المتشددون وتجار الحرب:  مختلفون على الحصص... متفقون على النهب!
سعد صائب سعد صائب

المتشددون وتجار الحرب: مختلفون على الحصص... متفقون على النهب!

تمرّ معظم الأحاديث السياسية التي يخوضها السوريون، بشكل أو بآخر، على المقولة الصحيحة: «السياسة مصالح ومو رايحة غير على الشعب»...

رغم ذلك، فإنّ كثراً ممن يرددون هذه المقولة نفسها، وحين يذهبون لقراءة ما جرى ويجري وتحديد موقف، يتركون مسألة المصالح جانباً ويبدؤون بالتحليل على أساس الكلام عن «الديمقراطية» و«الحرية» و«الاستبداد» و«المؤامرة» و«الطوائف» و«القوميات» وإلخ، وهو الأمر الذي لا يحدث دون أسباب ودون أسس...
على العموم، فإنّ ما نراه على الإعلام، وضمن الخطاب السياسي للمتشددين من مختلف الأطراف، هو مزيج من التعبيرات السابقة التي وضعناها بين أقواس؛ فضمن رواية متشددي المعارضة نرى حديثاً مكثفاً عن الاستبداد والقمع والديمقراطية والحريات وإلخ، بالتوازي مع غياب شبه كامل للحديث عن المصالح بمعناها الاقتصادي...
على المقلب «الآخر»، أي بين متشددي النظام، نرى حديثاً مكثفاً عن المؤامرة، وعن استهداف الوطن السوري من الخارج، في حين يغيب الحديث عن المسألة الديمقراطية، ويجري تخفيض رتبة المسألة الاقتصادية الاجتماعية إلى مجرد مسألة «إدارية»؛ فالمشكلة هي الفساد، وهو مشكلة موجودة في كل العالم، والسلطات تسعى إلى محاربتها منذ ما قبل التاريخ وستبقى مستمرة في حربها على الفساد ما شاء الله لها أن تبقى في السلطة، مع ملاحظة أن نتيجة هذه الحرب الضروس على الفساد أنها يخرج بعد كل جولة أكثر قوة وتوحشاً...
درجة التداخل والتقاطع بين المسائل (الوطنية، الديمقراطية، الاقتصادية الاجتماعية) هي درجة عالية جداً بحيث لا يمكن الفصل بينها أبداً، إلى ذلك الحد أنّ مجرد معرفة موقف أية جهة في واحدة من هذه القضايا يكاد يكون كافياً وحده لمعرفة موقفها من بقية القضايا... وسنقف هنا على الترابط بين القضيتين الديمقراطية والاقتصادية الاجتماعية خاصة:

أولاً: بعض التشوهات في المسألة الاقتصادية الاجتماعية

في المسألة الاقتصادية الاجتماعية، وحتى ما قبل 2011، كان هنالك نمط محدد من توزيع الثروة الجائر؛ نمط يعطي ما يصل إلى 75% من الناتج السنوي لما يقل عن 20% من السكان، وأما الأغلبية الساحقة، فتأخذ أقل من 25% من الناتج... نمط توزيع ثروة ونمط اقتصادي استطاع أن ينجز «إنجازاً جباراً» خلال 5 سنوات فقط، حيث نقل نسبة الفقر على الحد الأعلى من 30% من السكان إلى 44% منهم!
هذا النمط الذي جرى التعبير عنه بشعار «اقتصاد السوق الاجتماعي» تارةً واقتصاد السوق (حاف) تارة أخرى... هو ذاته الذي تتبناه فئات عديدة من «ليبراليي» و«إسلاميي» المعارضة على حد سواء... وهؤلاء أنفسهم يتقاطعون مع النظام القائم ليس في تصوراته حول البرنامج الاقتصادي الاجتماعي فحسب، بل وأيضاً في تفاصيله، بما في ذلك الرغبة المستميتة بالتمسك بالدولار حتى حين يصبح التمسك به حريقاً جماعياً لفقراء السوريين، وأيضاً الرغبة المستميتة بالحفاظ على مختلف أشكال التشوهات الهيكلية والبنيوية ضمن الاقتصاد السوري، والتي سنمر على بعضها ضمن النقاط التالية:
أساس عملية التشوه ومشجعها الأساسي هو التبادل اللا متكافئ مع الغرب، والذي يعني في أحد وجوهه العديدة أننا نصدر للغرب مواد خاماً مع مقادير ضئيلة من القيم المضافة، ونستورد منه المصنّع ذا القيم المضافة العالية... ويعني أيضاً أننا نصدر العقول المبدعة من بلداننا بشكل مستمر... هذه العمليات لها اسم واحد بالمعنى الاقتصادي السياسي: نهب استعماري لمصلحة الغرب، وبوساطة سمسرة الفئات الوسيطة المتنفذة داخل جهاز الدولة وفي السوق.
أبرز أشكال التشوه أيضاً، هو ميل كفة التناسبات ضد مصلحة قطاعات الإنتاج الحقيقي (زراعة وصناعة بشكل أساسي)، ولمصلحة القطاعات الخدمية (مال، سياحة، عقارات...). وهو ما يضعف الاقتصاد ككل، ويضعف العملة، ويضعف البلاد ويضعف استقلاليتها.
التشوه الثاني المهم أيضاً هو عدم التناسب ضمن قطاعات الإنتاج الحقيقي نفسها؛ فهنالك ضمن هذه القطاعات على العموم مستويان للتصنيع (مستوى أبسط هو إنتاج وسائل الاستهلاك، ومستوى أعقد هو إنتاج وسائل الإنتاج)... المستوى الأعقد (شبه الغائب في سورية) هو الأساس الفعلي لاستقلالية البلدان الاقتصادية والسياسية، وأساس تطورها... الأمور لدينا هي أنّ السائد هو الصناعات الاستخراجية والتحويلية، وهذه صناعات من المستوى الأبسط، بل من أبسط المستويات على الإطلاق...
التشوه الثالث هو في التناسب بين الاقتصاد الرسمي واقتصاد الظل؛ فرغم أنّ هذا النوع من التشوه يكاد يكون موجوداً في مختلف الدول، إلا أنه يصل في بلدنا إلى مستويات عجيبة يمكن للمرء معها أن يصف الوضع بأنّ السيد هو اقتصاد الظل لا الاقتصاد الرسمي، والأدهى أنّ السنوات الأخيرة جعلت القطاع الأوسع ضمن اقتصاد الظل هو القطاع الأسود الإجرامي: أي تجارة وتصنيع المخدرات (خاصة الكبتاغون)، والإتجار بالبشر بأشكاله المختلفة، والاتجار بالسلاح...
ويمكن أن نضيف إلى هذه التشوهات تشوهات أخرى عديدة، مثل تشوه الميزان التجاري، تشوه ميزان المدفوعات، تشوه الموازنة، تشوه الموازنة الاستثمارية، تشوه العلاقة بين التراكم والاستهلاك، تشوه العلاقة بين التوظيفات والعائدية... وغيرها الكثير.

ثانياً: تشوهات في المسألة الديمقراطية

على ضوء الواقع الاقتصادي الاجتماعي الكارثي الذي لا تتعدى الفقرة السابقة كونها مجرد لمحة عنه، فإنّ المسألة الديمقراطية، وكما الحال في كل الدنيا، ولكن لدينا خصوصاً، هي مسألة ليست معلقة بالهواء، بل هي مسألة لها أساسها الواقعي...
القمع في النهاية ليس مجرد مسألة (سيكوباتية مرضية)، بمعنى أنه ليس مجرد حالة نفسية كما يسعى البعض إلى تفسيرها، بل هو أداة لها وظيفة تؤديها: هذه الوظيفة هي بالدرجة الأولى الحفاظ على السلطة، ولكن ما هي وظيفة السلطة نفسها؟ (أليست الحياة مصالح كما يتفق الجميع؟) نعم مصالح... ولذلك وظيفة السلطة، أية سلطة كانت، هي أن تدافع عن مصالح قسم من المجتمع ضد الأقسام الأخرى... وكيف نعرف عن مصلحة من تدافع سلطة بعينها؟ ننظر إلى نمط توزيع الثروة، أولئك الذين يبلعون القسم الأكبر من الثروة هم من تدافع السلطة عنهم، وضمن الدفاع عنهم تستخدم الإعلام وتستخدم «المثقفين» وتستخدم الكذب والمراوغة، وتستخدم تناقضات ثانوية دينية وطائفية وقومية وعشائرية وإلخ، وتستخدم أيضاً السجون والمعتقلات والقمع والعنف...
ضمن هذه العملية الأخيرة، فإنّ هنالك صياغة محددة للقوانين والتشريعات والحريات الديمقراطية هي التي تناسب السلطة المعنية؛ في سورية مثلاً، فإنّ قانون الانتخابات كان وما يزال مصمماً كقانون غير نسبي (أي أكثري) وعلى أساس المحافظة دائرة... وهو قانون مثالي لكي تتحكم قوى المال وقوى جهاز الدولة بالنتائج...
هل سيكون مفاجئاً أن نقول إنّ أقساماً من «المعارضة» التي تنادي بالحريات، تريد القانون نفسه؟ وتريد مستوى الحريات نفسه، بل وتمارس هذا المستوى من «الحريات» أي مستوى القمع نفسه في المناطق التي تسيطر عليها؟
لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئاً... ولماذا؟ لأنّ البرنامج الاقتصادي الاجتماعي لهذه الأقسام هو نفسه الذي يطبقه النظام القائم... وهل جئنا بهذا الكلام من عندنا؟ لا... انظروا إلى سلوكهم الفعلي، واقرأوا برامجهم الاقتصادية المعلنة، والتي يفضلون عدم الحديث عنها كثيراً، ولكن إن تصادف وسمعتموهم يقولونها، فإنكم لن تتمكنوا من التمييز بين خطابهم وخطاب النظام، لأنه هو هو، الخطاب نفسه... ولذا فإنّهم يبالغون بالحديث عن المسائل الديمقراطية، بل ويلجؤون إلى الحديث عن المسائل الطائفية والقومية لكي يخبؤوا تطابقهم مع نمط توزيع الثروة القائم... التطابق الذي يبقى جوهره متمثلاً بالمسألة الواضحة التالية: (متفقون على النهب، مختلفون على الحصص)...

تنظّموا!

من الصحيح تماماً أنّ «السياسية مصالح»، ولذلك على الشعب أن يكون منظماً ليمارس السياسة أيضاً وليدافع عن مصالحه؛ على المنهوبين أن ينظموا صفوفهم حتى «ما تروح عليهم»... وفي الملموس السوري فإنّ الخطوة الأولى التي لا بد منها في هذا الاتجاه، هي القطع نهائياً مع الانقسامات الثانوية التي يسعى الحرامية والمتشددون إلى تقسيم الناس على أساسها... وهذه تشمل الانقسامات الطائفية والقومية والدينية والعشائرية، وكذلك الانقسامات الشكلية على أساس «معارض» و«موالي»... الفرز الفعلي والحقيقي للسوريين، والذي لا يعجب متشددي النظام ولا متشددي المعارضة، هو بين «منهوبين» من كل الأطراف والأديان والطوائف وإلخ... و«ناهبين» هم مجموعة «نخب»؛ قلة قليلة عابرة للاصطفافات السياسية والدينية والطائفية وتتاجر بهذه الاصطفافات...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1025