العلاقة الروسية- التركية: «عيون مغلقة على اتساعها»!
ريم عيسى ريم عيسى

العلاقة الروسية- التركية: «عيون مغلقة على اتساعها»!

يدرك أي متابع للملف السوري أهمية وتأثير العلاقة الروسية- التركية على سورية، سواء الجوانب الإيجابية من تلك العلاقة أو الجوانب السلبية... وكانت هذه العلاقة قد أخذت منحى جديداً بالإطار الرسمي من خلال مسار أستانا الذي ولد نهاية عام 2016.

منذ أن انطلق مسار أستانا، أصبح واضحاً أن التقارب الروسي-التركي بات مصدراً رئيسياً للقلق بالنسبة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة التي لم تدّخر أية فرصة لتقويض ما كان من الواضح أنه علاقة إستراتيجية تعمل خارج نطاق توازن القوى الدولي القديم، وضمن الجهود التي تصب في إرساء توازن دولي جديد. وقد امتدت أدوات الغرب المستخدمة في التأثير على هذه العلاقة على طيف واسع من الإجراءات بينها: اقتصادية وسياسية/ دبلوماسية وعسكرية وإعلامية.
في هذه المادة سنلقي نظرة سريعة على أمثلة من التغطية الإعلامية للاجتماع الأخير بين رئيسي الدولتين، بوتين وأردوغان، في نهاية الشهر الماضي في سوتشي، في اجتماع استمر قرابة ثلاث ساعات دون أي مؤتمر صحفي بعد ذلك. وكانت هناك تصريحات منفصلة من الرئيسين وتعليقات مقتضبة من مسؤولين آخرين، ولكن لم يتم التكلم بالتفاصيل.
ورغم عدم وجود كثير من التفاصيل حول اللقاء، إلا أنّ التصريحات التي أطلقها الطرفان بعد لقائهما وخلاله، تحمل إشارات أولية على نقلة جديدة ضمن التفاهمات الثنائية بما يخص سورية. وربما أهم من ذلك من وجهة النظر الأمريكية أنّ تلك التصريحات قد حملت توجهاً منسجماً أكثر حدة ضد الوجود الأمريكي في سورية. وكان لافتاً في هذا الإطار تصريح أردوغان عن ضرورة مغادرة الأمريكيين لسورية، وهو التصريح الأول من نوعه بهذه الحدّة وبهذه المباشرة... إضافة إلى التصريحات التي تحدثت عن «مقاربة شاملة» للوضع السوري باتجاه حل سياسي شامل. هذه التصريحات، ورغم عموميتها، ورغم بقاء تعقيدات عديدة على رأسها الاحتلال التركي لمناطق من الشمال السوري، وكذلك استمرار وجود جبهة النصرة وتنظيمات أخرى مصنفة على قوائم الإرهاب، إلا أنّ الاتجاه العام للتصريحات الروسية والتركية، وربما على الخصوص غياب التفاصيل مع وضوح الاستهداف العام، تشير إلى أن البلدين ملتزمان بمواصلة العمل على العلاقات بينهما على مستوى إستراتيجي وبعيد المدى، وأنّ إنهاء أي خلاف حول الشأن السوري بات ضرورة ملحة للمضي قدماً.

جولة في الصحف الغربية

قبل الاجتماع، اقترح مقال في وكالة أسوشيتد برس أن تركيا تتجه إلى روسيا «بعد أن خيّبت المحادثات مع بايدن آمالها»، في إشارة إلى المحادثات بين بايدن وأردوغان خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد أشار المقال إلى أن خيبة الأمل هذه هي السبب في أن الرئيس التركي «سيسعى إلى توثيق العلاقات مع روسيا».
واستمرت مقالات أخرى بعد الاجتماع بالخطاب نفسه؛ ففي مقال نشرته بلومبرج، فإنّ أول شيء يقوله الكاتب هو: «قد لا يكون للزعيم التركي مكان يلجأ إليه سوى موسكو الآن بعد أن أحرق جسوره مع واشنطن». ويصور المقال الاجتماع الذي عقد قبل بضعة أيام على أنه «الخطوة التالية في انفصال تركيا عن التحالف المتهالك مع الولايات المتحدة».
وبطريقة ما، يخلص الكاتب إلى أنه «لم يتم التوصل إلى قرارات هامة» (بعد اجتماع سوتشي)، على الرغم من وجود الكثير من التكتم من كلا الجانبين. وفي نهاية المقال، يقرر الكاتب أن روسيا حصلت على الحصة الأكبر من هذا اللقاء، بينما خرجت تركيا في النهاية خاسرة، ولم تحصل على أي شيء قابل للقياس، وفي الوقت نفسه خسرت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
في مقال للمجلس الأطلسي يحلل أربعة محللين اللقاء الأخير بين بوتين وأردوغان، حيث يصور أحد المحللين أن العلاقة تحركها «العلاقات المتدهورة بين أنقرة والغرب» و«ابتعاد أردوغان عن الغرب». ويرى محلل آخر، وهو جيمس جيفري، أن أهمية الاجتماع الأخير مدفوعة بغياب الدعم الأمريكي، الذي كان قد عزز تركيا في السابق. يقول جيفري إن «وقف إطلاق النار في إدلب نتج عن الدبلوماسية الأمريكية التي تدعم العمليات العسكرية التركية والإسرائيلية في سورية، ومن خلال إبقاء القوات الأمريكية هناك، للضغط على روسيا والأسد من أجل التوصل إلى تسوية شاملة للنزاع».
أشار مقال آخر في «المونيتور» إلى أن المحرك الرئيسي لعلاقة تركيا مع روسيا هو «عملية موازنة [تقوم بها تركيا] بين روسيا والولايات المتحدة»، وأن العامل الرئيسي في الاجتماع الأخير بين أردوغان وبوتين هو فشل «جهود أنقرة لتعزيز مكانتها في حلف شمال الأطلسي وفشلها في إصلاح العلاقات مع واشنطن».
كما رأت وسيلة الإعلام البريطانية «فاينانشال تايمز» أن التوترات بعد فشل الاجتماع بين بايدن وأردوغان خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة عامل مهم في التقارب الروسي-التركي. كما وصف كاتب المقال روسيا بأنها «حليف المصلحة العرضي» لتركيا.
كما أن صحيفة «جيروزاليم بوست» «الإسرائيلية» كانت لديها الفكرة نفسها، على الرغم من الإشارة إلى أن «التحرك التركي نحو روسيا لا يحدده فقط تراجع علاقات أنقرة مع واشنطن». ويشير المقال إلى أن أحد العوامل الدافعة هو موقع تركيا في المنطقة، ولا سيما فيما يتعلق بتجنب الانعزالية الإقليمية، وهو ما يفسر جهودها للتواصل «مع الإمارات العربية المتحدة ومصر، ولا سيما إسرائيل». ومع ذلك، يخلص المقال إلى أن «جهود أنقرة المستمرة في هذا المجال، وابتعادها المتزايد عن واشنطن، وتحركاتها اتجاه روسيا ومعارضتها المباشرة لأقرب حلفاء إسرائيل الإقليميين والناشئين تعني أنه من غير المرجح حدوث تقارب وشيك بين تركيا وإسرائيل، وأن الجهد المفرط اتجاهها غير مجد وربما غير مستصوب في المستقبل المنظور». كل هذا يمكن تلخيصه بعنوان مقال جيروزاليم بوست: «العلاقات المتنامية بين تركيا وروسيا هي مصدر قلق لإسرائيل».

! Eyes wide shut

بشكل عام، تحاول وسائل الإعلام الغربية والأمريكية، ومعها وسائل إعلامٍ سورية محسوبة على الطرفين المتشددين، تحاول تصوير الأمر برمته على أنه توجه من قبل تركيا إلى روسيا بعد أن «رفضتها» الولايات المتحدة أو «خاب أملها» فيها، كما لو أن هذه العلاقة هي شيء حدث مؤخراً أو حادثة عابرة، أو الأهم من ذلك، أنها علاقة مدفوعة بسلوك أمريكي، وأن روسيا بالنسبة إلى تركيا هي خيارٌ ثانٍ أو ملاذ أخير، أو أنها بالأحرى مجرد وسيلة تكتيكية تستخدمها تركيا لابتزاز الولايات المتحدة. وبالرغم من أنه لا يمكن نفي محاولات الابتزاز التركية أو محاولة اللعب بين القوتين العُظميين، ولكن اختصار الأمر بهذه النقطة ذات الطابع التكتيكي هو إغفال للاتجاه العام الإستراتيجي الذي تسير وفقه الأمور، والذي من الواضح أنّه ليس مرضياً لا للغرب ولا للمتشددين من الأطراف السورية.
من المثير للانتباه فعلاً، كيف يتعاطى الإعلام الغربي بشكلٍ منضبط جداً وموحدٍ مع العلاقة التركية الروسية؛ فهو يصرّ على النظر إلى الموضوع من وجهة النظر «التكتيكية»، ويصر في الوقت نفسه على إغفال جوهر المسألة، أي جانبها الإستراتيجي بعيد المدى... فمن عادة الإعلام الغربي أن يناقش على الأقل احتمالات الأبعاد الإستراتيجية، ولكنه في حالة العلاقة التركية الروسية، ووفقاً لما استطعنا متابعته من إعلام غربي، يرفض حتى طرح هذه الاحتمالات أو التفكير بها... وهذا بحد ذاته مؤشر على مدى فهم الغرب لأبعاد تلك العلاقة بالمعنى الإستراتيجي...
تترجم قنوات الأفلام عنوان الفيلم الأمريكي الشهير Eyes wide shut إلى العربية: «عيون مغلقة على اتساعها»، والمقصود هو العيون المفتوحة بشدة أمام مشهدٍ واضح ترفض أن تراه وترفض أن تصدقه... يبدو أنّ عيون الإعلام الغربي اتجاه العلاقة الروسية التركية، هي «عيون مغلقة على اتساعها»...

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1039
آخر تعديل على الخميس, 14 تشرين1/أكتوير 2021 23:32