ماذا وراء تهديدات الأردن بـ «عملٍ عسكري» في سورية؟
الاتجاه الغالب بما يخص الأزمة السورية هذه الأيام، في الظاهر على الأقل، هو اتجاه تصالح واتجاه تسويات وتهدئة على مستوى العلاقات مع الدول العربية ومع تركيا، وذلك رغم ما يسعى المتشددون لترويجه ضد التسوية مع تركيا خصوصاً.
يشمل هذا الاتجاه زيارات دبلوماسية عالية المستوى متبادلة مع عدد من الدول العربية، وكذا الاجتماع الوزاري الذي انعقد في عمان يوم الأول من أيار الجاري، وقبله اجتماع جدة، وقبل هذا وذاك وبالتوازي معهما، عمل أستانا المستمر لتحقيق التسوية السورية التركية، بما اشتمل عليه حتى الآن من لقاءين على مستوى وزراء الدفاع، ولقاء على مستوى نواب وزراء الخارجية، ولقاء قريب على مستوى وزراء الخارجية، إضافة إلى جملة من اللقاءات على مستويات أدنى، وبتنسيق عالٍ روسي إيراني تركي.
بالضد من هذا الجو العام كلّه، ألقى وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي خلال لقاء أجرته معه قناة CNN الأمريكية يوم الجمعة 5 أيار، بقنبلةٍ- ما تزال حتى الآن- صوتية وإعلامية، ولكنْ ليس مؤكداً أنها كذلك فحسب... المقصود هو تصريحه التالي: «نحن لا نتعامل مع تهديد تهريب المخدرات باستخفاف. إذا لم نشهد إجراءات فعالة للحد من هذا التهديد، فسنقوم بما يلزم لمواجهته، بما في ذلك القيام بعمل عسكري داخل سورية للقضاء على هذا التهديد الخطير للغاية، ليس فقط للأردن، ولكن عبره نحو دول الخليج والدول العربية الأخرى والعالم».
مجرد الحديث عن «عملٍ عسكري» خارجي باتجاه الأراضي السورية، هو استعادة لإحداثيات سابقة كانت موجودة أيام كانت عمان مقر غرفة الموك، التي أدار عبرها الأمريكان والبريطانيون جزءاً أساسياً من عملية الاستنزاف والتدمير والتخريب في سورية عبر سنوات. ولكن قبل المضي أبعد في الحديث عن معنى التهديد الأردني، لا بد من الوقوف قليلاً عند الذريعة التي يقدمها: المخدرات.
كيف يمكن وقف إنتاج وتهريب المخدرات في سورية؟
لا جدال في أنّ سورية تحولت في ظل الأزمة والخراب المستمر منذ أكثر من عقد، إلى أحد مراكز إنتاج المخدرات وتهريبها في العالم، وخاصة عبر المنتج المسمى «كبتاغون».
تدر هذه العملية أرباحاً بمليارات الدولارات على حفنة من تجار الحرب المتنفذين وأصحاب السطوة، الذين هم أنفسهم يمثلون «التطور الطبيعي» للفاسدين الكبار في سورية (راجع مادة: تحولات الفساد والنهب في سورية، سياقٌ مستمر عمقته وسرعته الأزمة)؛ الفاسدون الكبار الذين عَبَروا خلال ثلاثين إلى أربعين عاماً مراحل تطورية متتابعة: من كونهم مجرد برجوازية بيروقراطية تستفيد بحكم مواقعها ضمن جهاز الدولة من السوق بينما تبقى على هامشه، إلى المرحلة التي تصارعت فيها بشكل حادٍّ مع البرجوازية الطفيلية، وصولاً إلى تحولها هي نفسها (أي البيروقراطية) إلى برجوازية طفيلية في التسعينيات، ومن ثم تحولها شيئاً فشيئاً إلى رأس مال مالي، وانتهاءً بتحولها الأخير- وبتحفيز من العقوبات الغربية خاصة- إلى رأس مال مالي إجرامي، أحد أهم نشاطاته هذه الأيام هو الكبتاغون، وهو ليس نشاطه الوحيد.
ولا شك أيضاً، أنّ دولاً وشعوباً عديدة قريبة وبعيدة، تضررت وتتضرر من عمليات إنتاج وتهريب الكبتاغون. ولكن هذا ينبغي ألا يُغيّب الحقيقة الأكيدة، وهي أنّ المتضرر الأكبر من هذه العملية هو الشعب السوري نفسه، وقبل أي شعب آخر.
وإذاً، ما هو الحل؟
الحل النهائي لهذه المسألة، هو بالتأكيد حل مركب يتطلب تغييراً جذرياً في الشروط التي سمحت بإنتاج الكبتاغون وتهريبه. وبكلمة، فإنّ الحل يمر بالضرورة عبر إنهاء الأزمة السورية نفسها، وعبر الحل السياسي، وصولاً إلى نظام جديد في سورية موحدة أرضاً وشعباً، وضمناً إنهاء الحصار والعقوبات الغربية، أو تأمين بدائل حقيقية تلغي تأثيرها، والبدء بإعادة إعمار شاملة.
يتذرع الأردن بأنه غير مستعد لانتظار تحقيق حل كهذا ربما يتطلب سنوات، وبأنه «مضطر» للتصرف بسرعة، ولو «منفرداً»، أي دون الدول العربية الأخرى.
التصور المبسط الذي يقدمه وزير الخارجية الأردني، يوحي بأنّ عملية عسكرية «أردنية»، في الجنوب السوري، يمكنها أن تقدم حلاً لتهريب المخدرات من سورية باتجاه الأردن، أو عبرها نحو جهات أخرى.
أي أنّ الأردن يعترف ضمناً بأنّ أقصى غاية لعملية عسكرية مفترضة ضد سورية، هي وقف التهريب وليس وقف الإنتاج. أي أنّ الإنتاج يمكنه أن يستمر على حاله بعد هكذا عملية مفترضة. والمعلوم أنّ إمكانيات تهريب المخدرات في الدول الأكثر تماسكاً بالمعنى الأمني والسياسي هي إمكانيات هائلة؛ يمكن للوزير الأردني أن يدرس المثال الأمريكي المكسيكي (باعتبار أن الولايات المتحدة مثال مهم دائماً بالنسبة للأردن).
ذريعة وليست سبباً!
هذا من جهة، ولكن من جهة ثانية، فإنّ الافتراض بأنّ عملية عسكرية أردنية من شأنها أن توقف عمليات التهريب باتجاه الأردن هو افتراض سخيفٌ بالمعنى العملي، وذلك للأسباب الواضحة التالية:
لا يمكن لأي عمل عسكري أن يُشنّ دون أن يكون هنالك عدو واضح يحاربه. هل يمكن للأردن أن يشرح لنا كيف سيشتغل ضد عصابات المخدرات إنتاجاً وتهريباً باستخدام عملية عسكرية؟
عملية إنتاج وتهريب المخدرات في سورية، ورغم أنها ذات طابع مركزي فيما يبدو، إلا أنها تنجز على مستويات مكروسكوبية؛ فوحدة إنتاج الكبتاغون يمكن أن تتكون من عائلة واحدة من ثلاثة أفراد، ووحدة التهريب يمكن أن تتكون من حفنة قليلة من الأشخاص. وعمليات التنسيق والتنظيم تتم بشكل مافيوي، بحيث إنّ قطع أو إنهاء أي عدد من الخلايا المتفرقة للإنتاج والتهريب، لا يؤثر عملياً على استمرارية الإنتاج والتهريب...
وعليه، يبرز السؤال: هل سيقوم الجيش الأردني بمداهمة بيوت السوريين للتفتيش عن المخدرات؟ وهل سيقوم بذلك في أجزاء من الجنوب أم أنّ الألوف المؤلفة من الجيش الأردني تسمح له بمداهمة سورية كلها لإيقاف الإنتاج في كل مكان فيها؟
هل سيدخل الجيش الأردني حرب شوارع مع مافيات المخدرات؟ هل يعلم أيّ خسائر ستحل بالمدنيين السوريين في هكذا سيناريو؟ وهل له القدرة هو نفسه على تحمل الخسائر التي يمكن أن تلحق به؟
بما أنّ إنهاء إنتاج المخدرات عبر عمل عسكري هو ضرب من المستحيل، والمهمة المفترضة هي إنهاء التهريب باتجاه الحدود الأردنية، فالنصيحة التي ينبغي تقديمها للسلطات الأردنية- إنْ لم يكن الأمر بأسره مجرد ذريعة- هو أنّ قيامها بنشر جيشها بأكمله على حدوده الشمالية، أو حتى تجنيد متطوعين بعشرات الآلاف لهذه المهمة بالذات، سيكون أوفر بكثير على الخزينة الأردنية التي تعاني بالأساس ما تعانيه من مشاكل، وأهم من ذلك، أنّ هكذا سيناريو يوفر دماء إضافية سورية وأردنية، ويوفر فرص عملٍ كثيرة يحتاجها الشعب الأردني أمس الحاجة.
أهم من هذا وذاك، أنّ من لديه نية صادقة في محاربة تهريب المخدرات من سورية، ينبغي أن ينخرط بشكل حقيقي في العمل باتجاه حل الأزمة السورية حلاً حقيقياً وشاملاً، وهذا بكل تأكيد لا يمكن أن يتم عبر التنسيق المستمر مع الولايات المتحدة وبريطانيا، ومن خلفهما دائماً وأبداً الكيان الصهيوني...
ما وراء الأكمة
التغريد الأردني المنفرد ليس منفرداً حقاً، وإنما تتخفى وراءه الأمور التالية:
رغم أنّ الدول العربية تبدو هذه الأيام شكلياً على قلب رجلٍ واحد بما يخص التعامل مع الوضع السوري، إلا أنّ الحقيقة هي أنّ هنالك تناقضات فعلية في التصورات والمصالح، وقسم أساسي من هذه التناقضات يتأتى من طبيعة الاصطفاف الدولي لهذه الدول.
الأردن والإمارات تتصدران الدول التي يبدو بقدر كافٍ من الوضوح، أنها تدور في فلك الأمريكي والبريطاني و«الإسرائيلي» بما يخص المسألة السورية. وهاتان الدولتان تقاسمتا الترويج لأهم مشروعين صهيونيين في المنطقة: الإمارات- اتفاقات أبراهام، الأردن- الناتو العربي.
بالمقابل، فإنّ الدول العربية الأساسية، وعلى رأسها السعودية ومصر، وبحكم وزنيهما الهام، وفي ظل الصراع الدولي الحاد الجاري، تمكنتا من استثمار الظرف في حيازة قدرٍ أكبر من الاستقلال عن الغرب، وهذا القدر يزداد يوماً وراء الآخر بدفع من الظروف العامة، وبدفع من الخيارات السياسية التي يتم اتخاذها وخاصة في السعودية... بهذا المعنى، فإنّه ليس من مصلحة السعودية العمل وكيلاً للغرب الذي ما يزال يرى أنّ المستهدف في سورية هو التقسيم والتفتيت وإطالة الأزمة... وهذا تفهمه الدول جيداً بغض النظر عما تقوله، وعما يُقال في الإعلام.
مع تسارع عملية التسوية السورية التركية برعاية أستانا، وبالتوازي تحسن العلاقات العربية السورية، وتحسن العلاقات العربية الإيرانية، والعربية التركية، وتعمّق التنسيق بين روسيا والصين وبين العرب، وخاصة السعودية، فإنّ إحداثيات حل الأزمة السورية دون الغرب ورغماً عنه، تكون قد اكتملت تقريباً... وهذا ما لا يناسب الأمريكان ولا الإسرائيليين بأي حال من الأحوال...
قيام الأردن بعمل عسكري، وبالتعاون مع «حلفائه»، سيعني آلياً تنشيط قاعدة التنف الأمريكية البريطانية، وإعطاءها «وظيفة» تطيل بقاءها في سورية وتخفف الضغط القائم عليها وعلى مجمل الوجود الأمريكي في سورية.
بهذا المعنى، فإنّ التلويح الأردني بعمل عسكري باسم حماية أمنه القومي، قد تشكل مخرجاً مؤقتاً لإطالة الأزمة، مخرجاً للغربين وللصهاينة، وطبعاً سيشكل- في حال تم- ورطة تستنزف الأردن وسورية معاً، وتُعمق تجارة المخدرات وتطورها، بل وربما لن يكون لدى المتشددين من أمراء الحرب السوريين مانع في هكذا عمل يرجئ الحل السياسي إلى حين، ولو على مزيد من دماء وعذابات وجماجم السوريين.
ينبغي على الوطنيين في الأردن وسورية العمل معاً ضد هكذا احتمال، وينبغي للدول العربية الأساسية أن تقول كلمتها بشكل واضح ضده، وبالتوازي فعلى القوى السياسية السورية من مختلف الجهات، أن تعلن رفضها هكذا احتمال، لأنّه بكل وضوح سيؤدي إلى ما يلي:
تعميق وتوسيع تجارة المخدرات.
تعميق الأزمة السورية وتأجيل حلها.
إدخال الأردن في حالة استنزاف تُعمّق أزماته الاقتصادية القائمة، وتفتح الباب أمام تحولها إلى سياسية واسعة النطاق، وهذا ليس خارج استهداف المخططين الأساسيين فيما نعتقد...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1121