«اليهودي يمكن أن يكون نازياً»...
منذ مطلع الشهر الحالي وحتى اللحظة، تشتعل المنابر الرسمية وغير الرسمية حول العالم، بالحديث والتعليق والردود، والردود المعاكسة، بما يتعلق بتصريح وزير الخارجية الروسي الذي جاء فيه على ذكر احتمال كون هتلر نفسه يحمل أصولاً يهودية...
ولأنّ المسألة تحمل أبعاداً كبيرة لم يظهرها التصريح نفسه بقدر ما أظهرتها ردود الأفعال اللاحقة، وخاصة في صحافة الكيان والصحافة الغربية، وضمناً الأبعاد التي تصل تأثيراتها إلينا بشكل مباشر في سورية، فسنعمل في هذه المادة على استقصاء هذا «الحدث»، ومحاولة قراءة أبعاده ومسبباته، ابتداءً من إيجازٍ مكثف عما قيل فيه وحوله...
تصريح لافروف
في مقابلة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع جهة إعلامية إيطالية (يمكن قراءة نص المقابلة كاملة على الرابط المرفق) يوم الأحد، 1 أيار 2022، ورد سؤال: إن زيلينسكي «يعتقد أن نزع النازية ليس له أي معنى. هو يهودي. النازيون، آزوف– هناك عدد قليل جداً منهم (عدة آلاف). فلاديمير زيلينسكي يدحض وجهة نظرك في الوضع. هل تعتقد أن فلاديمير زيلينسكي عقبة في طريق السلام؟».
ضمن رده على السؤال، قال لافروف: «سمعته يقول: إنهم لن يناقشوا حتى نزع السلاح ونزع النازية أثناء محادثات السلام. أولاً: إنهم ينسفون المحادثات مثلما فعلوا مع اتفاقات مينسك لمدة ثماني سنوات. ثانياً: يوجد نازية هناك: فالمقاتلون المأسورون وكذلك أعضاء كتائب آزوف وآيدار والوحدات الأخرى يرتدون على ملابسهم صلباناً معقوفة أو رموز كتائب فافن إس-إس النازية، أو يضعون وشوماً مشابهة على أجسادهم؛ يقرأون ويروجون لكتاب «كفاحي» علانية. حجته هي: كيف يمكن أن تكون هناك نازية في أوكرانيا إذا كان هو يهودياً؟ قد أكون مخطئاً، ولكن كان لأدولف هتلر دم يهودي أيضاً. هذا لا يعني شيئاً على الإطلاق. يقول الحكماء من الشعب اليهودي: إن أكثر المعادين للسامية حماسة هم عادة من اليهود. «كل عائلة لها خروفها الأسود» «كما نقول».
ردود الأفعال الرسمية
أثار هذا الكلام جنون «الإسرائيليين» وسرعان ما ردوا عليه رسمياً من خلال جملة تصريحات في اليوم التالي للمقابلة على لسان رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية للكيان. حيث صرّح نفتالي بينيت بأنه يشجب بأشد العبارات تصريح وزير الخارجية الروسي، وأن «الهدف من هذه الأكاذيب اتهام اليهود أنفسهم بارتكاب أفظع الجرائم في التاريخ التي ارتكبت ضدهم، وبالتالي، إبراء ذمة أعداء إسرائيل من المسؤولية» مضيفاً «إن استخدام الهولوكوست ضد اليهود كأداة سياسية يجب أن يتوقف على الفور». كما نشرت وزارة الخارجية «الإسرائيلية» تصريحاً، نشره أيضاً وزير خارجية الكيان يائير لابيد في تغريدة على حسابه على «تويتر» قال فيها: «تصريحات وزير الخارجية لافروف هي في الوقت نفسه تصريح لا يغتفر ومشين فضلاً عن أنه خطأ تاريخي مروع. اليهود لم يقتلوا أنفسهم في الهولوكوست. أدنى مستوى من العنصرية ضد اليهود هو اتهام اليهود أنفسهم بمعاداة السامية».
أتى بعد ذلك بيوم رد الخارجية الروسية على تصريح لابيد من خلال تغريدة على حساب الوزارة على «تويتر» تقول: «تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، يتناقض مع التاريخ، ويفسر إلى حد كبير سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية لدعم نظام النازيين الجدد في كييف». كما رافق التغريدة ردٌ على ما قاله لابيد، ورد فيه أمثلة حول شخصيات يهودية كان لها دور في قتل اليهود خلال الهولوكوست، بالإضافة إلى ارتكابات للنازيين الجدد خلال السنوات الماضية، استهدفت اليهود وأقليات إثنية أخرى في أوكرانيا، دون أية عواقب جدية بالرغم من وجود أسس قانونية يمكن استخدامها. وكل هذا تحت حكم زيلينسكي «اليهودي».
بعد عدة أيام، ادعى مكتب رئيس وزراء الكيان أنه خلال مكالمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قام الأخير بالاعتذار حول ما قاله لافروف خلال مقابلته، حيث قال الخبر الذي نشرته رئاسة وزراء الكيان: «قَبِل رئيس الوزراء اعتذار الرئيس بوتين عن تصريحات لافروف». ولكن الخبر الذي نشره الكرملين حول المكالمة لم يذكر أي شيء حول أي اعتذار، وفي مؤتمر صحفي قبل يومين للمتحدث الرسمي باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، وردّاً على استفسار حول هذه النقطة، نفى الاعتذار قائلاً: «لا يوجد حالياً ما نضيفه إلى ما أعلناه في بياننا المكتوب بعد هذا الاتصال».
بالإضافة إلى ردود الأفعال من مسؤولين «إسرائيليين» كانت هناك أيضاً تصريحات من مسؤولين آخرين حول كلام لافروف، حيث قال وزير خارجية أوكرانيا من خلال تغريدة له على «تويتر» يوم الاثنين 2 أيار 2022: «لم يستطع وزير الخارجية لافروف أن يخفي معاداة السامية المتجذرة لدى النخب الروسية. تصريحاته البشعة مسيئة للرئيس زيلينسكي وأوكرانيا وإسرائيل والشعب اليهودي. وعلى نطاق أوسع، فإنهم يظهرون أن روسيا اليوم مليئة بالكراهية تجاه الدول الأخرى».
كما قال المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في مؤتمر صحفي له يوم الاثنين 2 أيار 2022: «هذا التصريح من وزير الخارجية لافروف– كان أدنى أشكال العنصرية، كان أدنى أشكال الدعاية، كان أدنى شكل من أشكال الأكاذيب الخبيثة. وأعتقد أنه مع هذا التصريح وتصريحات أخرى، ومع تصرفات من الكرملين وكبار مسؤوليه وموظفيه– بما في ذلك موظفيه في أوكرانيا– يثبت باستمرار أنه لا يوجد حد أدنى عندما يتعلق الأمر بمدى انخفاض قدرتهم على الانحدار. وهذا، على ما أعتقد، هو أحدث مثال على ذلك».
كما نددت الحكومة الألمانية بتصريحات لافروف، حيث قال أحد المسؤولين الألمان وفق مقالة لرويترز: «تصريحات لافروف تسخر من ضحايا الاشتراكية القومية بطريقة غير مقبولة، وتتحدى بلا خجل ليس فقط اليهود، ولكن الجمهور الدولي بأسره بمعاداة السامية علناً. لافروف يخلط بشكل ساخر الضحايا ومرتكبي الجرائم في الماضي والحاضر».
ماذا قال الإعلام الغربي و«الإسرائيلي»؟
بالإضافة إلى التصريحات الرسمية التي ذكرناها أعلاه، تطرقت العديد من الجهات الإعلامية الغربية وإعلام الكيان إلى الموضوع، وبردود فعل في معظمها ركزت على توصيف لافروف، وما قاله على أنه معادٍ للسامية وأن الإشارة إلى أن اليهود يمكن أن يكونوا نازيين هو أمر شائن، كما ذهبت بعضها لتحليل التداعيات المتوقعة لهذا الأمر، وبالأخص فيما يتعلق بالعملية العسكرية في أوكرانيا.
يوماً واحداً بعد المقابلة نشرت «جيروزاليم بوست» مقالة بعنوان «معاداة لافروف للسامية تعني أن إسرائيل لم تعد محايدة تجاه أوكرانيا وروسيا»، فيها مراجعة لتطور العلاقة بين الكيان وروسيا وبالتحديد خلال الأسابيع العشرة الماضية، والتي شهدت محاولة في البداية من قبل «إسرائيل» أن تظهر على أنها تتبنى موقفاً وسطياً وحيادياً، وأن تأخذ دور الوسيط بين الطرفين الروسي والأوكراني، الأمر الذي لم تحققه، فبدأت بأخذ موقعها الطبيعي مع الغرب، ولكن في الوقت ذاته كانت وما زالت تحاول أن تحافظ على حدّ معين من العلاقات الجيدة مع روسيا، تحديداً، لتتمكن من حماية نفسها ومصالحها فيما يتعلق بسورية.
كما أشار المقال إلى مؤشرات توتر العلاقات مع روسيا، والتي كان آخرها تصريح لافروف، وقبلها بحوالي شهر عندما صوتت «إسرائيل» لتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، كان لوزارة الخارجية الروسية تصريحات لاذعة تكلمت عن «الاحتلال غير الشرعي والضم الزاحف» وإنه جدير بالملاحظة أن «أطول احتلال في تاريخ العالم بعد الحرب يتم بتواطؤ ضمني من الدول الغربية الرائدة، وبدعم فعلي من الولايات المتحدة». في نهايته يشير المقال إلى أنه وببطء وحادثة وراء أخرى تم إبطال خطط «إسرائيل» لمحاولة البقاء في موقع الحياد من الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
في مقالة أخرى في «جيروزاليم بوست» يهاجم الكاتب لافروف، ويتهمه بأنه مشابه لدبلوماسيين كبار خدموا مصالح حكام مستبدين، مثل: هتلر وموسوليني، وليس كأولئك «العظماء» من الدبلوماسيين الذين غيروا التاريخ مثل: كسينجر أو بيريز. ويبدأ الكاتب المقالة بقوله: «عندما يلجأ القادة الروس إلى معاداة السامية، فهذا يعني أن الأمور تسوء، وأنها سوف تزداد سوءاً». وينهي المقالة بالقول: «في الواقع، كلما أساء النظام لليهود كلما فقد السيطرة على الأمور. هذا هو السبب في أننا نعلم أنه تماماً، مثل المذابح التي لم تمنع سقوط القيصرية، ومثلما تشويه سمعة إسرائيل لم تمنع انهيار الشيوعية، فإن اتهامات لافروف المعادية للسامية لن تعوض هزيمته في أوكرانيا».
في مقالة نشرتها «سي إن إن» قبل يومين، تطرق الكاتب إلى التصريحات المختلفة حول كلام لافروف وقال: «مهما كانت نوايا لافروف، من المهم مواجهة روايته للأحداث. هناك ثلاث قضايا على المحك، أولاً: تصويره لأوكرانيا. ثانياً: وصفه لهتلر. وثالثاً: مفهومه للهوية اليهودية (أو أية هوية أخرى)». ثم مضى الكاتب في سرد رد «تاريخي» على ما قاله لافروف في سياق «إثبات» أنه «من الواضح أن ما يسمى بـ «نزع النازية» هو مجرد ذريعة لـ «نزع الأكرنة» عن إقليم يفتقر، بالنسبة إلى لافروف والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى الشرعية التاريخية». في نهاية المقال يخلص الكاتب إلى استنتاجه، أنه «على كل حال، الدعاية الروسية اليوم تدور حول نشر الأكاذيب والتحريفات، لدرجة أن عدم الالتزام بالاتساق هو السمة الوحيدة الموثوقة لتواصلات موسكو في الوقت الحاضر».
كما نشرت «ذا هيل» الأمريكية مقالة حول الموضوع أيضاً، أشارت فيه إلى التصريحات المتبادلة، تحت عنوان «من المحتمل ألّا تكون تصريحات لافروف المعادية للسامية مصادفة». يقول الكاتب في المقالة: إن «معظم المراقبين قالوا: إن التعليقات القبيحة ودفاع موسكو عنها يظهران أن روسيا لا تزال تركز على جهودها الدعائية، والتي استندت منذ البداية إلى استعارات كاذبة عن النازيين الجدد في أوكرانيا». بعض التعليقات التي تطرقت إليها المقالة صبت في أن كلام لافروف يدل على أنه يخسر الحرب، وأن هذا الكلام لا يستحق الرد ويتماشى مع الطريقة التي تتعامل بها روسيا ليس فقط مع «إسرائيل» ولكن مع كل العالم، ولمدة ثلاثين عاماً. بينما توجه آخرون للقول: إن لافروف يدرك تماماً ما يقول، ولم يكن ما قاله «زلة لسان» وأنه بوق لبوتين، كما أضاف أحدهم، أن لافروف قال هذا الكلام من خلال جهة إعلامية إيطالية، لأن روسيا تنظر إلى إيطاليا على أنها «هدف سهل نسبياً» وأن الجمهور الإيطالي أكثر تعاطفاً مع روسيا من جماهير الدول الأخرى، عدا عن أن روسيا هي المورد الأساسي للغاز إلى إيطاليا.
الـ «بي بي سي» أيضاً نشرت مقالة حول الموضوع بعد المقابلة بيومين، وحرصت على ذكر أن المقابلة أتت «بعد أيام من احتفال إسرائيل بيوم ذكرى المحرقة، وهو أحد أكثر المناسبات الجليلة في التقويم الإسرائيلي». كما ذكرت هذه المقالة أن «إسرائيل» حاولت أن تكون وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا وأن حكومتها واجهت الانتقاد لأنها لم تتخذ موقفاً أكثر صرامة مع روسيا، وأن «تعليقات لافروف ستختبر علاقات إسرائيل مع روسيا، وبينما كانت مهينة لكثيرين، فإنها تعكس سردية مشتركة بين مؤيدي الكرملين».
ماذا وراء التصريحات والردود؟
رغم كثرة ما قيل عن الموضوع، إلا أنّه بقي في معظمه يدور في فلك النظر إلى المسألة من الزاوية الأوكرانية فحسب؛ أي ضمن حدود أنّ طبيعة الاشتباك المتصاعدة بشكل ملحوظ بين الكيان وبين روسيا، إنما تتمركز حول نقطة واحدة هي موقف الكيان مما يجري في أوكرانيا، وأنّ السلوك الروسي يستهدف الضغط على الكيان لتغيير موقفه واصطفافه في هذه القضية!
ورغم أنّ هذا التفسير يتمتع بمقدار لا بأس به من السخف والسذاجة (إذ إنّ روسيا تقف اليوم أمام الولايات المتحدة ومعها بريطانيا ومعظم دول أوروبا واليابان وغيرهم في مواجهة مفتوحة وعلى صُعد عديدة، ولن يكون لاصطفاف الكيان هنا أو هناك تأثير يذكر، خاصة مع ما يظهر أنه قناعة روسية بأنّ الكيان مصطف سلفاً في الصف الغربي، ولا يمكنه أن يصطف في أي مكان آخر أياً تكن الضغوط).. ما نقوله: إنه رغم ضحالة هذه الزاوية في رؤية الموضوع، إلا أنها توفر غطاءً لا بأس به يهدف إلى التعمية عن الأبعاد الحقيقية الأكثر عمقاً وجوهرية... وهي الأبعاد التي سنحاول الوقوف عندها فيما يلي:
أولاً: الأوليغارشيا
في مقالة نشرتها «ذا تايمز أوف إسرائيل» وبعنوان «إن العقوبات المفروضة على الأوليغارشية الروسية تقضم تمويل المؤسسات اليهودية»، تذكر المقالة، أنّ عدداً من الأثرياء اليهود الروس خضعوا للعقوبات الغربية بسبب «علاقتهم المزعومة ببوتين». وتركز على ربط هذه العقوبات بتوقف الدعم للمؤسسات «الخيرية والتعليمية» والذي أوقف الدعم عن «المحتاجين في إسرائيل»، فيما تبدو محاولة لتقديم حجة لإعفاء هؤلاء من العقوبات. كما تذكر المقالة، أن أولئك يحاولون أيضاً أن يكون لهم دور في التوسط في السلام بين روسيا وأوكرانيا، والذي أيضاً يصب في محاولة لإضافة هذا إلى قائمة أعمالهم «الخيرية» التي يجب أن تشفع لهم.
وفق مقالة في «جيروزاليم بوست» حول الأوليغارشية في روسيا، «في عام 2018، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية «قائمة بوتين». ووثقت 210 روسياً، من بينهم 114 شخصية سياسية بارزة و96 من الأوليغارشية، جميعهم بصافي ثروة لا تقل عن مليار دولار، وجميعهم يُعتبرون قريبين من الكرملين. وكان 20 يهودياً على القائمة، وكثير منهم يحملون جوازات سفر إسرائيلية». وأشارت المقالة بشكل عابر إلى أن «إسرائيل» لم تلتحق بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وأن عدداً من أولئك لديهم جواز سفر «إسرائيلي» وعدد منهم أيضاً يقيم فترات طويلة في «إسرائيل». كما تشير المقالة إلى قانون «ميلكان» والذي كان «مُصمماً خصيصاً لمنتج هوليوود الملياردير أرنون ميلكان، الذي عمل كعميل للموساد لمدة 20 عاماً حتى منتصف الثمانينيات. ويعفي هذا القانون المهاجرين الجدد من الإبلاغ عن الدخل الأجنبي إلى مصلحة الضرائب الإسرائيلية لمدة 10 سنوات بعد الهجرة»، وكان هذا لتحفيز أولئك لجلب ثرواتهم إلى «إسرائيل».
وفق مقالة لجريدة «فوربس» الأمريكية بعنوان «لماذا أصبحت إسرائيل الملاذ الآمن للمليارديرات الروس»، فإن: «جواز السفر الإسرائيلي هو جواز السفر الثاني الأكثر شيوعاً بين المليارديرات المولودين في روسيا». ووفق تقرير لمركز الدراسات الأوروبي «مجلس العلاقات الخارجية» فإنه منذ بداية الأحداث في أوكرانيا، «لجأ إلى إسرائيل عشرات من الأوليغارشية الروسية، سواء مزدوجو الجنسية أو يهود غير إسرائيليين».
وباختصار، فإنّ الصراع المفتوح الذي تخوضه روسيا، وتمثل فيه أوكرانيا رأس جبل الجليد، قد بدأ ينتقل بشكل سريع، وبفعل العقوبات الغربية بالدرجة الأولى، إلى مواجهة تشمل أعصاباً أساسية في الداخل الروسي نفسه... فليست خافية الأدوار التي لعبتها الأوليغارشية الروسية مما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ومن ثم الأدوار التي لعبتها بشكل خاص في التسعينات وحتى اللحظة. وهذه الأدوار ارتكزت إلى علاقات عميقة مع المؤسسات الغربية ومع رأس المال الغربي والصهيوني ضمناً، وبرزت عبر أشكال مختلفة من بينها سياسات مالية محددة وكذا سياسات اقتصادية.
الصراع بين مشروع دولة مستقلة وعظمى وبين مصالح الأوليغارشية، كان وما يزال قائماً طوال العشرين سنة الماضية، وسبق أن تلقت الأوليغارشية، وخاصة اليهودية، عدة ضربات خلال هذين العقدين، ولكنها لم تخسر كل مواقعها (تشوبايس مثالاً، والذي لم يصبح خارج اللعبة سوى بعد المستجد الأوكراني)، ولكن مع الوضع المستجد وصلت الأمور إلى نقطة انعطافية؛ فبقاء روسيا ونجاح مشروعها بات يتطلب استقلالاً حقيقياً عن الغرب وعن آليات نهبه، وهذه الآليات نفسها هي مصدر الثراء الفاحش للأوليغارشية، ولذا فإنّ تدمير تلك الآليات يعني تدميرها هي أيضاً...
بهذا المعنى، فإنّ تصريحات لافروف، وبجانب منها، يمكن أن تفهم بوصفها طلقة ليس صوب الكيان فحسب، بل وصوب الأوليغارشية الروسية نفسها المرتبطة بالغرب، والتي يمتلك الأوليغارش اليهود ضمنها مواقع أساسية، ويلعب قسم منهم على الأقل، بشكل علني هذه الأيام، أدواراً منسجمة كلياً مع الموقف الغربي...
ثانياً: الصهيونية
إذا كان الصراع الذي تقف روسيا في طليعته المباشرة اليوم، ويقف معها عمالقة بحجم الصين والهند، مع مساندة مباشرة وغير مباشرة من دول إقليمية متعددة حول العالم، يستهدف في الجوهر النظام العالمي القائم، المُهيمن عليه غربياً، فإنه يستهدف ضمناً لب ذلك النظام القائم على السيطرة المالية الدولارية التي تحولت إلى أداة النهب الأكثر إجراماً عبر التاريخ.
وليس خافياً، أنّ الصهيونية كمنظومة، وهي أوسع وأكبر من مشروع «إسرائيل»، هي بالأساس كتلة مالية استثمرت في مشروع الكيان وتستثمر في مشاريع متعددة حول العالم. وهذه الكتلة هي مكون أساسي في نواة النظام المالي العالمي الدولاري القائم، والصراع يخاض معها ضمناً... ولذا فإنّ ضرب الأساس الذي طالما لعبت عليه الصهيونية عبر ادعاء التناقض بينها وبين النازية، يعني أنّ المعركة مع الوقت ستصبح مكشوفة أكثر فأكثر معها... وهذا بغض النظر حتى عن نوايا وطريقة تفكير المتحكمين في الأمور بموسكو... أي إنّ هذا الاتجاه هو اتجاه موضوعي بما يتعلق بروسيا... فإذا كانت الصهيونية قد نجحت خلال الحرب العالمية الثانية في الاستثمار بالنازية إلى الحد الأقصى، وجني الثمار، وضمناً احتلال فلسطين وإقامة الكيان، فإنّ المعركة الحالية مع الطور الجديد من النازية لا يبدو قابلاً للاستثمار صهيونياً، بل وأكثر من ذلك فإنّه يفتح الباب أمام إعادة الاعتبار لتعريف جورجي ديمتروف للفاشية بوصفها: «الديكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر رأس المال رجعية وشوفينية وإمبريالية»، وهذا التعريف ينطبق في عالمنا المعاصر على الصهيونية بكل جوانبه.
ثالثاً: الكيان
من المفهوم ضمناً، أنّ إبراز الحقيقة التاريخية للعلاقة بين الصهيونية (وإنْ لم تذكر بالاسم بعد) وبين النازية، من شأنه أيضاً أن ينسف الأساس الذي استُخدم للاستثمار في مشروع الكيان. وبوضوح أعلى، فإنّ الكيان الذي يدعي أنه «دولة لمظاليم الهولوكست»، سيكف عن كونه كذلك حين يجري الفصل بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كمشروع استعماري... فحين يُقال: إنّ النازي يمكنه أن يكون يهودياً، فهذا يعني أنّ الكيان الإسرائيلي نفسه يمكنه أيضاً أن يكون نازياً، وهذا ما سمعنا إشارات باتجاهه في تصريحات للخارجية الروسية خلال الشهرين الأخيرين، من بينها بيان يوم 15 من نيسان الماضي، جاء فيه: «كما هو معلوم هناك انتهاك للعديد من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تواصل الحكومة الإسرائيلية الاحتلال غير القانوني وضم الأراضي الفلسطينية ما أدى إلى مقتل الآلاف من الفلسطينيين»...
وشدد البيان نفسه على أن قطاع غزة أصبح بشكل أساسي «سجنًا في الهواء الطلق» واضطر الملايين للبقاء على قيد الحياة لمدة 14 عامًا تقريبًا في ظل ظروف الحصار البحري والجوي والبري الذي تفرضه «إسرائيل».
وخلص البيان إلى أنه: «من الجدير بالذكر أيضاً مسار إسرائيل في الحفاظ على أطول احتلال في تاريخ العالم بعد الحرب، ويتم ذلك بتواطؤ ضمني من الدول الغربية، وبدعم فعلي من الولايات المتحدة».
خلاصة:
الاتجاه الموضوعي للصراع سيفتح الباب على مزيد من التناقض بين روسيا وبين الصهيونية ككل، وبين الكيان «الإسرائيلي» ضمناً؛ ينبع ذلك من طبيعة التموضع الصهيوني التاريخي المرتبط عضوياً بالمنظومة الدولارية التي يجري ضربها هذه الأيام.
وهذا الاتجاه الموضوعي وبغض النظر عمّا يظهر منه على السطح وما يتوارى، وبغض النظر عمّا سيبدو عليه الأمر من صعود وهبوط خلال الأشهر والسنوات القادمة، إلا أنه لن يتوقف عن التعزز والتعمق... وهو الأمر الذي سيحمل انعكاساته المتعددة بما فيها انعكاساته على الوضع الفلسطيني والسوري...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1069