12 فكرة أولية لحصيلة أسبوعين من الحدث التونسي

12 فكرة أولية لحصيلة أسبوعين من الحدث التونسي

لم يمر بعد ما يكفي من الوقت لتتضح الصورة التونسية بشكلٍ وافٍ، ولكن مع ذلك فقد بات هنالك من الوقائع ما يكفي للخروج ببعض الأفكار العامة، التي سأسردها فيما يلي دون ترتيب محدد...

(1)

رغم أنّ ما نراه على سطح الظاهرة التونسية هو الإجراءات التي اتخذها قيس سعيّد والانقسام حولها، داخلياً وخارجياً، إلّا أنّ أحد الجوانب الجوهرية للظاهرة، يكمن في استمرار تعفّن النظام الحاكم في البلاد؛ فحصيلة السنوات العشر الماضية، والأحداث المستجدة، تعيد التأكيد على أنّ «بن علي هرب» لكن النظام ما يزال قائماً حتى اللحظة، وما جرى حتى الآن لا يعدو من حيث الجوهر كونه تغييراً للطرابيش وتلاعباً بالناس عبر بدائل وهمية.

(2)

السمات الواضحة والمشتركة بين عدد من الأنظمة التي قامت الحراكات الشعبية ضدها خلال السنوات العشر الماضية، هي أربع سمات 1- هي أنظمة قمعية وأمنية الطابع، جهاز القوة الأساسي فيها هو الجيش من حيث الشكل، ولكن بالممارسة فإنّ الاستخبارات هي المتحكم والذراع الضاربة. 2- ليبرالية اقتصادياً؛ وبالملموس ناهبة وفاسدة وتحكم لمصلحة قلة اقتصادية في وجه عموم الناس. 3- علمانية شكلياً؛ فهي تقف على مسافات متساوية من «المكونات»، لأنّ هذه المكونات كلّها بالنسبة لها هي مادة للنهب والقمع، مع استخدام التباينات بين المكونات حيث يلزم، لإلهاء الناس بالاقتتال فيما بينها بدل التوحد في وجه ناهبيها. 4- تابعة للغرب؛ بالحد الأدنى تبعيةً اقتصادية تقوم على التبادل اللامتكافئ، وبالحد الأعلى تبعية اقتصادية وسياسية شاملة، مع ملاحظة أنّ الحد الأدنى يتضمن أيضاً درجة ما من التبعية السياسية.

(3)

فلننظر، على أساس السمات السابقة، إلى «أنظمة الإخوان المسلمين» الذين جرى تقديمهم خلال السنوات الأولى بعد 2010 بوصفهم بدائل للأنظمة التي «زالت». 1- أنظمة الإخوان هي أيضاً أنظمة أمنية الطابع، مع فارق أنّ الجيش -شكلياً أو فعلياً- بات يلعب دوراً أقرب إلى الحياد في حين استمر مركز ثقل القمع موجوداً في «أجهزة القوة المدنية» وعلى رأسها الاستخبارات إضافة إلى الميليشيات غير النظامية، والسرية أحياناً كما في الحالة التونسية (من المهم الإشارة إلى أن هذه السمة تساعد في تنحية النقاش السطحي للمسألة من باب الصراع بين الديكتاتورية والديمقراطية). 2- بالتجربة أيضاً، ظهر أنها أنظمة ليبرالية اقتصادياً، ناهبة وفاسدة. 3- ليست علمانية طبعاً من حيث الإيديولوجية المعلنة، ولكن بالممارسة فهي تقف على مسافة متساوية من جميع أفراد الشعب بوصفهم موضوعاً للنهب والقمع، والفارق الوحيد بين الإخوان والأنظمة السابقة عليهم بهذا الخصوص، هو أنّ الإخوان يستخدمون علناً الفوالق الطائفية والدينية لتأليب الناس على بعضها البعض، ومنع توحيدها ضدهم، في حين أن «الأنظمة العلمانية» تقوم بالسلوك نفسه، ولكن بأشكال وأدوات أخرى. 4- هي أنظمة تابعة للغرب اقتصادياً وسياسياً بشكل كامل، مع فارق أنها تعلن ذلك بشكل وقح، في حين أن الأنظمة التي سبقتها تلعب إعلامياً لعبة «المحاور» و«التوازنات»، وتمتلك في بعض الأحيان استقلالاً نسبياً عن الغرب، ولكن سلوكها الفعلي يصب كما الإخوان في مصلحة الغرب، وأهم مؤشرات ذلك هو الوضع الاقتصادي للبلدان التي تحكمها، وتمنع تطورها وتبقيها متخلفة وتابعة تكنولوجيا، ومنهوبة بكل أدوات النهب التي يستخدمها الاستعمار الاقتصادي (تبعية تكنولوجية، مقص أسعار، ديون وقروض، هجرة عقول)...إلخ... والاستعمار الاقتصادي هو ظاهرة غربية من حيث المنشأ والتطور والممارسة الفعلية حتى اللحظة.

(4)

فكرة البدائل الوهمية هي أوسع من مجرد تبديل قوة بقوة أخرى مشابهة أو مماثلة بالطبيعة الاقتصادية الاجتماعية؛ فهنالك أيضاً طريقة التبديل التي تتناسب مع الانتقال من نظام إلى بديل وهمي له... ما أقصده أنّ الدرس الذي بات مفهوماً من قسم كبير من الناس نتيجة السنوات العشر الماضية، هو أنّ مجرد النزول إلى الشارع وحمل شعارات بعينها والحصول على تأييد خارجي إعلامي وسياسي، ومن ثم تغيير الطرابيش، هو الوصفة المناسبة للانتقال من نظام إلى بديله الوهمي، أي للبقاء ضمن المنظومة نفسها، (وهذا ما جرى من حيث المبدأ - مع وجود اختلافات عديدة بطبيعة الحال- في كل من مصر وتونس وليبيا والعراق وسورية واليمن).
بالنتيجة، فإنّ الانتقال من نظامٍ إلى نظامٍ آخر بديل له فعلاً، يتطلب آليات انتقال مختلفة عن تلك التي جرى استخدامها حتى الآن... هل يعني ذلك أنّ الموجة الجديدة من الحركة الشعبية لن تستخدم التظاهر مثلاً؟ ليس هذا المقصود بالتأكيد، ولكن المقصود هو أنّ آلية الانتقال ستكون جديدة، تتضمن بالضرورة درجات أعلى وأعقد وأكثر تنوعاً من التنظيم وتحوز بالضرورة درجة أعلى من الاستقلال النسبي عن الخارج.

(5)

بالنسبة للاصطفافات الإقليمية والدولية المعلنة مما جرى في تونس، فإنها جاءت متوقعة بقسمٍ كبير منها؛ أي أن تلك الأنظمة التي تقف مع الإخوان تقليدياً اعتبرت ما جرى انقلاباً، والتي تقف ضد الإخوان تقليدياً اعتبرته إنجازاً ديمقراطياً مهماً. تقصدت وضع كلمة المعلنة بخط عريض لكي أقول إنّ هذه المواقف ليست بالضرورة مواقف حقيقية؛ فتجربة السنوات العشر الماضية أثبتت (وبشكل خاص فيما يتعلق بدول الخليج العربي)، أنّ تأييد دول خارجية للحركات الشعبية في بلدان أخرى، كان الهدف الفعلي منه هو احتواء تلك الحركات وتدجينها وتحويلها إلى أدوات نفوذ إقليمي في يد تلك الدول، (وفي هذا يتساوى من دعموا السلفية الجهادية ومن دعموا الإخوان ومن دعموا الليبراليين غربيي الهوى)، بل وأبعد من ذلك يمكن القول إنّ الاستهداف النهائي لبعض الأنظمة من عملية التدجين تلك كانت ليست فقط التحكم بعمليات التغيير المحتملة، بل ومنعها حيث يمكن.

(6)

بالنسبة لمواقف القوى الخارجية مما يجري، ينبغي أيضاً التأكيد على أنّ هذه المواقف هي بالتأكيد عوامل مؤثرة، وأحياناً مؤثرة بشدة في السياق الداخلي، ولكنها قطعاً ليست منشأ الحركة الداخلية؛ فالمحرك بالأساس داخلي، واقتصادي اجتماعي بشكل خاص. ربما تبدو هذه بديهية، ولكن التذكير فيها ضروري لأن ما يبنى عليها مباشرة هو أنّ ما يجري في تونس هو في جوهره تعبير عن موجة جديدة من الحركة الشعبية، وليست مجرد «مؤامرة» خارجية.

1030-7

(7)

إذا كانت الأنظمة «الجديدة»، سواء إخوان أو عسكرتاريا، هي استمرار للأنظمة «القديمة»، فإنّ الحركة الشعبية التي انطلقت خلال العقد الماضي، هي ذاتها التي نراها اليوم تنطلق مجدداً ضد الأنظمة «الجديدة- القديمة»، وبحثاً عن حل المشكلات نفسها التي لم يجر حلّها بعد. ولكن مع فارق أنّ درجة نضج الحركة الشعبية السياسي والعملي باتت أعلى من السابق، (وقد دفعت ثمن تطور وعيها دماً وقهراً وعذابات هائلة). وضمناً فإنّ إمكانيات التلاعب بها وزجها في صراعات ثانوية، ودفعها نحو تبني بدائل وهمية، باتت أضعف من السابق بكثير.

(8)

وكما أثبتت وقائع السنوات العشر الماضية، فإنّ الحركة الشعبية في تونس هي جزء من ظاهرة عالمية، هي حركة شعبية عالمية بدأت نشاطها منذ حوالي العقد، وسيستمر هذا النشاط لعقود لاحقة حتى الوصول إلى تحقيق المهام الموضوعة أمامها تاريخياً. ولذا فإنّ الموجة الجديدة من الحراك في تونس، لا تخص تونس وحدها، بل هي مؤشر على أنّ ظروف الموجة الجديدة من الحراكات الشعبية في كل بلدان المنطقة (على الأقل)، وضمناً سورية بالتأكيد، قد باتت جاهزة أو هي على وشك أن تجهز.

(9)

الانقسام ضمن حركة النهضة بات واضحاً؛ ففي حين حاول قسم من الحركة تقديم زعيمها راشد الغنوشي كبش محرقة لعل وعسى يتم تحميله شخصياً كل آثام الحركة، فإنّه هو نفسه وبعد أن فقد الأمل على ما يبدو «بإصلاح ذات البين»، قد خرج ليقول إنّ إجراءات سعيّد يجب أن تتحول إلى فرصة ومرحلة ضمن التحول الديمقراطي للبلاد، ليرد أحد قيادات الحركة، بأن ذلك هو رأي شخصي وليس رأي الحركة التي لا تزال تصف ما جرى بأنه انقلاب كامل الأركان... المهم في المسألة هي أنها تأكيد لقانونية معروفة القوى المتراجعة تنقسم على نفسها، مرة ومرتين وأكثر. هذا مثلاً كان حال الأحزاب الشيوعية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو النصف الذي تراجعت ضمنه الحركة الشعبية حول العالم وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي وإلى الثورات الملونة... وما يُبنى على هذا الكلام، هو أنّ كل الحركات الشبيهة بالإخوان، وفي كل بلدان المنطقة، ستدخل في مرحلة طويلة من الانقسامات والضعف.

(10)

في البلدان العربية عموماً، يمكن بقدر من التبسيط، تصنيف مجمل الحركة السياسية والشعبية إلى ثلاثة تيارات (قومية، إسلامية، يسارية). ويمكن، بالتبسيط أيضاً، القول إنّ من وصل إلى السلطة في هذه البلدان خلال العقود السبعة الماضية هم القوميون والإسلاميون، وبالتجربة العملية فإنهما كلاهما أنتجا بلداناً متخلفة وتابعة بشعوب منهوبة ومقموعة. ولكن لأن هذا كله تبسيط شديد لواقع أشد تعقيداً، فإنه لا يجوز نهائياً الوصول إلى استنتاجات سهلة من قبيل أنّ حامل اليافطة «اليسارية» سيكون بالضرورة بديلاً حقيقياً... فلعبة تبديل الطرابيش بين يسار اسمي ويمين فعلي، هي لعبة باتت قديمة وعريقة ضمن «الديمقراطيات الغربية». وأهم الأمثلة على ذلك هي العلاقة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، حيث يجري تقديم الديمقراطي بوصفه يساراً والجمهوري بوصفه يميناً، والحقيقية أنهما كلاهما يمثلان الشركات الكبرى، أي أنهما كلاهما يمين.
وهذه اللعبة نفسها موجودة في أوروبا، حيث يجري دفع أحزاب «الاشتراكية الديمقراطية» إلى السلطة في مراحل الأزمات الاقتصادية، لامتصاص غضب الناس ومنع ظهور البدائل الحقيقية. وعادة ما تؤدي هذه الأحزاب الدور الأكثر قذارة بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي والسياسي...
بالعودة إلى تونس وإلى منطقتنا عموماً، وبالنظر إلى مواقف القوى المحسوبة اسمياً على اليسار في تونس، فإننا سنرى كامل طيف المواقف موزعاً عليها؛ فهنالك من وقف موقف النهضة نفسه، معتبراً ما جرى انقلاباً ومطالباً بإسقاط سعيد والبرلمان والحكومة معاً... على طريقة «كلن يعني كلن»، دون تقديم أية بدائل عملية. وهنالك من وقف إلى جانب سعيّد بلا قيد أو شرط، وبين هؤلاء مثلاً الأحزاب التي تعتبر من فلول النظام «السابق»، كالحزب الدستوري الحر. وهنالك موقف متمايز هو موقف الاتحاد العام للشغل، الذي يمكن توصيفه بأنه «تأييد حذر ومشروط»، وربما هو الموقف الأكثر صحة في الظروف التونسية؛ فتوجيه ضربة للإخوان هي بالعموم مصلحة لعموم المنهوبين، باعتبار الإخوان سياسياً وعملياً ممثلين أساسيين لقوى النهب الداخلي والخارجي. ولكن هذا لا يكفي لتحديد موقف نهائي، لأنّ المثال المصري مثلاً (مع الفوارق الهائلة) أبدل ناهبين بناهبين، ابتداء من أيام مبارك إلى الإخوان وإلى الوقت الراهن. ولذا فإنّ التأييد الحذر المشروط يبدو سياسة فاعلة في الاستفادة من التناقض بين سعيد والنهضة، في تحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية الاجتماعية والسياسية لمصلحة المنهوبين ومحاولة تثبيتها؛ في حين أنّ التأييد دون قيد أو شرط يفتح الباب للعودة حتى بالشكل إلى ما قبل 2010، والرفض القاطع مع عدم تقديم البدائل يصب في خدمة الثنائية الوهمية «ديمقراطية ضد ديكتاتورية» وغيرها من الثنائيات الشبيهة.

(11)

ما قلناه في عاشراً، يعيد التأكيد أيضاً على صحة الاستنتاج النظري للإرادة الشعبية حول أنّه من وجهة نظر الناس، في المراحل الانعطافية وفي الأزمات العميقة، تتراجع أهمية المسائل الأيديولوجية لمصلحة المسائل العملية والموقف العملي السياسي. وعليه فإنّ الموقف العملي للناس مما يقوم به سعيّد ومما سيقوم به، سيستند إلى ما ستنتجه إجراءاته بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي بالدرجة الأولى، وبالمعنى الوطني والديمقراطي بالدرجة الثانية... ومن المهم الانتباه أنّ سعيّد نفسه الذي تضمنت حملته الانتخابية كلاماً واضحاً ضد التطبيع مع الصهيوني، لم يتخذ بعد إجراءً حاسماً بهذا الصدد خلال هذين الأسبوعين. قبل ذلك، تحملت النهضة، وبالوقاحة المعهودة للإخوان، المسؤولية عن منع تمرير تشريع مضاد للتطبيع. عدم مبادرة سعيد لاتخاذ إجراء بهذا المعنى يمكن أن يفهم باتجاهين فهو إما موقف تكتيكي بحيث لا يستعدي الولايات المتحدة، وقسماً مهماً من الغرب بشكل سريع، ما يضعف إمكانية الاستمرار في الحكم والاستمرار في الإجراءات التي يقوم بها، أو أنّه موقف فعلي للرجل... وهذا لا يمكن الحكم عليه بشكل كامل إلا مع مرور الوقت... ونجد هنا مرة أخرى أهمية موقف التأييد الحذر المشروط الذي يتخذه حتى الآن اتحاد الشغل... وأيضاً في الإطار الاقتصادي الاجتماعي، ورغم الإشارات الهامة ضد الفاسدين، إلا أنّ الإجراءات الفعلية لم تتضح طبيعتها ونتائجها بعد.

(12)

سواء كانت تسمية ما قام به سعيد انقلاباً أو غير ذلك، فإنّ المؤكد هو أنّ الأسلوب الذي يتبعه هو أسلوب جديد وغير مسبوق
إجراءات متلاحقة، ولكن ليست بسرعة الإجراءات التي تتخذ عادة أوقات الانقلاب، حيث تتم كل عمليات الإقالة والاعتقال وحتى الإعدام خلال ساعات أو أيام قليلة.
الإجراءات جميعها تستند إلى الدستور والقوانين، سواء كان ذلك الاستناد محقاً تماماً أو محقاً جزئياً، أو غير محق... ولكن هي إجراءات باسم القانون والدستور وليست كعادة الانقلابات، إجراءات لا تحتاج أي تبرير سوى القول إنها باسم «الثورة».
هذا الشكل الجديد قد يكون ميزة بحد ذاته؛ فالأشكال القديمة والوصفات القديمة لها مضاداتها المعروفة والجاهزة، أما الوصفات الجديدة فتحتاج إلى مضادات جديدة تحتاج بدورها لوقت كي يتم تصنيعها... وهامش الوقت هذا هو بحد ذاته فرصة ذهبية إنْ أحسن التصرف به.
وفقاً للطريقة التي ستتطور ضمنها الأمور خلال الأسابيع والأشهر القادمة، يمكن أن ننظر إلى الطريقة الجديدة التي يتّبعها سعيد لنحكم هل هي جزء من (طريقة التبديل والتغيير) الجديدة التي أشرنا إليها في الفكرة رقم (4)، أم لا... ولهذا فوائده الكبيرة على النماذج والدول الأخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1030
آخر تعديل على الإثنين, 09 آب/أغسطس 2021 23:02