بشكل حقيقي دون حلٍّ متوازٍ لمشاكل الفقر والبطالة... ولنناقش كلاً من الفكرتين على حدة.

أولاً: في حال ارتفع رقم الناتج المحلي الإجمالي في سورية من 19 مليار، ليس إلى 60 مليار دولار سنوياً، أو 90 مليار، بل وحتى إلى 180 مليار دولار، وليس بعد عشر سنوات بل بعد سنة واحدة، فإن ذلك لا يعني حل مشكلات الفقر والبطالة بشكل آلي... لأن هنالك عاملاً آخر شديد الأهمية، هو عامل توزيع الثروة بين الأجور والأرباح... في سورية حالياً، يحصل أصحاب الأجور الذين يشكلون 90% من السوريين، على 9.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. فإذا كان هذا الناتج هو 180 مليار دولار، وبقي التوزيع على حاله، فإنهم سيحصلون على 16.56 مليار دولار، (أي أن كل فرد منهم سيحصل يومياً على 2 دولار) ما يعني أنهم سيبقون جميعهم تحت خط الفقر! فلنعد صياغة المسألة بشكل مكثف: حتى إذا ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في سورية بشكل خيالي بحت، من 19 مليار إلى 180 مليار، وخلال سنة واحدة، فإن 90 بالمئة من السوريين سيبقون تحت خط الفقر في حال بقي توزيع الثروة، توزيع الدخل الوطني، على حاله... ما يعني أن إعادة توزيع الثروة شرط لازم للتعامل مع الفقر في سورية.

ثانياً: إذا نزلنا من الواقع التخيلي إلى الحقيقي، وجربنا التفكير بكيف يمكن تحقيق أرقام نمو عالية، فإن أول مسألة سنصطدم بها هي (كيف نغلق الدورة الاقتصادية؟)؛ ببساطة، لكي يتمكن أي اقتصاد من السير، فإنه يحتاج أن تدور عجلته على ثلاث محطات بشكل متواصل ومتعاقب، وأي تعثر في أي منها يعني وقوف العجلة ووقوف الاقتصاد ككل والدخول في أزمات. هذه المحطات هي (1-الإنتاج، 2-توزيع/تبادل، 3- استهلاك). وكي لا نطيل في الكلام، في سورية الشعب السوري غير قادر على الاستهلاك لأنه لا يحصل من الجمل، ولا حتى على أذنه، فكيف يمكنه أن يستهلك؟ ما يعني أن العجلة ستتوقف بالضرورة. قد يقدم البعض حلاً «إبداعياً»، ويقول: (إن شاء الله الشعب السوري ستين عمره ما يستهلك... سنصدر إلى الخارج). حتى هذا الحل غير ممكن، لأن تكاليف الإنتاج في سورية هي الأعلى في الإقليم، في ظل دمار البنية التحتية وعدم الاستقرار وإلخ، وربما تكون بين الأغلى في العالم، ولذا فإن إمكانيات تصدير الإنتاج محدودة جداً، ولا يمكن التعويل عليها، على الأقل حالياً. من جهة أخرى، فإن كل الدول التي صعدت اقتصادياً، وخاصة في المثال الصيني، وقبله في المثال الأوروبي، اعتمدت بالدرجة الأولى على رفع الاستهلاك المحلي، وعلى ما أسمته الصين سياسة إحلال الواردات... استطاعت الصين خلال 25 عاماً أن تنتشل 900 مليون صيني من تحت خط الفقر، وأن تصبح الاقتصاد الأول عالمياً.. وكيف قامت بذلك؟ أعادت توزيع الثروة بشكل جزئي لمصلحة عامة الناس، ما سمح بارتفاع الاستهلاك المحلي، وبالتالي ارتفاع الإنتاج...

بكلمة بسيطة، فإن المؤشر الأهم الذي على أي سلطة أو حكومة أن تقدمه للناس قبل رقم النمو، هو مؤشر توزيع الثروة بين الأجور والأرباح، لأنه الأساس ليس فقط في حل مشاكل الفقر والبطالة والتهميش، ولكن لأنه أيضاً الأساس في تحقيق أرقام النمو العالية...

1223aaa

معلومات إضافية

العدد رقم:
1223
آخر تعديل على الأحد, 20 نيسان/أبريل 2025 20:30