ما الذي يكمن وراء استماتة «إسرائيل» في تمثيل دور «الوسيط» في الأزمة الأوكرانية؟

ما الذي يكمن وراء استماتة «إسرائيل» في تمثيل دور «الوسيط» في الأزمة الأوكرانية؟

أجرينا قبل أسبوعين جولة على ما تناولته وسائل الإعلام «الإسرائيلية» حول الأحداث في أوكرانيا، في تغطيتها المكثفة للأحداث الجارية خلال الأيام الأولى من المعركة. كانت هناك فكرتان رئيسيتان نعتقد أنهما تستحقان التذكير بهما، أولاً: تقريباً كل المقالات تحدثت عن سورية في سياق تحليل الأحداث في أوكرانيا؛ وثانياً: تحاول «إسرائيل» أن تتصرف كما لو أنها دولة «طبيعية»، تعمل على موازنة علاقاتها الدولية على أساس مصالحها، وبالتالي تحاول «عدم الانحياز لأيّ من الطرفين بوضوح».

في تلك المادة، ناقشنا كيف أنه كلما ازداد التناقض الغربي- الروسي، وهو أمر تسرّعه أحداث أوكرانيا بشكل كبير، فإن الهوامش التي تحاول «إسرائيل» اللعب فيها تضيق أكثر فأكثر. وذلك بطبيعة الارتباط الصميمي بين الغرب والكيان، بوصف هذا الأخير مشروعاً من المشاريع الأساسية للغرب، وذراعاً من أذرعه منذ نشأته الأولى.
في هذه المادة، سنلقي نظرة أخرى على ما قالته وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث «الإسرائيلية» خلال الأسبوعين الماضيين، وما تحمله من رسائل ومؤشرات، ليس فقط في سياق ما يحدث في أوكرانيا، ولكن أيضاً على المستوى الإقليمي والدولي.

ما الذي يقولونه اليوم؟

قبل ما يزيد عن أسبوع بقليل، في 4 آذار، نقل مقال في «التايمز أوف إسرائيل» عن مصدر حكومي قوله: إنه «إذا استمر الوضع في التصعيد... فإن إسرائيل ستضطر للانضمام إلى الجهود الغربية لفرض العقوبات». وبحسب ما ورد في المقال، قال مصدر حكومي آخر: «إن إدارة بايدن حتى الآن منحت «إسرائيل» مهلة، معترفة بحاجتها إلى الحفاظ على علاقات عملية مع روسيا. لكن... كلما استمرت هذه الحرب لمدة أطول، لن نتمكن بعد الآن من الجلوس على السياج. سيتعين علينا اتباع سياسة مختلفة- في الأقوال والأفعال. سيتعين علينا اختيار جانب بوضوح أكثر». ويشير المقال إلى أنه «بينما أعربت «إسرائيل» في وقت مبكر عن قلقها بشأن العملية العسكرية الروسية، تجنب رئيس الوزراء نفتالي بينيت انتقاد موسكو أو بوتين، ضمن مساعيه للحفاظ على الضوء الأخضر الذي منحه الكرملين لـ «إسرائيل» منذ فترة طويلة، مما يسمح للجيش «الإسرائيلي» بالعمل في الأجواء التي تسيطر عليها روسيا فوق سورية ضد وكلاء إيران».
في 6 آذار، أي بعد حوالي 10 أيام من بدء المعركة، بينما كانت وسائل الإعلام لا تزال تحاول أن تدرس الآثار المحتملة التي يمكن أن تترتب على «إسرائيل» من الصراع، تحدث مقال في «Israel Hayom» عما «إذا كانت هناك حتى فرصة لحل سلمي يرضي الطرفين، فيجب على بينيت أن يستفيد منه بشكل كامل. وإذا نجح بينيت، فسوف ينال تقديراً دولياً واحتراماً في الداخل». ولكن، وفقاً للمقال، إذا لم يحدث ذلك «فسيُنظر إلى بينيت باعتباره الزعيم الغربي الوحيد الذي يبذل قصارى جهده حتى لا يغضب بوتين، ولا ينضم إلى العقوبات والإدانات، فضلاً عن كونه الشخص الذي يعطي شرعية للنظام الروسي». يتابع المقال مشيراً إلى أنه في النهاية يجب على صنّاع السياسة «الإسرائيليين» إدراك أن «روسيا تفعل فقط ما هو مفيد لروسيا».
يجب موازنة ذلك مع ما يعنيه ذلك بالنسبة لـ «إسرائيل» على الجانب الآخر– الغرب والولايات المتحدة– أي توجيه ضربة إلى «العلاقات الاستراتيجية بين «إسرائيل» والولايات المتحدة وأوروبا» وبالأساس حالياً «كل من الولايات المتحدة وأوروبا تتساءلان عما إذا كانت «إسرائيل» تريد أن تكون جزءاً من الغرب ككل على الإطلاق».
تكشف هذه الكلمات عن تصورٍ هو أقرب إلى التمني منه إلى التخطيط؛ أي الحديث عن احتمال الوصول إلى اتفاق ما يحل الموضوع الأوكراني، وتكون «إسرائيل» وسيطاً فاعلاً فيه. وقد تبدو تحركات بينيت الكثيفة بهذا المعنى محاولة للدفع باتجاه مثل هذا السيناريو المتخيل... لكنّ الجانب الأكثر أهمية، والذي لا يقوله الإعلام والمسؤولون «الإسرائيليون» بشكل صريح، والذي يمكن معرفته من متابعة التفاصيل في أوكرانيا نفسها، هو أنّ محاولة الكيان حشر أنفه بوصفه «وسيطاً»، هي أمر أبعد من مجرد محاولة تمثيل الحياد بين الشرق والغرب اتقاءً لغضب روسيا... المسألة في جوهرها، هي أنّه بات واضحاً لكل متابعي ما يجري في أوكرانيا، الارتباط الشديد بين مجموعات بانديرا الفاشية، ومعهم زيلينسكي، وبين الصهاينة و«إسرائيل» ضمناً... من ذلك مثلاً: فيديو على يوتيوب مدته حوالي نصف ساعة أطلق قبل خمسة أيام تحت عنوان «Моржи спивают, славяне рыдают» (حيوانات الفظ تنام، والسلاف يبكون)، ويكشف هذا الفيديو بالصوت والصورة عن علاقات عميقة بين مجموعات بانديرا وبين الصهاينة، وينتهي بمقطع لمجموعة من الحاخامات اليهود في إحدى المدن الأوكرانية قبل حوالي الشهر يغنون أغنية تمجيداً لبانديرا... (بانديرا هو أحد قادة المتعصبين القوميين الأوكرانيين خلال الحرب العالمية الثانية، والذي حارب ضمن صفوف جيوش هتلر ضد السوفييت).
في 10 آذار، نشر معهد الأبحاث «الإسرائيلي» INSS تحليلاً للجوانب القانونية لـ «الغزو الروسي لأوكرانيا». وكان الاستنتاج الرئيسي: أنه «إذا كان بإمكان «إسرائيل» أن تلعب دوراً مفيداً في تسوية النزاع، فعليها أن تفعل ذلك. ومع ذلك، من المهم بالنسبة «لإسرائيل» ألا يُنظر إليها على أنها تتغاضى عن العدوان الروسي، ولو بحكم صمتها. بالإضافة إلى التكلفة الإستراتيجية لعلاقاتها مع حلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ودعم الاتهامات الموجهة «لإسرائيل» كدولة خارجة عن القانون وعدوانية، فإن الجلوس على السياج يمكن أن يضع «إسرائيل» في الجانب الخطأ من التاريخ».
هناك بالتأكيد شعور متزايد بين المستوطنين بالقلق من الموقف الذي اتخذته «اسرائيل» والذي يبدو «محايداً»، وتحديداً من قبل بينيت. في مقال نُشر في 10 آذار في «تايمز أوف إسرائيل»، يرى الكاتب: أن «محاولات بينيت للبقاء على الحياد بشأن روسيا وأوكرانيا تعني مشاكلاً «لإسرائيل» فيما يتعلق بإيران». ينتقد المقال جهود الوساطة المزعومة من قبل بينيت، بالقول: إنه «قرر محاولة التوسط في صفقة بين الدولة الغازية والنووية التي تحاول إحياء الإمبراطورية الروسية وجارتها المحاصرة والصامدة أوكرانيا- وهي الدولة التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا يحق لها أن تكون موجودة والتي يحاول سحقها الآن». ويمضي ليقول: إنه «بينما يحاول العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة إحباط روسيا دون إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة، رفض بينيت بشدة الانحياز إلى أي طرف».
يشير المقال في النهاية إلى أن «إسرائيل تتمتع بمكانة فريدة إلى حد ما كحليف دافئ لكلا طرفي الصراع. لكن ليس «لإسرائيل» نفوذ فريد على بوتين… بل على العكس تماماً: يتمتع بوتين بنفوذ على بينيت، والذي يسعى إلى الحفاظ على حرية «إسرائيل» في التصرف في سماء سورية». ثم يختتم بالقول: «بصرف النظر تماماً عن عدم التسامح الأخلاقي لهذا الموقف، وضوء النهار الخطير الذي يضعه بين «إسرائيل» وحلفائها الأساسيين، وخاصة الولايات المتحدة، فإن هذا يقوض حاجة «إسرائيل» الحيوية: أن يقف المجتمع الدولي جنباً إلى جنب مع أوكرانيا في مقاومة الأجندة المدمرة لقوة إقليمية تدعو للحرب، ستفعل ذات الشيء بالضبط «لإسرائيل» عندما يتعلق الأمر بإيران».
وفي مقال نشرته «التايمز أوف إسرائيل» في 11 آذار، تم التركيز على تصريحات سفير أوكرانيا في «إسرائيل»، حيث عبر فيها عن اللوم لـ «إسرائيل» على «عدم اتخاذ موقف واضح ضد روسيا» و«خوفها من موسكو». وبحسب المقال، أضاف قائلاً: «لدى روسيا بضع طائرات وأنظمة مضادة للصواريخ في سورية، وأنتم خائفون». ثم «دعا الحكومة «الإسرائيلية» إلى الانضمام إلى العقوبات التي يقودها الغرب ضد روسيا». وفقاً للمقال، تم رفض طلب من الرئيس الأوكراني للتحدث أمام الكنيست، بحجة أنه لم يكن منعقداً- وهذا أيضاً أزعج أوكرانيا، كما عبر عن ذلك سفيرها.
في اليوم التالي، أي 12 آذار، مقال آخر في «The Time of Israel» تكلم حول طلب الرئيس الأوكراني خلال إحاطة للصحفيين أن «تستضيف القدس مفاوضات بين أوكرانيا وروسيا»، وركز في طلبه على ذكر القدس بالتحديد. وفي هذا الصدد، قال سفير «إسرائيل» في أوكرانيا، والذي أشار المقال إلى أنه «عاد مؤقتاً إلى إسرائيل»، ردًا على المقترح أن «فكرة عقد قمة في القدس أثيرت أيضاً سابقاً. وإذا كان بإمكانها المساهمة، أعتقد بالطبع علينا الاتفاق والمضي قدماً بالفكرة». من الجدير بالذكر هنا، أن عدة جهات إعلامية تناولت هذا الموضوع ونوهت إلى أن هذا يتطلب موافقة موسكو، ما يعني أن روسيا لم تعط جواباً (علنياً) حول فكرة عقد مفاوضات بوساطة «إسرائيلية».
ذكرت هذه المقالة أيضاً: أن «أحد كبار مستشاري زيلينسكي نفى تقريراً يفيد بأن «إسرائيل» دفعت الزعيم الأوكراني لقبول عرض من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من شأنه أن يعني تقديم كييف تنازلات كبيرة لإنهاء الغزو الروسي». جاء ذلك رداً على تقارير عن مسؤول أوكراني قال لوسائل إعلام «إسرائيلية»: إن بينيت اقترح في مكالمة هاتفية مع زيلينسكي يوم الجمعة أن يستسلم ويقبل اقتراح بوتين. ومع ذلك، قال مسؤول أوكراني في تغريدة على تويتر: «إن «إسرائيل» حثت روسيا على تقييم الأحداث بشكل أنسب». مكتب بينيت «نفى أن يكون بينيت قد طلب من زيلينسكي قبول عرض بوتين، لأن «إسرائيل» ليس لديها مثل هذا العرض».
كما انتقد وزير الدفاع الأوكراني في حسابه على فيسبوك «إسرائيل» على موقفها، قائلاً وفق مقال نشر في 12 آذار في «معاريف»: إن «إسرائيل تُظهر انفصاماً لا يمكن تفسيره وعدم الاستعداد لاختيار طرف في الحرب في أوكرانيا. سيؤدي هذا إلى زيادة عدم الثقة لسنوات عديدة، لأننا سنفوز- بلا شك– معها أو دونها».
في الوقت ذاته، يحاول لاعب إقليمي آخر، هو تركيا، الدخول في جهود الوساطة بين أوكرانيا وروسيا، وهو أمر قد يكون جزءاً من مقاربة تركيا الجديدة للمنطقة، وفقاً لمقال نُشر في 12 آذار في صحيفة «جيروزاليم بوست»، والذي يرى جزءاً من هذه المقاربة الجديدة «دفء العلاقات مع إسرائيل». يمكن ربط هذا، وفقاً للمقال، بـ «التحول في العلاقات بين «إسرائيل» وتركيا»، كما تثبت «الزيارة الأولى لأنقرة منذ 15 عاماً لرئيس «إسرائيلي» الأسبوع الماضي». ويبدو هذا النمط من التحليل سطحياً بدرجة نافرة، وينطلق من التوهمات «الإسرائيلية» بأنّ كل ما يجري في العالم يدور حول مركزٍ واحد هو «إسرائيل» نفسها؛ فتفسير محاولات تركيا الدخول للعب دور وساطة، بل والقبول النسبي لروسيا بذلك، هو أمر لا علاقة له بالكيان، بل بمحاولات تركيا التغطية على موقفها الذي لم يسر بشكل كاملٍ في الركب الغربي بما يخص العقوبات على الأقل، وهو ضمناً محاولة لتخفيف الضغوط الغربية على تركيا نفسها، وهو مراوغة باتت معتادة من قبل تركيا...
وبينما ركزت معظم المقالات على الموقف السياسي وانعكاساته على التموضع «الإسرائيلي» بين الغرب وروسيا، القليل جداً من المقالات تناول الجوانب الاقتصادية. تطرق مقال نُشر في 8 آذار في صحيفة «جيروزاليم بوست»، وهو مقال أقرب إلى البروباغندا الإعلامية منه إلى التحليل الاقتصادي العلمي، إلى افتراض أنه يمكن للحرب الروسية الأوكرانية أن تكون «فرصة غازٍ لإسرائيل»؛ إذ زعمت المقالة أنّ النقص المتزايد في الغاز الطبيعي في أوروبا، والذي يدفع الأسعار إلى الصعود بسرعة هائلة، قد يؤدي إلى إحياء «خط أنابيب EastMed» والذي تم إيقافه «بسبب نقص الدعم المالي وسحب الولايات المتحدة الدعم له في بداية هذا العام».

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1061
آخر تعديل على الأربعاء, 16 آذار/مارس 2022 22:09