حول عودة سورية إلى الجامعة العربية... من وجهة نظر سورية وعربية

حول عودة سورية إلى الجامعة العربية... من وجهة نظر سورية وعربية

أولاً: إنهاء تجميد عضوية سورية، والحل السياسي...

يقدم لنا المحللون السياسيون، والسياسيون أنفسهم، في ضفتي التشدد السوري، سردية موحدة حول معنى وأسباب إنهاء تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية.
قوام هذه السردية هو ما يلي: عودة سورية إلى الجامعة العربية هي انتصارٌ للنظام السوري، وهي هزيمة لإرادة التغيير. وبالمحصلة، فهي إغلاق لباب التغيير، وشطب لكل ما جرى في سورية مما بعد 2011.
وإذا كان من المفهوم أنْ يحاول المتشددون ضمن النظام تصوير ما يجري بهذه الطريقة، رغم فهمهم أنّ الأمر ليس كذلك إطلاقاً، فإنّ من العجيب أنْ يتبنى من يقدمون أنفسهم دعاةً للتغيير السردية نفسها، بل وأنْ يتبرعوا بترويجها، وبالبحث عن إثباتات لها.
ولكن العجب هذا يزول حين يضع القارئ أمامه مجمل تاريخ المسألة، الذي يشير بما يكفي ويزيد من الدلائل إلى أنّ وجود سردية موحدة من حيث الجوهر ليس أمراً جديداً على الإطلاق، بل ينبع بالأساس من التقاطع البرنامجي بين المتشددين في كلا الطرفين، ومن معاداتهما للتغيير الجذري واتفاقهما الضمني على أنّ المعركة هي معركة على تبديل الطرابيش، و«تداول السلطة» وليست معركة لتغيير النظام.
كي لا يبقى الكلام عاماً ونظرياً، لا بد من العودة إلى اللحظة التي تم فيها تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية (والتي اعتبرها البعض انتصاراً للشعب السوري في حينه)، لفهم معناها وهدفها في ذلك الظرف.

التجميد- التدويل- الإسقاط- الحرب

تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية أواخر عام 2011، ومن ثم منح مقعدها مؤقتاً للقسم من المعارضة المتوّج غربياً، كان جزءاً من رسمة متكاملة، أهم عناصرها ما يلي:
أولاً: القرار في حينه جاء بضغطٍ غربي، واستكمالاً لتوجه الجامعة في حينه، الذي أعرب عنه بما يكفي من الوضوح موقفها بما يخص ليبيا. أي أنّ الجامعة في حينه كانت تلعب دور المبرر والمسوّغ للتدخلات الغربية المباشرة، ولتدويل الأزمات المحلية، بمعنى تسليم الغرب والأمريكان خاصة، قيادها.
ثانياً: الرسمة الموافقة لسلوك الجامعة وقتها، هي رسمة «إسقاط النظام» التي تعني في جوهرها، تبديل الطرابيش، مع الحفاظ على البنية الداخلية نفسها، كما جرى في تونس ومصر والسودان وأماكن أخرى متعددة. وطبعاً يتم ذلك بدرجات متفاوتة من الخراب والدمار وفقاً لكل حالة... ولكن المشترك، هو أنّ عملية التغيير الجذرية يجري استبعادها لصالح تبديلات شكلية.
ثالثاً: إلغاء الاعتراف بالنظام والاعتراف بـ«المعارضة» هو الوصفة الأنسب لتحويل الصراع إلى حرب ملحمية لا نتيجة لها إلا بوجود غالبٍ مطلق ومغلوبٍ مطلق، مع ما يعنيه ذلك من دمارٍ هائل وخسائر فظيعة.
رابعاً: إلغاء الاعتراف يعني ضمناً القفز فوق فكرة الحوار، وفكرة الحل السياسي بشكل نهائي؛ فالحل يحتاج طرفين معترفٍ بهما، لا طرفاً واحداً معترفاً به والآخر غير معترف به. ولذا فإنّ تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية كان المقصود منه إغلاق باب الحوار والحل السياسي وفتح باب الحرب، وهو ما جرى للأسف.
بعد هذا، هل كان من الممكن اعتبار تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية أواخر 2011 انتصاراً للشعب السوري؟؟ لا شك أنه كان انتصاراً فارغاً لبعض أتباع الغرب ضمن المعارضة الذين جرى تتويجهم «ممثلين للشعب السوري»، ولكن لا شك أيضاً أنه كان انتصاراً للمتشددين في النظام الذين باتت المعادلة الماثلة أمامهم، ومن وجهة نظرهم، بسيطة كل البساطة: لا داعي ولا مبرر لتقديم أي تنازلات للشعب السوري، لأنّ المطلوب هو إسقاط النظام، وبالتالي فإنّ المعركة هي معركة موت أو حياة.
المؤكد، هو أنّ قرار تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية كان خسارة أكيدة للشعب السوري على اختلاف آرائه واصطفافاته السياسية؛ فهذا القرار بالذات كان المدخل نحو التدويل من جهة، ونحو تكريس معادلة «إسقاط- حسم» من جهة أخرى... وتالياً، كان المدخل لفتح أبواب جهنم على الشعب السوري، والتي كان بوابوها من المتشددين والفاسدين الكبار داخل سورية وخارجها، ومعهم القوى الغربية ودعمها بالمال والسلاح والإعلام، مستعدين لإشعال حفلة التدمير الشاملة والرقص حول نارها التي رُمي فيها شعب بأكمله.

والآن؟

لا يمكن فهم قرار إلغاء تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية دون فهم مسألتين، الأولى: هي الخلفية التاريخية للمسألة، والتي مررنا عليها بشكل مكثف أعلاه، والثانية: هي الظروف الدولية والإقليمية المقارنة؛ بين قرار التجميد وإلغاء قرار التجميد...
التوازن الدولي بين 2011 و2023 اختلف اختلافاً واسعاً جداً إلى الحد الذي يمكن القول فيه: إنّ القرارين قد اتخذا في عالمين مختلفين تماماً؛ عام 2011 كانت القوى الصاعدة ما تزال في بدايات منحنيها الصاعد، بل قل: إنها كانت في الثلث الأول ربما من ذلك المنحني. والقوى المتراجعة كانت في الثلث الأول من منحنيها الهابط... والمحصلة كانت ما تزال مائلة لمصلحة القوى الغربية المتراجعة.
وإذا تحرينا الدقة أكثر، يمكن القول: إنّ الميزان الواقعي للقوى قد وصل حدود التوازن الصفري مطلع 2011 وخاصة مع الفيتو الروسي الصيني الأول بخصوص سورية. ولكن وصول التوازن إلى المرحلة الصفرية بالمعنى الاقتصادي كان لا يعبر عن نفسه بعد بما يكفي في السياسة والثقافة وإلخ، وهي المجالات التي دائماً ما يتأخر ظهور الموازين الاقتصادية الجديدة فيها قدراً من الزمن يقل أو يزيد.
وضمن هذا الميزان، فإنّ الدول العربية بمعظمها، والجامعة العربية كمؤسسة، كانت ما تزال ملحقاً من ملحقات النظام الدولي الأحادي القطبية. وعليه، فقد كان من الطبيعي أن تلعب دور «المشرّع» للتدخلات الغربية وللمصالح الغربية.
الآن، ونحن في عام 2023، وكما أسلفنا، فإننا نعيش في عالمٍ آخر مختلفٍ بشكل كبير عن ذاك الذي كان في 2011؛ قدرة الأمريكان على ضبط إيقاع كل دول المنطقة قد انخفضت بشكل هائل... ليس أدل على ذلك من التسوية السعودية الإيرانية بوساطة صينية، ناهيك عن ملف أوبك+، وكذا جملة التسويات التي جرت بين تركيا والسعودية ومصر، وكذا سلوك تركيا في عدد كبير من الملفات التي بات يصعب حصرها، ولكن في مقدمتها: العمل المتناغم ضمن ثلاثي أستانا إلى جانب روسيا وإيران.
ضمن هذه المعادلات الجديدة، وضمن هذا الواقع الجديد، ومع الأخذ بالاعتبار ارتفاع مستوى التنسيق بين السعودية وروسيا في عدد غير قليل من الملفات، فإنّ عودة سورية إلى الجامعة العربية هي كسر وإغلاق لباب «الحسم والإسقاط»، وفتح لباب الحل السياسي القائم على اعتراف الأطراف ببعضها البعض، واعترافها بالقرار 2254، رغم أنّ هذا الاعتراف ما يزال خجولاً، لكنه اعتراف على كل حال، لن يلبث أن يتحول إلى مقدمة للتنفيذ الفعلي، خاصة مع تقدم التسوية السورية التركية نحو نهاياتها، وهو الأمر الذي يلوح في الأفق رغم كل العرقلات السابقة واللاحقة...

1124-27

ثانياً: ماذا يريد العرب من إعادة سورية للجامعة العربية؟

توجهت معظم القراءات الخاصة بقرار الجامعة العربية إنهاء تعليق عضوية سورية فيها، إلى محاولة استقراء تأثيرات ذلك المحتملة على الأزمة السورية، ناهيك عن الخطب العصماء للمتشددين في الطرفين، التي تعاملت مع الموضوع تعاملها مع كل المواضيع الأخرى؛ أي بوصفه وسيلةً لإعادة إنتاج خطابها القديم نفسه.
ورغم أنّ انصراف القدر الأكبر من القراءات على الأوجه التي ذكرناها هو أمرٌ متوقع ومفهوم، إلا أنّه لا ينتقص إطلاقاً من أهمية قراءة المسألة من وجهة نظر الدول العربية التي اتخذت القرار ودفعت نحوه؛ لأنّ فهم الدوافع الحقيقية وراء القرار يحمل أهمية كبرى ليس فقط لفهم دوافع العرب، بل ولكي نتمكن كسوريين من فهم تأثير هذا القرار علينا وعلى أزمتنا.

«أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»!

مما جاء في افتتاحية العدد الماضي من قاسيون التي ناقشت معاني عودة سورية لمقعدها في الجامعة العربية، ما يلي: (بمرور عقد وأكثر، بات واضحاً أمام الدول العربية بأسرها، والأساسية منها خاصة، أنّها تعيش الحكاية الشعبية التي منتهاها: «أُكلت يوم أكل الثور الأبيض». بكلامٍ أوضح، فإنّ هذه الدول باتت متيقنة (وخاصة السعودية ومصر) من أنّها هي نفسها مستهدفة غربياً بالتفتيت والتدمير في سياق العمل الأمريكي الصهيوني).
حكاية الثور الأبيض هي حكاية شعبية لها دلالاتها المعروفة، وقد قيلت في أصلها مقولات كثيرة لعل أوسعها رواجاً هي: أنه روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «إنما مثلي ومثل عثمان رضي الله عنه كمثل ثلاثة أثوار كانت في أَجَمة (شجر كثيف بالغابة): أبيض، وأسود، وأحمر، ومعها أسد، فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود والأحمر: «إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خَلَت لكما الأجمة وصفت»، فقالا: «دونك وإياه فكله»، فأكله، ومضت مدة على ذلك، ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: «لوني على لونك، فدعني آكل الثور الأسـود»، فقـال له: «شأنك به»، فأكله، ثم بعد أيـام قال للثور الأحمر: «إني آكلك لا محال»؛ فقال الثور الأحمر: «دعني أنادي ثلاثة»، فقال الأسد: «افعل»، فنادى الثور الأحمر: «إنما أُكلت يوم أُكِل الثورُ الأبيض» قالها ثلاثاً، ثم قال علي رضي الله عنه: «إنما هنت يوم قتل عثمان رضي الله عنه»، ثم رفع بها صوته.
وفي الموروث، ومع تقادم الأزمان، جرى إخراج الحكاية من قالبها الديني لتتحول إلى حكمة عابرة للأزمان، مؤداها أنّ التهاون في الدفاع عن الأقربين أو عن الأقران في وجه عدو مشترك، هو تهاون في الدفاع عن النفس، سيدفع المتهاون نفسه ثمنه لاحقاً.

عودٌ على بدء، فإنّ تحرك دول عربية أساسية صوب إعادة سورية إلى مقعدها في الجامعة العربية يدخل- على الأقل بجانب منه- في هذا الباب نفسه: باب الدفاع عن النفس؛ فالصورة القائمة للوضع الإقليمي وانعكاسات الوضع الدولي عليه، يمكن تكثيفها بما يلي:
أولاً: الصراعات الجارية في أوكرانيا وحول تايوان، وفي منطقتنا، وفي إفريقيا، وفي كل أرجاء العالم، هي حلقات مترابطة ضمن صراعٍ عالمي واحد، هو الصراع بين عالمٍ قديمٍ هو عالم الأحادية القطبية، يموت وينتهي، وعالم جديد قائم على الندية والتكافؤ، ما يزال في طور الولادة.
ثانياً: الطرف المتراجع في هذا الصراع، أي الغرب ومركزه الدولاري، يرفض التسليم باقتراب أجله، ويوظف في صراعه كل الموارد الممكنة بهدف استمرار التبادل اللامتكافئ، الذي ينهب على أساسه كل شعوب العالم، وبهدف استمرار الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وفي هذا السياق يسعى إلى إشعال أكبر قدرٍ ممكن من الحروب في كل أرجاء العالم. ولا تكفيه الحروب بذاتها، بل يحتاج إلى تفتيت كل أجهزة الدول في كل العالم، لمصلحة حكم المراكز المالية الغربية وامتداداتها.
ثالثاً: مع تعاظم التراجع لدى المركز الغربي، لم يعد لديه أي شيء إيجابي يقدمه لحلفائه، على الإطلاق. لا مشاريع تنموية كبرى، ولا نقلاً للتكنولوجيا، ولا مساعدة أمنية (رغم أنه حتى في مراحل تقدمه لم يقدم من هذه إلا النزر اليسير). لم يعد لدى الغرب ما يقدمه إلا الأوامر والفوضى والحروب والصراعات، وتعميق نهب الموارد الباطنية، ناهيك عن أنّ عجرفته وتسلطه قد وصلت حدوداً مزرية، وغير مسبوقة في الإهانات العلنية للدول والشعوب وحكامها، بحيث بات الغرب يقدم نفسه راعياً للأخلاق والمثل ويقدم الآخرين بوصفهم همجاً، عليهم أن يتعلموا منه ويسمعوا أوامره ويقتدوا به، بما يشبه عملية نفي لنفي لسيرة الاستعمار الأوروبي، الذي بدأ بمقولات جون ستيوارت ميل حول «الرسالة الحضارية للاستعمار الغربي في دفع الشعوب الهمجية إلى الحضارة»، ثم الرياء الغربي في القرن العشرين حول احترام الغرب لسيادة الدول، وسيادة القانون، وعودة إلى الخطاب القديم المتعالي والمتكبر نفسه للمستعمرين الأوائل، ولكن مع درجة أعلى بكثير من الوقاحة والإجرام المباشر.
رابعاً: في منطقتنا، يواصل الغرب محاولاته الاستثمار في التناقضات البينية بين الدول وداخلها، سواء منه التناقضات المبنية على مصالح حقيقية للمتناقضين، أو تلك التي لا تخدم أياً منهم بل تخدم المركز الغربي؛ أبرز الأمثلة على النوع الثاني هو: التناقضات ذات الطابع الطائفي والديني والقومي. ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاستثمار طويل الأمد في الفالق «السني- الشيعي»، وترجمته المباشرة كصراعات داخلية، وكصراعات بين السعودية خاصة وإيران. إضافة إلى جملة صراعات هدفها إدماج الكيان الصهيوني في المنطقة وبالضد من مصلحة الجميع وعلى حساب الجميع.

محصلة

ضمن هذه الإحداثيات، بات واضحاً بالنسبة لدول عربية أساسية، كانت قد شاركت سابقاً بالتهاون، وحتى المشاركة المباشرة في «اغتيال الثور الأبيض»، أنها هي نفسها الفريسة التالية على القائمة، وأنّ مخطط الفوضى الأمريكية والصهيونية يشملها، ولا يقتصر على سورية.
من هذا الباب، فإنّ دولاً عربية أساسية بينها السعودية، بدأت بالبحث عن طريق مستقل نسبياً عن الغرب، ليس ابتداءً بالمسألة السورية، بل قبل ذلك بما يخص أوبك+ والعلاقة مع الصين، والعلاقات الإقليمية المختلفة، ومن بينها مع إيران وتركيا. ومقاربتها اليوم للمسألة السورية هدفها البحث عن الاستقرار في سورية، الذي يعد شرطاً من شروط استقرارها هي نفسها.

وقد عجّل في هذا الأمر قناعة هذه الدول بأنّ الغرب لا يريد حل الأزمة في سورية إطلاقاً، بل يسعى لتعميقها وتوسيع نطاقها، بمقابل أنّ هنالك جهوداً ومصلحة لدى ثلاثي أستانا- ومعهم الصين- في الوصول إلى حل حقيقي للأزمة، عبر الحل السياسي الشامل وفقاً للقرار 2254، والذي يتطلب اعترافاً ليس بالمعارضة وحدها، ولا بالنظام وحده، بل بكليهما.

هذا لا ينفي طبعاً، أنّ بعض الدول العربية غير الأساسية، وخاصة منها المطبعة مع الكيان الصهيوني، تسعى مسعىً مختلفاً، هو العمل باباً خلفياً للغرب وللصهاينة لتخريب التعاون الطبيعي المتوقع بين أستانا، وبين العرب، وخاصة السعودية، لاستكمال الظروف اللازمة لتنفيذ القرار الدولي ولإنهاء الأزمة السورية... ولكن ما يدعو لشيءٍ من الاطمئنان، هو أنّ وزن هؤلاء، ووزن أصحابهم الغربيين والصهاينة، هو ذاته في تراجع متواصل، وأنّ محصلة القوى اليوم ضمن الجامعة العربية ليست في صالحهم...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1124