بشكلٍ شبه علني: الولايات المتحدة تحرض تركيا على عدوانٍ جديد
في مؤتمر صحفي لنيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، يوم 6 حزيران الجاري، سأله أحد الصحفيين عن موقف الولايات المتحدة من «عملية عسكرية تركية محتملة في شمال سورية».
أجاب برايس: «موقفنا سمعتموه منذ تم طرح هذه العملية المحتملة لأول مرة. لقد أكدنا أننا ما زلنا نشعر بقلق عميق إزاء المناقشات حول النشاط العسكري المتزايد المحتمل في شمال سورية، ولا سيما تأثيره المحتمل على السكان المدنيين هناك. لقد واصلنا دعوتنا إلى الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار القائمة، وندين أي تصعيد يتجاوز هذه الخطوط. من الأهمية بمكان أن تحافظ جميع الأطراف على مناطق وقف إطلاق النار هذه وتحترمها لتعزيز الاستقرار في سورية والعمل من أجل التوصل إلى حل سياسي للصراع». وأضاف «نحن نتوقع أن تفي تركيا بالالتزامات التي تعهدت بها في تشرين الأول 2019، بما في ذلك الالتزام بوقف العمليات الهجومية في شمال شرق سورية. قد يكون أي تصعيد جديد يتجاوز خطوط وقف إطلاق النار الحالية بمثابة نكسات مكلفة بشكل خاص– انتكاسات مكلفة لجهودنا الجماعية لمواجهة داعش، وجهود التحالف لمحاربة داعش، ولكن أيضاً لجهودنا في تعزيز الاستقرار السياسي داخل سورية».
يمثل التصريح السابق، القشرة الخارجية للموقف الأمريكي من عدوانٍ تركيٍ جديد محتمل. وعلى هذه القشرة، تبدو الولايات المتحدة معارضةً لمثل هكذا توجه... ولكن حقيقة الموقف يمكن تتبعها في ثلاثة مستويات:
ضمن التصريحات الرسمية نفسها
ضمن طبيعة التغطية الإعلامية الأمريكية وتحليلات «الخبراء» الأمريكيين، بما في ذلك مراكز الأبحاث ومسؤولين سابقين.
وربما أهم من هذا وذاك، ضمن محاولة فهم مصالح الولايات المتحدة الحقيقية لا ما تقوله على السطح، بشكل رسمي أو شبه رسمي.
بالنسبة للمستوى الأول، وبالعودة للمؤتمر الصحفي نفسه الذي بدأنا باقتباسٍ منه، وبعد تقديم برايس للإجابة المذكورة أعلاه، قام صحفيٌ بتذكيره بأنّ تصريحاته هي ذاتها التي قيلت قبل العدوان التركي في تشرين الأول 2019، سائلاً إياه: «لماذا سيكون الأمر مختلفاً الآن؟»، ما دامت التصريحات هي نفسها. بمَ أجاب برايس؟
«ما يمكننا القيام به هو توضيح موقف الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الأمر... لقد أوضحنا لحلفائنا الأتراك مخاوفنا من أي هجوم جديد في شمال سورية».
وإذاً فإنّ حدود الموقف الرسمي، لا تتضمن أي حديث تقليدي عن عقوبات أو عواقب لاحتمال قيام تركيا بهجوم جديد، وإنما تقتصر على «توضيح الموقف» وربما معه «إبداء القلق».
المستوى الثاني: «الخبراء»
ليس غريباً عن الدول عموماً أن تعبّر عن مواقفها ومصالحها عبر عدة مستويات؛ الرسمي وهو الموقف العام، والذي يحمل الصبغة «الدبلوماسية». وغير الرسمي الذي يتم التعبير عنه بواسطة «خبراءٍ» هم في الغالب مسؤولون سابقون، أو مراكز أبحاث أساسية.
والمواقف «غير الرسمية» هي في أغلب الأحيان، أكثر قرباً من الحقيقة من المواقف الرسمية، ولكن خصوصاً في حالة الولايات المتحدة، فإنّ المناورة بين الرسمي وغير الرسمي والفعلي، هي الأداة الأساسية لإنفاذ السياسات، وذلك رغم حقيقة أنّ الفارق بين الرسمي والفعلي قد يصل حدّ التناقض الكامل.
التفسير الأساسي لهذا التناقض، هو أنّ سياسة الولايات المتحدة منذ عقود، تقوم على الإيحاء بالتحالف مع الجميع، وفي الوقت نفسه العمل لضرب الجميع بالجميع. وحين نكون أمام حالة شديدة التعقيد كما هي الحالة السورية، فإنّ مثل هذه السياسة تصبح أشد تعقيداً و«باطنية»؛ فالولايات المتحدة ضمن احتمال عدوان تركي جديد على الشمال السوري، تقدم نفسها حليفاً لكلا الطرفين: المهاجم والمدافع، بينما كشفت التجربة خلال السنوات الماضية، وعبر ثلاث «عمليات عسكرية تركية» أنّ الولايات المتحدة في حقيقة الأمر، لا تقف لا مع المهاجم ولا مع المدافع، وإنما تقف مع حدوث الحرب! على أن تحاول التحكم بنتائجها وحدودها.
يسمح الاطلاع على «آراء الخبراء»، بتوضيح هذه النقطة أكثر...
في مقالة لصحيفة «نيوزويك» الأمريكية في الأول من هذا الشهر، وبعد المرور على طيف متنوع من الآراء والتحليلات، تخلص إلى نتيجة على لسان خبير عسكري أمريكي هي: أنّ «أولوية الولايات المتحدة ستكون الحفاظ على حلف الناتو»؛ وهو ما يعني وضوحاً أنّ الولايات المتحدة لن تقف في وجه احتمال عدوان تركي جديد على شمال سورية.
في السياق التحليلي نفسه، ذكرت مقالة نشرتها «آسوشيتد بريس» في 3 حزيران: أن المحللين «يقولون إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستفيد من الحرب في أوكرانيا للدفع باتجاه أهدافه الخاصة في سورية– حتى باستخدام قدرة تركيا كعضوٍ في الناتو لاستخدام حق النقض ضد عضوية التحالف من قبل فنلندا والسويد كقوة محتملة». ووفق المحللين أيضاً، فإن الرئيس التركي يرى أن «الأمريكان يحتاجون إليه للتخلي عن اعتراضاته على توسع الناتو»، ويشعرون أن هناك «فرصة لمحاولة الحصول على تنازلات من الغرب».
وربما بين أهم مقالات «الخبراء»، تلك التي نشرها «المجلس الأطلسي»، وهو واحد من مراكز الأبحاث الأساسية في الولايات المتحدة، وذلك في السابع من الجاري. يخلص المركز للاستنتاج التالي: «الولايات المتحدة (والغرب) يجب أن تتواصل على أعلى المستويات ليس فقط لإنذار أو تحذير تركيا، ولكن للبحث عن شروط أو حدود للعملية مقبولة للطرفين. لم ينجح نهج عدم التدخل في الماضي، ومن غير المرجح أن ينجح الآن». وهنا يبدو الموقف الفعلي أكثر جلاءً؛ فالمسألة ليست في انتقاد عدوان تركي جديد أو التحذير منه كما قد يوحي الموقف الرسمي، بل على العكس من ذلك، فالموقف هو التحريض على عدوان جديد «يتم الاتفاق على حدوده».. وفي المقال نفسه، يشير الكاتب أيضاً إلى أن عملية تركية تنتج عنها سيطرة تركيا على المزيد من المناطق في الشمال السوري، وفي ظل انشغال روسيا الآن، يمكن أن يعني عدم ترك المجال لإيران للدخول إلى هذه المناطق والسيطرة عليها، وهو ما يعني ضمنياً أنّ العملية قد تكون لها أصداء إيجابية في واشنطن!
الأمثلة أعلاه هي مجرد عينات من كم أكبر من «الآراء» و«التحليلات» التي تصب جميعها في الاتجاه نفسه... ولكن فلننتقل الآن إلى المستوى الأهم.
المستوى الثالث: مصالح واشنطن
بعد الأزمة الأوكرانية، نسي البعض أو تناسى، الاتجاه العام الانسحابي للولايات المتحدة من مجمل منطقة الشرق الأوسط، والناجم أساساً عن التراجع العميق للولايات المتحدة، والذي يضطرها لإعادة تموضع عالمي لإمكانياتها العسكرية المتراجعة (على خلفية تراجع إمكانياتها الاقتصادية).
هذا الاتجاه ما يزال قائماً، بل وتعزز بشكل أكبر مع انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وإنْ كانت الجبهة الأساسية المفترض إعادة التموضع نحوها هي الصين؛ فالآن هنالك جبهتان أساسيتان لإعادة التموضع نحوهما، هما: أوروبا ومحيط الصين معاً.
أي أنّ ما تبقى من قوات أمريكية في الشرق الأوسط، بات ترفاً غير مسموحٍ به ضمن المعركة الكبرى الجارية.
ينطبق هذا الكلام على سورية أيضاً، وربما عليها أكثر من غيرها؛ وعليه فإنّ الأمريكي إذْ يفكر بالانسحاب، فإنه كعادته يريد أن يستمر الأثر التخريبي لوجوده حتى بعد انسحابه؛ وليس أفضل من ضرب الجميع بالجميع كأداة للفوضى.
وعليه، فإنّ تشجيع عدوان تركي جديد، ليس المطلوب منه فقط ضرب الإدارة الذاتية بالأتراك، بل وأيضاً محاولة توتير العلاقة بين كلّ من روسيا وتركيا وإيران.
وهذا كله، لا ينتقص بطبيعة الحال من الانتهازية والعدوانية التركية، التي تحاول الاستثمار في هذه المعادلات، الأمر الذي يجعل من إطار أستانا الإطار الأكثر أهمية لاحتواء ومنع عدوان تركي، وكذا الدفع لتفاهمات أعمق بين السوريين أنفسهم، وعلى أساس وحدة الأرض والشعب، وليس في أطر انتهازية هي الأخرى، بالمعنى السياسي الضيق، بين الأطراف السياسية السورية المختلفة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1074