إثيوبيا الحبيسة والطرق الوعرة إلى البحر
يبدو أن مستوى الصراع في المنطقة يتطور بسرعة ويستخدم اللاعبون المؤثرون أوراقاً جديدة لم تكن حاضرة في المشهد بهذا الوضوح، وهذا ما يبدو تفسيراً أولياً للتطورات الخطيرة التي تشهدها العلاقات بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي، فماذا يحدث؟ وكيف يمكن قراءته في ظل المشهد الإقليمي والدولي الدقيق؟
أعلنت كلٌّ من إثيوبيا و«أرض الصومال» الجمهورية المعلنة من طرف واحد في القرن الإفريقي في 1 كانون الثاني عن توقيع اتفاقية تتيح لأديس أبابا استغلال ميناء بربرة المطل على خليج عدن في البحر الأحمر، وذلك للأغراض التجارية والعسكرية، وبحسب المصادر الحكومية في الإقليم الانفصالي، يفترض أن تحصل «أرض الصومال» على حصة من أرباح الخطوط الجوية الإثيوبية، واعترافٍ من أديس أبابا بالإقليم كجمهورية مستقلة لتكون بذلك البلد الأول الذي يقر بذلك رسمياً.
الخطوة أثارت بطبيعة الحال حفيظة الصومال التي وقّع رئيسها حسن شيخ محمود قانوناً «يلغي مذكرة التفاهم» واعتبرها غير قانونية وتمس وحدة أراضي بلاده، فالإقليم الواقع في شمالي الصومال يعتبر حتى اللحظة جزءاً من أراضيه، ولا يملك الحق في توقيع اتفاقيّات سيادية مع دول أخرى.
في الحقيقة، لا يحتاج المراقب كثيراً من الوقت حتى يستنتج أن الحدث له ارتدادات إقليمية خطيرة، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التطورات الجارية مؤخراً في المنطقة، ولفهم ذلك لا بد لنا من إعادة عرض بعض المسائل ذات الطابع السياسي- التاريخي؛ فالوضع المتأزم في الصومال جاء كنتيجة لصراع داخلي طويل زاده تعقيداً التدخل الأمريكي بغطاء الأمم المتحدة في تسعينيات القرن الماضي، هذا بالإضافة إلى التعقيدات الناتجة عن التدخلات الإثيوبية المتكررة.
بعد احتلال بريطانيا شمالي الصومال وإيطاليا لجنوبه كان خيار الإقليمين هو الاتحاد وتحقق ذلك بعد استقلالهما عام 1960، لكن قوى الاستعمار السابقة والدور الأمريكي اللاحق حافظ على مستوى عالٍ من التوتر لا في داخل الصومال فحسب، بل في كامل القرن الإفريقي «مسرح الحدث الحالي». وكما كانت سياسات الاستعمار دائماً، كان من الضروري بالنسبة للمستعمرين ترك قضايا إشكالية عالقة، لتتحول إلى عثرة كبرى بوجه أي مشروع وطني تنموي للدول الإفريقية بعد استرداد استقلالها، لتكون هذه القضايا موضوعاً لنزاعات داخلية وإقليمية. أي أن البنية السياسية الكاملة كانت مصمّمة لتوليد المُشكلات باستمرار، وهو ما يمكن أن يشكّل الإطار العام لمعظم النزاعات والتطورات التي شهدتها تلك المنطقة الاستراتيجية.
«أرض الصومال» أو المعروفة باسم «صوماليلاند» واجهت منذ إعلان استقلالها حالة عزوف دولي جماعي على المستوى الرسمي عن بناء علاقات دبلوماسية معها، إذ لم تستطع تحصيل اعتراف رسمي، وهذا ما حال دون استقرارها، وسوّف الصراع إلى وقتٍ لاحق. لكن وعلى الرّغم من ذلك سعّت دول عدّة تاريخياً لإيجاد قنوات اتصال دبلوماسية مع الإقليم الانفصالي لم تصل حد الاعتراف، وذلك نظراً لأهميته الاستراتيجية كونه مطلاً على مضيق أساسي في التجارة العالمية، ومنفذاً مهماً إلى البحر الأحمر بالنسبة لدول إفريقيا الحبيسة، وتحديداً إثيوبيا التي خسرت إطلالتها البحرية مع استقلال إريتريا بعد صراع عنيف استمر لسنوات، وانتهى في 1993. وأشارت مصادر حكومية من «أرض الصومال» إلى وجود علاقات مع عشر دول أساسية ومكاتب تمثيلية لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وتايوان وتركيا وإثيوبيا وجيبوتي والإمارات.
«جملة معترضة»
كان للكيان الصهيوني دور معروف ومعلن في الصومال، واستثمر الكيان في تلك الأزمة وغذّاها وكان حاضراً على عدد من المستويات، ويبدو في الفترة التي تلت الإعلان عن الاستقلال من طرف واحد، أن اهتماماً متبادلاً بتطوير العلاقات الثنائية كان ينمو بوضوح، فهناك رسالة أرسلها رئيس «صوماليلاند» في عام 1995 إلى إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان في ذلك الوقت، يعرض خدماته بمقابل اعترف رسمي من «إسرائيل».
الرسالة تشير إلى أن القيادة في الإقليم كانت تدرك استراتيجية موقعه، وتعلن استعدادها لدور إقليمي مأجور، وذكرت بشكلٍ صريح أن موقع «صوماليلاند» قادر على التأثير على منطقة جغرافية واسعة في إفريقيا واليمن والسعودية، فضلاً عن إطلالته على مضيق باب المندب وأهمية ذلك بشكل خاص بالنسبة للكيان الصهيوني، كون هذا الأخير كان يتبنى دائماً استراتيجية قائمة على تعميق علاقاته مع الدول في المحيط العربي، وتحديداً تلك التي يمكن أن تلعب دوراً محورياً في الصراع العربي- الصهيوني، وأبدى اهتماماً بهذا النوع من العلاقات التي كانت تنمو وتتوسع مع السنوات، وحتى حين نفى الرئيس الحالي وجود علاقات رسمية مع الكيان في عام 2005 اعتبر أن قرار التطبيع بيد الحكومة، وأن صلاحياتها تتيح لها توقيع اتفاقية من هذا النوع، وأكد أن «لا مشكلة في ذلك» متذرّعاً بوجود اتفاقيات بين الكيان ودول عربية أخرى.
صورة شاملة
كل ما سبق يعطي صورة أولية عامة عن طبيعة المشهد والامتدادات الإقليمية والدولية في «أرض الصومال» لكن بعض مفاتيح فهم التطورات الأخيرة يرتبط بمجموعة من المسائل، أولها: أن إثيوبيا تتعرض لمجموعة كبيرة من الضغوط، أهمها: مسألة الديون الخارجية التي تشكل مع تكاليف نقل واستيراد البضائع من الدول المطلة على البحر الأحمر- وتحديداً جيبوتي وإريتريا- عبئاً ثقيلاً، وكان آبي أحمد قد عبّر في تشرين الثاني الماضي، أن «وجود منفذ بحري هو قضية حياة أو موت لبلاده الحبيسة»، مشيراً إلى «أنها ستحصل على هذا الحق بالقوة أو بوسائل أخرى».
قضية المنفذ البحري تشبه إلى حدٍ ما الدعاية الإثيوبية حول سد النهضة وارتباطه بالمصلحة الوطنية، ويبدو أن الأزمة العميقة التي يعيشها البلد الإفريقي الضخم، تفرض عليه البحث عن مخارج، لكن خيار إثيوبيا في هذه اللحظة الدقيقة في عقد اتفاقية من هذا النوع والاعتراف بإقليم انفصالي، وبالتالي تقسيم الصومال ورفع درجات التوتر بالمنطقة، سيأتي بنتائج عكسية على إثيوبيا نفسها، ويمكن أن يشير إلى أصابع خفية ربما لعبت دوراً في دفع أديس أبابا بهذا الاتجاه! فكانت الأخيرة وقعت عام 2017 اتفاقاً ثلاثياً مع أرض الصومال وشركة موانئ دبي العالمية لتشغيل وتطوير ميناء بربرة ذاته، على أن تحصل الإمارات على قاعدة عسكرية في المنطقة، لكن إثيوبيا انسحبت في ذلك الوقت بسبب مصاعب لوجستية منعتها من الإيفاء بتعهداتها، ما دفع باحثين إلى طرح تساؤلات، حول مصادر تمويل الاتفاقية الحالية، وخصوصاً في ظل تخلف إثيوبيا عن سداد ديونها.
لا شك أن شكل تطور الأمور في الأيام اللاحقة سيكشف كثيراً من التفاصيل، لكن تظل لحظة إعلان الخطوة مؤشراً مهماً على أن أطرافاً من خارج الإقليم تسعى إلى رفع درجة التوتر في باب المندب ومنطقة القرن الإفريقي ما يعني التأثير على ضفتي البحر الأحمر، وخصوصاً مصر، التي تتأثر بشكل مباشر، نظراً إلى أن تطورات من هذا النمط ستكون عامل ضغط إضافي على حدودها الجنوبية، ورغم أن الدور الإماراتي كان حاضراً في «أرض الصومال» منذ سنوات، لكن لا يمكن النظر إليه بوصفه العامل الخارجي الوحيد، فالسلوك الأمريكي في باب المندب واليمن خلال الأسابيع الماضية، يؤكد أن واشنطن تتعامل مع هذه المنطقة كمسرح لعملياتها، ولا يمكن إلا أن نقول: إنّ السفن الحربية الغربية النشطة في باب المندب هي جزء من عملية أوسع تجري في المنطقة، قد لا تتدخل واشنطن فيها بشكل مباشر، ولكنها قادرة عبر أدواتها المتنوعة على الضغط على الدول، وربما توجيه سلوك بعضٍ منها بما يخدم رفع حرارة المشهد في تلك البقعة الحساسة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1158