هل نستطيع بناء اقتصادنا الوطني دون مساعدات من الخارج؟
يستمر وضع السوريين المعاشي بالتدهور، ولا تظهر في الأفق بوادر تحسنٍ حقيقي في أي مجالٍ من مجالات الاقتصاد؛ فمن جهة ما تزال العقوبات مستمرة، وليس من الواضح إنْ كان سيتم رفعها في أي وقتٍ قريب، بل وتشير التجربة التاريخية إلى أن احتمال رفعها بشكلٍ حقيقي ما يزال بعيداً، رغم المحاولات كلها، التي يجري بذلها بهذا الاتجاه.
من جهة أخرى، ما تزال أوصال البلاد مقطعة بالمعنى الاقتصادي، ليس فقط بما يخص الشمال الشرقي والثروات الموجودة فيه، بل وحتى ضمن بقية المناطق في سورية حيث ما تزال مناطق عديدة تعيش اقتصادها الخاص، بسبب سيطرة فصائل بعينها عليها ما تزال تعرقل عملية خلق السوق الواحدة، وترفض التخلي عن مواردها ومعابرها وطرقها في إدارة مناطقها، رغم قبولها بضرورة حل الفصائل كلها، وحصر السلاح بيد مؤسسات الدولة.
يُعول البعض على مساعدات يمكن أن تأتي من دول صديقة، أو استثمارات يمكن أن تأتي عبر رجال أعمال سوريين أو عرب أو أجانب، ولكن الواقع للأسف هو في مكان آخر تماماً؛ فالدول لن تقدم مساعدات ما دامت العقوبات قائمة، والاستثمارات الفردية لن تأتي ما دامت العقوبات قائمة... كما أن رأس المال بطبيعته جبانٌ، سواء كان الحديث هو عن رؤوس أموال الدول الخارجية أو الأفراد، ولذا لن يقدم على الاستثمار قبل أن يتأكد من أن الأوضاع مستقرة فعلاً بالمعنى السياسي، ولن يقدم على الاستثمار في ظل بنية تحتية متهالكة، وفي ظل تكاليف باهظة للكهرباء وغيرها من موارد الطاقة والمواد الأولية.
هذه الإحداثيات كلها، يمكن أن تصيب الإنسان بالإحباط؛ فالأمر يبدو كما لو أننا ضمن حلقة مفرغة لا يمكننا كسرها أو الخروج منها، وعلينا فقط أن ننتظر رأفة ورحمة الخارج حتى يتحنن علينا فيساعدنا للوقوف على أقدامنا من جديد... ورغم أن البلاد بحاجة فعلاً للمساعدات، لكن في الوقت نفسه، لا يمكننا انتظار تلك المساعدات ولا التعويل عليها، لأنها يمكن ألا تأتي أبداً، أو على الأقل يمكنها أن تتأخر كثيراً، والأسوأ أنها لن تأتي دون شروط سياسية.
رغم هذه المعطيات كلها، فإن كسر هذه الحلقة ممكن وضروري، ويحتاج للعمل بشكلٍ متوازٍ على خمسة أمور:
أولاً: الاستفادة من الصراع الدولي القائم بين الشرق والغرب، وخاصة بين الصين والولايات المتحدة، لتحصيل شروطٍ أفضل للنهوض بالاقتصاد السوري؛ فليس من الصعب على الصين، مقارنة بالدول الإقليمية التي تجاورنا وترغب بمساعدتنا ولا تستطيع، أن تتجاوز العقوبات الأمريكية. مجرد التلويح بوجود خيارات متعددة لدينا كسوريين، يمكنه أن يحسن ويخفف الشروط التي يحاول الغرب فرضها علينا.
ثانياً: ينبغي الدفع بالسبل الممكنة كلها نحو إعادة إنشاء السوق السورية الواحدة المتصلة، التي تعد أساساً لوحدة البلاد ووحدة الشعب، وأساساً لنهوضها من جديد، ودعامة أساسية للسلم الأهلي. بين أهم السبل لاستعادة السوق الواحدة، الحوار الوطني والمؤتمر الوطني وتوسيع المشاركة لتشمل القوى السياسية والاجتماعية السورية كلها.
ثالثاً: يمكننا كسوريين أن نبني نموذجاً اقتصادياً سورياً يتناسب مع ظروفنا الخاصة، ويستفيد من تلك الظروف. نقطة الانطلاق في هذه العملية هي تكوين خريطة استثمارية واضحة المعالم، ومستندة إلى القيم والميزات المطلقة ضمن الاقتصاد السوري، والتي توجد في أنحاء سورية كلها بالعشرات وبالمئات، وتحتاج استثمارات صغيرة ومتوسطة في معظم الحالات، ويمكنها أن تحقق عائدية عالية جداً، ما يحفز نمواً قوياً وتوزيعاً منصفاً للثروات... (الوردة الشامية، النباتات الطبية، حجر البازلت، غنم العواس... وغيرها الكثير).
رابعاً: ينبغي أن يتضمن النموذج الاقتصادي الجديد، سلاسل إنتاج عنقودية مترابطة، تحقق أكبر قدرٍ من القيمة المضافة... على سبيل المثال: يمكن لمزرعة أبقار أن تتحول إلى نقطة انطلاق في مشروع متكامل يحقق عائدية كبيرة، وذلك عبر ربطه بشكلٍ مباشر وضمن سلسلة واحدة مع معامل للألبان والأجبان، ومع مصابغ للجلود ومن ثم مصانع للجلود، ومع مسالخ للحوم ومعامل لتصنيعها وتعليبها، ومن الممكن أيضاً الاستفادة حتى من روث الأبقار في توليد الطاقة بالاستفادة من تقنيات التوليد البسيطة المستندة إلى غاز الميثان، ويمكن الاستفادة منه كسماد عضوي، وتكون مزارع الأبقار هذه مرتبطة بإنتاج زراعي يؤمن لها مدخلاتها... هذا المثال هو مجرد مثالٍ واحد من عشرات الأمثلة التي يمكن للدولة أن تضعها ضمن خريطتها الاستثمارية، ويمكنها أن تقوم هي نفسها بها، أو أن تسمح للقطاع الخاص بأن يقوم بها مع مراعاة شروط محددة، بما يخص العمالة وأجورها وشروط حياتها، وبما يخص الأسعار المنطقية للمنتجات النهائية ضمن السوق الداخلية، والسماح حتى بالتصدير في حال كان ذلك متناسباً مع الوضع الاقتصادي الداخلي.
خامساً: السؤال المحق الذي يمكن أن يطرأ على بال أي شخص يحاول البحث عن حلول لوضع البلاد، هو سؤال الموارد: من أين سنأتي برأس المال؟ كيف يمكن تحقيق التراكم الأولي لإقلاع الاقتصاد من جديد؟ هنالك مصادر متعددة، على رأسها ملكيات الفاسدين الكبار والمجرمين وتجار الحرب، التي يحق للسوريين عبر الدولة، وضع اليد عليها وتحويلها لموارد عملية الإنتاج الوطني، وهي مصادر وموارد ليست بالقليلة أبداً، ويمكنها أن تشكل جزءاً مهماً من الموارد المطلوبة للإقلاع. هنالك أيضاً أموال الفاسدين الكبار ومجرمي السلطة السابقة التي في البنوك الخارجية، والتي ينبغي تكثيف العمل السياسي والدبلوماسي للمطالبة بها والعمل على استرجاعها... ويمكن إضافة إلى هذين المصدرين التفكير بعقود B.O.T كأحد موارد التراكم الأولي، ضمن شروط معقولة، ومن ثم المساعدات، وآخر مصدر ينبغي التفكير فيه هو القروض، الذي ربما نحتاجه، وربما لا نحتاجه في حال تمكنا من العمل بشكلٍ جدي على الموارد الأخرى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1213