جانب من جوانب الثقب الأسود: «منطقة الـ 55 كم»
تبدو المنطقة المسماة «منطقة الـ 55» والتي تقع في الزاوية الشرقية الجنوبية من سورية، وتسيطر عليها الولايات المتحدة وبريطانيا، كأنما هي ثقب أسود... في هذه المنطقة توجد القاعدة الأمريكية الأكبر في سورية، قاعدة التنف، وفيها يوجد مخيم الركبان، وكذلك توجد فصائل عسكرية تعمل تحت إمرة «التحالف الدولي» المقاد أمريكياً.
المعلومات شحيحة جداً عن طبيعة النشاط الأمريكي الجاري هناك، ولعل أحد أسباب شح المعلومات هو أنّ هذه المنطقة بالأساس ليست مسكونة، أو أنّ السكان فيها قليلو العدد، نتيجة طبيعتها ومناخها الأقرب إلى الصحراوي، لأنّ السكان المدنيين في سورية، وفي كل المناطق ورغم ما مر عليها حتى أيام سيطرة داعش، كانوا مصدراً أساسياً للمعلومات، بحيث لم تلف السرية الكاملة أي منطقة من المناطق السورية، بما في ذلك الرقة مثلاً أثناء سيطرة داعش عليها... أما التنف، وعموماً منطقة الـ55 كم، فوضعها بقي طي السرية إلى حد كبير، على الأقل من وجهة نظر وسائل الإعلام.
تشكل هذه المنطقة، بكل الغموض الذي يحيط بها، مركزاً أساسياً للنشاط الأمريكي في سورية، وقد شهدت حصة كبيرة من النشاط الأمريكي في الآونة الأخيرة. وبين ما ظهر وأعلن عنه من نشاطات تشكيل ما يُسمى بـ «جيش سوريا الحرة». كما تم تداول أخبار في الفترة الماضية حول تدريبات مشتركة بين «جيش سوريا الحرة» والتحالف الدولي ضد داعش في المنطقة الشرقية من سورية، وزيادة في نشاط المجموعة في المنطقة الشرقية التي يتواجد فيها.
من هو «جيش سوريا الحرة»؟
تأسس ما يسمى بـ «جيش سوريا الحرة» في منتصف عام 2015، وكان هدفه المعلن محاربة وإخراج داعش من جنوب شرق سورية، ولم يكن يحمل هذا الاسم في حينه بل حمل عدة أسماء على التوالي؛ كان آنذاك، في 2015، تحت مسمى «جيش سوريا الجديد» وفي نهاية 2016 أصبح اسمه «جيش مغاوير الثورة» والذي ما زال اسماً متداولاً له بالرغم من أنه تم تغييره إلى «جيش سوريا الحرة» في نهايات 2022.
بقاء التشكيل على حاله من حيث الجوهر، ومن حيث التوجهات مع تغيير الاسم، يستدعي إلى الذاكرة تجربة «النصرة»، والتي مرت هي الأخرى بعدة مسميات، كل منها يتناسب مع متطلبات المرحلة المعنية من وجهة نظر مشغليها، والذين هم أنفسهم مشغلو «جيش سوريا الحرة».
ووفق معرفاته على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن هذا التشكيل هو «شريك التحالف الدولي للقضاء على داعش». ويتخذ «جيش سوريا الحرة» من قاعدة التنف– التابعة لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة– مقراً له.
عند تأسيسه، والذي تزامن مع استيلاء داعش على التنف، تلقى عناصره التدريب في الأردن، وكان تعدادهم حوالي 120، وتم إرسالهم إلى التنف في تشرين الثاني 2015 وبدأوا بالقيام بعمليات تم الادعاء بأنها أدت إلى إخراج داعش من التنف في آذار 2016، وهو الأمر الذي تم إخراجه بشكل سيئ بحيث لم يصدقه أحد... آنذاك كان اسم المجموعة «جيش سوريا الجديد» والذي كان جزءاً مما يسمى «جبهة الأصالة والتنمية»، ولكن مرة أخرى تم طرد «جيش سوريا الجديد» من الجبهة في آب 2016.
في نهايات 2016، تم حل «جيش سوريا الجديد» بعد خلافات داخلية، وتبع ذلك تجميع بعض فلوله تحت اسم «جيش مغاوير الثورة» بقيادة عبد الله الزعبي، في كانون الأول 2016، وكان تعدادهم آنذاك حوالي 300 عنصر، والذي تناقص لاحقاً إلى حوالي 50، ليعود لاحقاً في نهايات 2018 إلى حوالي الـ 300. وفي خريف 2022 قام التحالف الدولي بقيادة أمريكية بإعفاء قائد «جيش مغاوير الثورة» مهند الطلاع، واستبداله بمحمد فريد القاسم، والذي ما زال قائده حتى الآن، وتمت إعادة تسمية المجموعة بـ «جيش سوريا الحرة» والذي يقدّر تعداد عناصره اليوم بحوالي 500.
لا يمكن للمرء أن يمر على الأرقام أعلاه دون أن يلفت انتباهه إصرار مشغلي هذا التشكيل على إدراج كلمة «جيش» في تسمياته المختلفة، وهو الأمر المثير للسخرية؛ فالتعداد- المعلن على الأقل- بالكاد يسمح بتشكيل كتيبة، وفي بعض الأحيان انخفض إلى تعداد سرية، ما يجعل من المهام التي يدّعي هذا التشكيل قيامه بها مدعاة للسخرية هي الأخرى: مناورات مشتركة مع التحالف! محاربة داعش! ومحاربة تهريب المخدرات!
ليس من الصعب أن يقدر المرء أنّ وجود مثل هكذا تشكيل، ومحاولة تضخيمه إعلامياً، لا يتعلق بحجمه أو بقوته من قريب ولا من بعيد، بل يتعلق بتحقيق غايات أخرى، ربما يمكن تخمين بعضها، وهو ما سنفعله تالياً...
التحركات الأخيرة لـ «جيش سوريا الحرة»
بدأت قبل أيام تتوارد أخبار حول مناورات مشتركة بين القوات الأمريكية في منطقة التنف مع «جيش سوريا الحرة»، الأمر الذي ورد أيضاً على صفحة المجموعة على التواصل الاجتماعي في 4 تموز، والذي قالوا فيه: «كجزء من مهمتنا المشتركة لضمان الأمن والاستقرار وتعزيز القدرة القتالية المشتركة في منطقة الـ ٥٥كم. أكمل جيش سوريا الحرة والتحالف الدولي ضد داعش مناورات تدريبية مشتركة استمرت عدة أيام. امتدت المناورات التدريبية على طول منطقة الـ 55 كم وتضمنت تدريبات استطلاعية ودفاعية بالذخيرة الحية، وشملت سيناريوهات التدريب على تعقب وإزالة تهديدات داعش لمنعها من تهديد سكان منطقة الـ 55 كم». وحسب المتحدث باسم المجموعة، عبد الرزاق الخضر، في تصريح للمدن في ذات اليوم، «فإن المناورات التي استمرت لأيام عديدة، شملت كافة أنحاء المنطقة 55، وتم استخدام الذخيرة الحية والمهام الاستطلاعية والدفاعية»، وأضاف، أن الهدف هو «إظهار قدراتنا المشتركة للدفاع عن المنطقة وحماية المدنيين فيها».
كما أن للمجموعة، وفق ما تنشره على حساباتها على التواصل الاجتماعي ومن خلال حساب قائد المجموعة، فإن لها نشاطات في مخيم الركبان وكذلك في مجال «ملاحقة وإيقاف تجارة المخدرات».
الغايات المحتملة
نعتقد أنّ بين غايات إيجاد الأمريكان لهذا التشكيل، ما يلي:
أولاً: إذا افترضنا عدم وجود سوريين مدنيين وعسكريين في منطقة الـ 55، فإنّ وجود الأمريكي والبريطاني في تلك المنطقة سيظهر بشكل علني وواضح بوصفه احتلالاً؛ ولذا لا بد من التغطي بسوريين مدنيين (مخيم الركبان)، وعسكريين (جيش سوريا الحرة).
ثانياً: وجود «جيش سوريا الحرة» تحت يد الأمريكي وضمن الـ 55، يمكن أن ينفع كوسيلة للتغطية على تحركات داعش من الجيوب التي ما تزال فيها في البادية السورية، باتجاه التنف، وبالعكس... حيث تشكل القاعدة الأمريكية في التنف مركزاً أساسياً للإمداد والتدريب لعناصر داعش، وكذلك مركزاً أساسياً لنقل عناصر داعش بالاتجاهات المطلوبة أمريكياً، سواء نحو إفريقيا الوسطى أو أوكرانيا أو غيرها من الوجهات.
ثالثاً: وجود هكذا قوات «سورية» تابعة للأمريكان على حدود الأردن، وفي اتصال محتمل مع الشمال الشرقي ومع الجنوب الغربي السوري، هو أمر مهم بالنسبة للأمريكان في إطار العمل على الاحتمالات المختلفة الممكنة في المستقبل، بما فيها استعادة الوضع العنفي إذا لزم الأمر.
رابعاً: أيضاً، الوجود على حدود الأردن المنخرطة في تطبيع مع الكيان الصهيوني منذ أمد بعيد، يسمح بتحويل التنف إلى ممر للنشاطات الصهيونية في سورية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1130