الكبح الأمريكي للعلاقات الروسية الأوروبية

الكبح الأمريكي للعلاقات الروسية الأوروبية

في قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة التي عقدت في بروكسل، رفضت الكتلة- بأغلبية ساحقة- الاقتراح الألماني الفرنسي المشترك لتطبيع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. وبدلاً من إيلاء الاهتمام للرسالة الفرنسية الألمانية المتمثلة في إعادة تعريف العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بوصفها «وسيلة لزيادة التحكم الإستراتيجي للكتلة على الساحة الدولية والحد من اعتمادها على الولايات المتحدة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الحاسمة»، قررت الكتلة تحت ضغط بعض دولها تضييع فرصة خلق مساحة أوروبية متميزة للعلاقات مع روسيا.

في حين طلب الاقتراح الفرنسي الألماني إنشاء أطر للحوار مع روسيا حول قضايا مختلفة (مثل تغير المناخ والسلام والأمن)، فإن الاقتراح يظهر أيضاً إدراكاً متزايداً داخل القارة، على الأقل لدى أقوى دولتين في التكتل، لضرورة انتهاج سياسة تسمح لها بتجنب وضعها الحالي كلاعب ملحق بالولايات المتحدة. وكما قالت ميركل: «لا يمكننا أن نبقى في موقف دفاعي بحت تجاه روسيا في حين رأينا حواراً منظماً بين الرئيس بايدن والرئيس بوتين». وبعبارة أخرى، يظل المنطق الأساسي لألمانيا وفرنسا على النحو التالي: إذا تمكنت الولايات المتحدة من الحوار مع روسيا، فلماذا لا يقوم الاتحاد الأوروبي بالشيء ذاته؟

محاولات متواصلة للتوريط

في مقال كتبه في 5 حزيران لصحيفة «واشنطن بوست»، أكد الرئيس الأمريكي على أن زيارته إلى أوروبا محاولة «لحشد الديمقراطيات العالمية في وجه روسيا». وعلى حد تعبير بايدن: «إننا نقف متحدين لمواجهة تحديات روسيا للأمن الأوروبي، بدءاً بعدوانها في أوكرانيا، ولن يكون هنالك شك في تصميم الولايات المتحدة على الدفاع عن قيمنا الديمقراطية، التي لا يمكننا فصلها عن مصالحنا»، مضيفاً كذلك أنه «عندما نلتقي، سأؤكد مرة أخرى التزام الولايات المتحدة وأوروبا والديمقراطيات ذات التفكير المماثل الدفاع عن حقوق الإنسان والكرامة»، وهو الشيء الذي لم يحدث بطبيعة الأحوال تبعاً للتصريحات الإعلامية من الجانبين الأمريكي والروسي بعد القمة، حيث إن مثل هذا الكلام عادة ما تستخدمه واشنطن لمجرد الاستهلاك ودفع محاولات توريط حلفائها المفترضين لاتخاذ المزيد من السياسات التي تتعارض مع مصالحهم العميقة وتزيد عمق أزمتهم.
ورغم أن المرء قد يميل إلى الاعتقاد بأن إدارة جو بايدن تسعى إلى تحقيق أجندتها الخاصة، إلا أنه يظل من المؤكد أن تأجيج المشاعر المعادية لروسيا- أو التعاطف المباشر مع مخاوف الدول الأوروبية المضخمة فيما يتصل بالنوايا الروسية، كوسيلة لزيادة هامش المساحة التي تسمح للولايات المتحدة بالتدخل في السياسة الأوروبية- متجذر بنيوياً لدى الإدارة الأمريكية. على سبيل المثال، حتى في عهد دونالد ترامب، الذي تم اتهامه بموالاة روسيا، دعت لجنة فرعية للاعتمادات في مجلس الشيوخ الأمريكي الدول الأوروبية، بما في ذلك تلك الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي، للإدلاء بشهادتها فيما يتعلق بـ«النشاط الروسي» في بلدانها.
وفي حين شهدت جميع هذه الدول الست (أوكرانيا وبولندا وجورجيا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا) في جلسة الاستماع ضد ما يسمى بالعدوان الروسي، أبرزت الشهادة أيضاً كيف تواصل الولايات المتحدة مساعدة هذه الدول ضد روسيا، وهي السياسة التي تدعم بشكل مباشر استمرار عقلية الحرب الباردة المعادية لروسيا في أوروبا الشرقية.

الاتجاه مستمر ومتصاعد

لا تزال إدارة جو بايدن مهووسة بالعقلية ذاتها، ما يشير إلى الأسس البنيوية لمناهضة روسيا في الولايات المتحدة، وميل جميع الحكومات الأمريكية إلى توظيف «المخاوف» الأوروبية كذرائع للتدخلات السياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية الأمريكية.
على سبيل المثال، عندما قام أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي الحالي، بجولة في أوروبا في نيسان الماضي، كان أحد الأغراض الرئيسية للزيارة هو «توعية» الأوروبيين بشأن «التهديد الروسي». وفي اجتماعه مع وزير الخارجية الأوكراني، ديميترو كوليبا، أكد بلينكن «دعم الولايات المتحدة الثابت لسلامة أراضي أوكرانيا في الوقت الذي تواجه فيه عدواناً من جانب روسيا». وقالت السفارة الأمريكية في أوكرانيا في بيان لها «إن الوزير أعرب عن قلقه إزاء الإجراءات المتعمدة التي اتخذتها روسيا لتصعيد التوترات مع أوكرانيا، بما في ذلك من خلال خطابها العدواني وتضليلها، وزيادة انتهاكات وقف إطلاق النار، وحركة القوات في شبه جزيرة القرم المحتلة وبالقرب من الحدود الأوكرانية»، حسب زعمها.
وبهذا يتضح أن الجهد الحثيث الذي تبذله الولايات المتحدة لبث الخوف من «التوسعية» الروسية تمثل محاولات أمريكية لمنع القارة من تطوير سياستها الخارجية ونظرتها الإستراتيجية. وفي الوضع الحالي، لا يزال تقييم دول أوروبا الشرقية للتهديد المفترض الآتي من موسكو يتشكل إلى حد كبير من خلال التحريض الأمريكي الواضح في هذا السياق.
وفي حين أن هذا لا يعني أن فرنسا وألمانيا تؤيدان التطبيع المطلق للعلاقات مع روسيا، حيث تواصلان دعم تأسيس وجود لحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود، إلا أنه يبقى أن موقفهما يمثل رغبة أوروبية سريعة النمو في ترسيخ أوروبا كلاعب مستقل على الساحة الدولية، حيث يمكنها تحقيق أهداف سياستها الخارجية بشكل أكثر استقلالية.
ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه ويتصاعد حتى بعد خروج ميركل من السياسة، حيث دعا أرمين لاشيت (الخليفة المحتمل لميركل في منصب المستشار)، في مقابلة مع صحيفة «فايننشال تايمز» الأسبوع الماضي إلى انتشال العلاقات مع روسيا من الجمود، معتبراً أن على الغرب أن يحاول «إقامة علاقة معقولة» مع موسكو، وأن «تجاهل روسيا عمداً لم يخدم مصالحنا، ولا مصالح الولايات المتحدة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1025