حول «نظرية الأمن الوطني»..

حول «نظرية الأمن الوطني»..

قد يبدو ترفاً ما بعده ترفٌ أنْ يتحدث المرء هذه الأيام عن «نظرية أمنٍ وطني» لسورية؛ فصياغة الدول والشعوب لنظرياتها الخاصة بأمنها القومي/ الوطني، عادةً ما تجري بشكلٍ تراكمي طويل الأمد، وتأخذ في الحسبان عدداً ضخماً من العوامل الداخلية والخارجية؛ ابتداءً بالأمن الاقتصادي بمفرداته العديدة، ومروراً بالأمن الاجتماعي، ووصولاً إلى أمن الحدود القريبة والبعيدة؛ أي وصولاً إلى التموضع الإقليمي والدولي، وطبيعة العلاقات مع الجوار القريب والبعيد، بما في ذلك الأدوات الصلبة والناعمة للحفاظ على ذلك الأمن: العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والثقافية...وإلخ.

يبدو هذا الكلام ترفاً في الحالة السورية الراهنة، لأنّ معاينة أيّ جانبٍ من الجوانب النظرية المفترضة لأمننا الوطني، ستكشف أنه في حالة شديدة الضعف والهشاشة، بل وأن تلك الجوانب تزداد هشاشة مع كل يومٍ إضافي ضمن الكارثة المعلّقة حتى اللحظة دون حل... ما يجعل من هدف إيقاف حالة التدهور والانحدار عند الحدود التي وصلت إليها، نقطة البدء الفعلية الوحيدة لبناءِ أمنٍ وطني ولبناء نظرية له.
مع ذلك، فإنّ وجود تصورٍ أولي لنظرية أمنٍ وطنيٍ لسورية، هو أمرٌ لا غنى عنه، تحديداً في ظروف صراع البقاء الذي تعيشه سورية بأكملها كبلد وكشعب؛ فاستيعاب الخريطة العامة لأمننا الوطني، يؤثر بشكل مباشر ليس على السياسات العامة لمختلف القوى السياسية والاجتماعية فحسب، بل وحتى على السلوك اليومي لها، ويؤثر تالياً، في معركة البقاء نفسها، وفي نتائجها...
ما سنحاول فعله ضمن المادة هذه، ليس قطعاً صياغة تلك النظرية؛ فتلك مهمة أثقل بكثير من أن يقوم بها شخص أو حزب، وإنما تتطلب جهوداً جماعية كثيفة من اختصاصيين في كل المجالات على الإطلاق. حسبنا هنا، وضمن حدود فهمنا، وبشكلٍ حتى غير ممنهجٍ، أن نلقي بضعة أضواء على الخطوط العريضة للمسألة... ولنبدأ من خصوصية سورية، وخصوصية منطقتنا بشكل عام.

خصوصيات سامة!

مراجعةٌ بسيطةٌ لتاريخ «بلاد الشام»، أي المساحة التي تشغلها حالياً سورية ولبنان وفلسطين، بالإضافة للأردن، تعيد التأكيد على ما هو معروفٌ وواضح، وهو أنّ هذه المنطقة طوال تاريخها كانت بؤرة صراعات كبرى، وتخوماً بين الإمبراطوريات، وطريقاً للتجارة بينها في الوقت نفسه، إلى ذلك الحد الذي تمحورت فيه نظريات أمنها حول الجانب الخارجي من علاقاتها، أكثر بكثير من الجوانب الداخلية.
أول نظام عالمي ظهر على سطح الكوكب، هو النظام الذي ظهر بظهور الرأسمالية، بالأحرى هو الرأسمالية نفسها، بما رافقها من توسعٍ استعماري، عسكري واقتصادي وثقافي...
قبل الرأسمالية، لم يكن هنالك نظام عالمي يشمل الكون بأسره؛ كانت الأنظمة محليّة الطابع، مهما امتدت مساحة تلك «المحلية»، بما في ذلك الإمبراطوريات التاريخية، وحتى الكبرى منها.
وإذا كانت منطقتنا ما قبل الرأسمالية محل صراع إمبراطوري «محلي»، فإنها غدت مع الرأسمالية محل صراع دولي، بل وأحد أهم مراكز ذلك الصراع.
رغم أنّ ما قلناه هنا قد يبدو بديهية من البديهيات المعروفة والشائعة، إلا أنّ استذكارهُ ضروريٌ للبناء عليه في ثلاثة اتجاهات رئيسية:

أولاً: لتحييد التصورات المثالية والمغلوطة حول حيادٍ مفترضٍ لمنطقتنا ككل، ولسورية ضمناً؛ فالصراع قائمٌ ومشتعلٌ سواء رأيناه أم أغمضنا أعيننا عنه، فإما أن نكون جزءاً فاعلاً ضمنه نسعى لتوجيهه باتجاه مصالحنا كشعوبٍ وبلدان، أو أن نكون مجرد ضحيةٍ له.

ثانياً: الاشتراك الفاعل في الصراع، من وجهة نظر صيانة الأمن الوطني وتعزيزه، لا يتم وفق وصفة واحدة صالحة لكل زمان ومكان، بل يتطلب فهماً عميقاً للصراع القائم في كل مرحلة تاريخية من مراحله؛ ففي مراحل معينة يتطلب الأمر موازنة مصالح المتصارعين الكبار، وفي معظم المراحل الأخرى يتطلب وقوفاً حاسماً على إحدى الضفتين، التي تتقاطع معها مصالحنا تقاطعاً عميقاً.

ثالثاً: الوقوف الفاعل في إحدى الضفتين أو محاولة موازنتهما، ينبغي أن يقوم على تمييزٍ واضحٍ بين الأمن الوطني وأمن الأنظمة الحاكمة؛ فأمن هذه الأخيرة يتقارب أحياناً مع الأمن الوطني، وأحياناً أخرى يتناقض معه بشكل كاملٍ، فقد تقف الأنظمة فعلياً في إحدى الضفتين، لكن تلك المعاكسة لمصالح الشعب والدولة المعنية، وقد تحاول الموازنة بين الضفتين خدمة لمصالحها واستمرارها، وبالضد من مصالح الشعب والدولة، بل وحتى أنه يمكن لها أن تقف في الضفة الصحيحة بالمعنى التاريخي، ولكن كأداة في إطلاق يدها داخلياً لخدمة مصالحها، وبالضد من مصالح شعوبها... ولعل أحد جوانب ما نراه في سورية اليوم، وفي عدة دول مجاورة، هو هذا التناقض بين «أمن النظام» والأمن الوطني، وذلك بغض النظر عن الاصطفاف الشكلي ضمن الصراع الدولي، لأنّ الاصطفاف الفعلي هو بالأفعال أولاً وليس بالأقوال... وبكلمة، فإنّ الاصطفاف الدولي الصحيح، هو شرطٌ لازمٌ ضمن نظرية الأمن الوطني، ولكنه قطعاً ليس شرطاً كافياً.

1077-10

مشروعان

الصراع الدولي بمرحلته الراهنة هو بين مشروعين أكثر مما هو بين معسكرين:
المشروع الأول/ الغربي، هو استمرار التفتيت جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، كأداة لاستمرار النهب وتعميقه، وكأداة للحفاظ على نظام عالمي قائم على النهب وعلى الدولار وعلى التبادل اللامتكافئ. وهذا المشروع، ولأنّ أصحابه يقيمون فيما وراء البحار، فإنه يتضمن تفتيت أيّ تواصل بري طبيعي بين قارات العالم القديم الثلاث، ومنطقتنا هي القلب من ذلك التواصل؛ ولذا ليس مستغرباً أن تتركز عمليات التخريب ضمنها، وأهم تلك العمليات هي إنشاء الكيان الصهيوني، والذي ربما باتت عملية تخريب سورية داخلياً وخارجياً، هي الحامل المعاصر الأشد خطورة في منطقتنا لهذا المشروع، والذي لا يقلل بحالٍ من الأحوال من خطر الكيان، ولكن يحدد وظيفته بشكل ملموس وموجه صوب إنهاء سورية بالذات، بوصفها الوظيفة رقم1 له!
المشروع الثاني/ الشرقي، هو مشروع مناقض للأول؛ فنهضته محكومة بإنهاء التبادل اللامتكافئ وإنهاء الدولار، وإنهاء عمليات تخريب التواصل البري، وإنهاء الفوضى التي تعيشها منطقتنا؛ فأما إنهاء التبادل اللامتكافئ وإنهاء الدولار، فلأنّ دول هذا المشروع الجديد تمتلك ما يلزمها من ثروات ومن إنتاج ومن تكنولوجيا، ويتم نهبها على أساس يومي من الغرب، الذي بات إلى حد بعيد لا يملك لا الموارد ولا حتى الإنتاج، وإنما يملك المنظومة المالية والسياسية الدولية التي تشفط ثروات الآخرين وعملهم. وأما بالنسبة للتواصل البري وإيقاف التخريب والفوضى، فإنّ القلب في عملية استكمال نهوض المشروع الشرقي، (والأصح أنه مشروع عالمي شامل جديد)، هو استقرار خطوط النقل والتجارة البرية بالدرجة الأولى، وفي منطقتنا على الخصوص، مع ما يتطلبه ذلك من استقرار بمعانيه المختلفة، وبنى تحتية ضخمة، بما تحمله من تنمية شاملة...
ليس من عجب أنّ الأنظمة القائمة في منطقتنا قد وصلت إلى السلطة وثبتت فيها في مرحلة محددةٍ تاريخياً، هي مرحلة تراجع الاتحاد السوفييتي، وتراجع «المشروع الشرقي» معه، وفي مرحلة هي مرحلة التقدم الغربي الليبرالي، والليبرالي الجديد... ووقفت بمعظمها بالمعنى العملي، وبغض النظر عن شعاراتها، في ضفة المشروع الغربي، وذلك من وجهة نظر «أمن الأنظمة»، وليس من وجهة نظر الأمن الوطني...
لعل واحداً من الأمثلة الواضحة على التمايز بين «أمن الأنظمة» و«الأمن الوطني»، هو الطريقة التي تعاملت بها الأنظمة الأربع في كل من تركيا وسورية والعراق وإيران مع القضية الكردية؛ رغم أنّ هنالك تبايناً في القضية نفسها بين هذه البلدان، وفي مدى سوء تعامل تلك الأنظمة مع هذه القضية، والتي لا شك في أنّ ذلك السوء يبلغ أقصاه في تركيا بالذات، حيث الوزن الموضوعي لهذه القضية أكبر بما لا يقاس مما هو عليه في البلدان الأخرى. ولكن مع ذلك، فإنّ إبقاء هذه القضية دون حل في سورية عبر عشرات السنين، كان ولا يزال تهديداً للأمن الوطني للبلاد.
ونذكر هنا هذه القضية كمثالٍ على جانب من جوانب الأمن الاجتماعي ضمن المفهوم الشامل للأمن الوطني، وهو واحد من بين جوانب كثيرة ومتعددة.

الانعزال «الإقطاعي»

يمكن القول: إنّ طريقة توزيع النمو في سورية، وعبر عشرات السنين، قد عملت على تكريس دمشق وحلب كمركزين بمقابل تهميش بقية البلاد بأسرها، وهذه العملية كان أحد أهدافها الأساسية هو التحكم العالي بقنوات النهب، ابتداءً من أسواق الهال ووصولاً إلى المراكز الحكومية والمشاريع التنموية وطريقة التحكم بالثروات الباطنية.
هذه العملية، ومع الوقت، كرّست الانعزال الإقطاعي الذي استمر حتى بعد زوال الإقطاع... أحد المؤشرات الثانوية على ذلك، هو التمايز الواسع نسبياً بين اللهجات والعادات في المناطق السورية المختلفة. هذا الانعزال يرفع بدوره من شأن الانتماءات ما قبل الوطنية، سواء طائفية أو دينية أو عشائرية أو حتى حاراتية، في أحيان كثيرة فوق الانتماء الوطني، ويعيق أساساً تبلور هوية وطنية جامعة.
ولعل إحدى أكبر الكبائر التي ارتكبت بحق هذه البلاد وشعبها، هي المحاولات المستمرة لتصغير صورة وحقيقة قامات الثورة السورية الكبرى، من قامات وطنية إلى زعامات محلية وطائفية وإلخ...

الأمن الاقتصادي- الاجتماعي

لا يزال البعض يفاخر بالمخزون الاستراتيجي للقمح فيما مضى، وكأنّ ذلك يختصر مفهوم الأمن الوطني الاقتصادي!
على أهمية هذا المخزون، يوم كان موجوداً، فهو مجرد مفردة واحدة من قائمة طويلة جداً لمتطلبات الأمن الاقتصادي- الاجتماعي الوطني... والتي سنعدد فيما يلي بشكل مختصر بعضاً منها:
الاعتماد بشكلٍ كبيرٍ على القيم النسبية في الاقتصاد، أي على ما نملكه نحن ويملكه غيرنا، (النفط مثلاً)، هو أمرٌ خطيرٌ وغير مستدام وقابل للتزعزع في أية لحظة.
الاعتماد بشكل كبير على تصدير الخامات بصورة عامة، ودون تكثيف القيم المضافة ضمنها عبر التصنيع، هو الآخر أمر خطير، وهو في الجوهر عملية نهب مزدوجة داخلية وخارجية، بين الفساد في الداخل، وبين علاقات التبادل اللامتكافئ مع الغرب في الخارج.
الاعتماد على استيراد التكنولوجيا، دون أي جهد حقيقي لتصنيعها هو الآخر تهديد للأمن الوطني.
الظلم والجور والفساد الذي حوّل 44% من السوريين إلى ما تحت خط الفقر عام 2010 وفقاً لأرقام المكتب المركزي للإحصاء، هو أيضاً تهديد خطير للأمن الوطني.
تقييد الحريات السياسية وتخفيض سقوفها بطريقة هائلة، كذلك يشكل وشكّل تهديداً للأمن الوطني، وساحة للعب القوى الخارجية وأساساً مستمراً لتفجير البلاد من الداخل.
عمليات النهب المستمرة التي تغذي هجرة العقول، هي تهديد مباشر للأمن الوطني، وهي تحويلٌ للبلاد إلى مصنع مجاني للعقول التي يجري تصديرها بالمجان نحو الغرب.
استمرار الأزمة السياسية الحالية دون حل، بما تنتجه من عوامل سلبية متعددة ومتشابكة، على رأسها تمزيق الأمر الواقع، وتجريف الشعب السوري من أرضه، هو أكبر تهديد وجودي لسورية وأهلها وأمنها...

خلاصة أولية

كل ما سبق ليس أكثر من بضعة خطوط عريضة أولية، ضمن التصور الشامل لمفهوم الأمن الوطني، الذي نحتاج إلى عملٍ واسعٍ وكثيف عليه، ومن الآن... لأنّ العمل عليه، ووفقه، هو ضرورة للوصول إلى ضفة الأمان في صراع البقاء الذي تعيشه البلاد وأهلها...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1077
آخر تعديل على الثلاثاء, 05 تموز/يوليو 2022 18:43