المنظومة الإقليمية و«طوفان الأقصى»؟
للأسبوع الثاني على التوالي، ما يزال الحدث الفلسطيني هو الحدث الأساسي ليس ضمن حدود فلسطين فحسب، بل وفي منطقتنا وفي العالم. وهو حدثٌ نوعي غير مسبوق ما تزال التحليلات المختلفة تحاول مقاربة أبعاده ونتائجه المحتملة على المدى القريب والمتوسط والبعيد.
في هذا الإطار، وبالتحديد في محاولة فهم أبعاد الحدث على سورية والمنطقة، ربما من المفيد الوقوف بشيءٍ من الاستفاضة عند إحدى الأفكار التي جاءت في افتتاحية قاسيون العدد 1143 المنشورة الأسبوع الماضي تحت عنوان «الطوفان سيعم المنطقة بأسرها»؛ الفكرة المقصودة هي التالية: «إنّ وجود الكيان الصهيوني في قلب منطقتنا، تحوّل مع الوقت إلى جزء أساسي من المعادلات الداخلة في تركيب مجمل النظام الإقليمي، والمؤثرة في تركيب الأنظمة السائدة فيه. تهافت هذا الكيان وتراجعه والاقتراب من حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وشاملاً، سيعيد تركيب كل المعادلة الإقليمية، وسيعيد تركيب مجمل الأنظمة في منطقتنا».
بعضٌ من تاريخ المسألة
مع أنّ وعد بلفور (تشرين الثاني 1917) ليس نقطة البداية- إذ من الممكن العودة بتاريخ المسألة إلى مؤتمر بازل 1897 وحتى إلى ما قبله- إلا أنه (وعد بلفور) نقطة علّام أساسية لبدء تحول المشروع الصهيوني نحو التنفيذ العملي واسع النطاق.
أنْ يأتي وعد بلفور مع نهايات الحرب العالمية الأولى، فذلك ليس مصادفةً بحالٍ من الأحوال. بل وليس من الصعب الاستنتاج أنه، من حيث الجوهر، قد شَكّل ملحقاً تكميلياً لاتفاقات سايكس بيكو التي سبقته بعامٍ ونصف تقريباً (أيار 1916).
بكلامٍ أوضح، فإنّ كلاً من اتفاقات سايكس بيكو، ووعد بلفور كملحقٍ لها، قد كانت شكلاً من أشكال التقاسم الاستعماري لمنطقتنا على أساس نتائج الحرب العالمية الأولى.
بالتوازي مع عملية التقاسم هذه، حدثت ثورة أكتوبر في روسيا، وهي بالذات من فضحت اتفاقات سايكس بيكو ورفضتها وانسحبت منها، حيث كانت روسيا القيصرية ما قبل الثورة جزءاً منها إلى جانب فرنسا وبريطانيا.
بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتوازي مع صعود روسيا ومن ثم الاتحاد السوفييتي، انطلقت بشكل أوسع حركات التحرر الوطني في بلدان «العالم الثالث» التي كانت في حينه واقعة تحت الاستعمار الأوروبي. الدفعة النهائية باتجاه الاستقلال والتحرر الوطني جاءت مع نتائج الحرب العالمية الثانية، التي انتصر فيها الاتحاد السوفييتي بشكلٍ مباشر، والولايات المتحدة بشكل غير مباشر، بينما أوروبا الغربية (الاستعمار القديم) خرجت مهشمةً ومحطمة بالكامل تقريباً.
ويمكن القول: إنّ الاتجاه التحرري الذي شمل معظم بلدان «العالم الثالث»، قد ترافق مع اتجاه معاكسٍ بما يخص القضية الفلسطينية؛ فبينما كانت الدول تتحرر من الاستعمار التقليدي، كان الصهاينة يحتلون فلسطين بدعمٍ من البريطاني بداية، ومن ثم الأمريكي وصولاً إلى إقامة «الدولة» عام 1948. وبدرجة من التجرد، يمكن القول: إنّ الحفاظ على المشروع الصهيوني في منطقتنا، رغم الاتجاه التحرري الشامل لها، كان الجائزة الأمريكية المباشرة لهيروشيما وناغازاكي.
أي أنّ الولايات المتحدة، كمنتصر ضمن الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد كأكبر المنتصرين بالمعنى الاقتصادي (لأنها لم تخسر شيئاً تقريباً في الحرب مقارنة بالآخرين)، قد اعتبرت «إسرائيل» جائزتها الإلزامية كاستعمار استيطاني في قلب المنطقة، مع القبول الاضطراري بالزوال التدريجي للاستعمار المباشر من بقية أرجاء منطقتنا.
وبكلامٍ آخر، فإنّ الولايات المتحدة، وكما توضح مذكرات قادتها في حينه، كانت تعمل على تجميع أكبر قدرٍ ممكن من الميراث الاستعماري البريطاني والفرنسي، عبر السيطرة الاقتصادية السياسية، وعبر السيطرة الاستعمارية الاستيطانية المباشرة في الحالة الفلسطينية.
الانتقال من الاستعمار القديم للجديد
مع نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كانت حركة التحرر الوطني في معظم دول العالم قد أوشكت على استنفاد طاقتها التاريخية، (وربما يكون ذلك عائداً في أحد أسبابه الأساسية إلى الدورية التاريخية بين صعود وهبوط نشاط الجماهير...). تعزز الأمر أكثر مع بداية الانعطافة السلبية التي جرت في الاتحاد السوفييتي ما بعد ستالين، والتي كانت نقطة الانطلاق الأولى لانهياره اللاحق الذي جرى بعد ذلك بحوالي 35 سنة.
أواسط الستينيات، وخاصة مع نسف خروتشوف للمنظومة المالية المضادة للدولار التي أرساها ستالين، اكتمل بناء منظومة الاستعمار الجديد الاقتصادي؛ منظومة التبادل اللامتكافئ بآلياتها الأربع (الديون، مقص الأسعار، التبعية التكنولوجية، هجرة العقول)، وكل ذلك ضمن فقاعة الدولار.
منطقتنا
الوقائع الجديدة منذ أواسط الستينيات في منطقتنا، وضعت أمام الشعوب مهمتين متلازمتين؛ استكمال التحرر الوطني بالاستقلال الاقتصادي من منظومة النهب الغربية من جهة، واستكمال التحرر الوطني بمعناه التقليدي من وجود كيان استيطاني توسعي في قلب المنطقة.
ما جرى فعلياً خلال خمسين عاماً تقريباً، هو أنّ معظم النخب التي وصلت إلى السلطة بشكل أو بآخر، لم تنجز أياً من المهمتين. والأسوأ، أنها استخدمت القضية الفلسطينية بالذات كغطاء لعدم تنفيذ الاستقلال الاقتصادي؛ فباتت تكثر من الشعارات ذات الاتجاه اليساري والتقدمي، بينما تمارس في الواقع سياسات يمينية ورجعية داخلياً.
لا شك، أنّ وجود مستعمرٍ على عتبة الديار، بل ومحتلٍ لقسمٍ منها كما هي الحال مع سورية ومصر ولبنان، هو عبءٌ هائل على اقتصاد أي دولة؛ فهذا يتطلب ميزانيات كبيرة بشكل مستمر يتم صرفها على التسلح وعلى التدريب وتحضير المجتمع لحالة المعركة. وهذا من شأنه أنْ يؤثر بشكل كبير على هيكلية وبنية الاقتصاد في تلك الدول، وأن يحد من إمكانيات التنمية الشاملة.
ولكنّ هذا وحده لا يفسر بحالٍ من الأحوال الأوضاع المتخلفة تنموياً واقتصادياً التي تعيشها البلدان الثلاثة المذكورة؛ فحتى إذا افترضنا عدم وجود عدو على عتبة الديار، فإنّ التسلح وتعزيزه هو شأن أساسي من شؤون أي دولة في عالمنا المعاصر، بما فيها سويسرا التي تقدم نفسها حيادية اتجاه العالم بأسره. ولذا، وبما يخص بلداننا، فإنّ ما بدأ بوصفه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، قد تحوّل مع الوقت إلى «لا صوت يعلو فوق صوت الفاسدين والذريعة هي المعركة». شمل ذلك استخدام «فكرة المعركة» كأداةٍ في القمع السياسي الداخلي، حيث السلطات هي المحتكر الوحيد للشعار الوطني والقضية الوطنية، والشعب الذي يضحي من أجل القضية مقتنعاً، متهمٌ بالتخاذل وبالخيانة، أفراداً وجماعات، حتى يَثْبُتَ ولاؤه للسلطة، لا للقضية.
الاستخدام الممنهج للقضية الوطنية والفلسطينية ضمناً، كـ «شعارٍ سياسي» موجه ضد أصحاب القضية الفعليين، أي عموم الناس، لم يضر بمصالح الناس والدول فحسب، بل وأضر بالقضية نفسها.
ما يجري مع طوفان الأقصى من خطوة كبرى باتجاه حل القضية الفلسطينية بشكل حقيقي، وبالاستناد إلى المقاومة الحقيقية والملموسة، وإلى ميزان قوى دولي جديد داعمو الكيان فيه هم الأضعف، سيضع مجمل المنظومة الإقليمية السائدة في مهب التغييرات الكبرى؛ فالناس احتملت النهب والقمع طويلاً لأنها تناصر القضية فعلاً لا قولاً... ومع انفتاح باب حل القضية بشكل ملموس، فإنّ ورقة التوت الأخيرة ستسقط، (وبالأحرى الوظيفة الشكلية المدّعاة)... ولن يبقى سوى النهب والقمع والفساد والارتباط الفعلي بالمراكز الغربية اقتصادياً «على الأقل»، وهي الأشياء التي لم يعد ممكناً أن تستمر في ظل الوقائع الجديدة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1144