عن «الأكثريات» و«الأقليات»... وكيف تجري محاولات مسخ الهوية الوطنية؟
سعد صائب- ريم عيسى سعد صائب- ريم عيسى

عن «الأكثريات» و«الأقليات»... وكيف تجري محاولات مسخ الهوية الوطنية؟

رغم التباينات الكبيرة بين الأطراف السورية فيما بينها، وبين الأطراف غير السورية المتدخلة في الشأن السوري، إلا أنّها جميعها تتفق في التكرار اللفظي لعبارة: «وحدة سورية أرضاً وشعباً».

مجرد التكرار اللفظي لهذه العبارة، لا يعني إطلاقاً أن أولئك الذين يرددونها يؤمنون بها حقاً ويسعون صادقين إلى تنفيذها؛ فبين الأطراف (السورية وغير السورية) التي ترددها، منْ يعمل ضد وحدة البلاد بشكل واضح وعلني... وربما أخطر الأدوات في ذلك هي: محاولة إعادة بناء مفهوم «الهوية الوطنية» على أساس مقولات «الأكثرية» و«الأقلية»...

المستوى القومي/ الديني/ المذهبي

أوضح وأبسطُ استخدامٍ لمقولتي «أكثرية» و«أقلية»، هو ذلك الذي يقسّم الشعب السوري على أساس قومي أو ديني أو طائفي، ويحوّله انطلاقاً من ذلك إلى «أكثريات» و«أقليات».
أحد استهدافات هذه العملية هو: أنّ جهاتٍ سياسيةٍ بعينها، ضمن النظام وضمن المعارضة، وبشكل علني أو من تحت الطاولة، تستخدم توصيفات «الأكثرية» و«الأقلية»، القومية تارة والدينية الطائفية تارة أخرى، لغرض أساسي هو ادعاء تمثيل ملايين من السوريين (ودون استشارتهم)، بل وتقديم صورة المدافع والمحامي عنهم، وضد من؟ ضد «الأقلية» أو «الأكثرية» المقابلة!
يتضمن هذا النوع من التقسيم توصيفاً كاذباً لحقيقة الصراع الذي جرى- ولا يزال- في البلاد؛ فيقدم كلٌّ من الممثلين المفترضين لـ«الأقليات» و«الأكثريات»، رواية للحدث السوري، تناسب مآربه السياسية، وتتضمن تلك الرواية عادة ثلاثة عناصر متكاملة:
القول بمظلومية فئة بعينها، هي بالضرورة فئة قومية أو دينية أو طائفية...
إنكار وجود مظلوميات مقابلة أو التقليل من شأنها.
نسب الظلم الواقع على الفئة المعنية إلى فئة مقابلة «قومية أو دينية أو طائفية».
وقد عززت- من إمكانات انزلاق أعداد من السوريين نحو الاقتناع بهذه التقسيمات- عمليات العنف والقمع والقتل والدماء الكثيرة التي سالت، بالتوازي مع عمليات التحريض الداخلي والخارجي التي مورست طوال سنوات...
هذا كله، له بكل تأكيد آثاره السلبية التي تسمح حتى الآن بالاستثمار الدنيء في هذا النوع من الانقسامات الوهمية التي لا تفعل سوى أنها تقسّم الفقراء والمنهوبين السوريين بين الجبهات ليتحارب بهم «الكبار»، بدمائهم وعذاباتهم، لإعادة تقسيم النهب مع بقاء المنهوبين منهوبين...

المستوى الديمقراطي لـ«الأكثرية» و«الأقلية»

هنالك مستوى آخر في الحديث عن «الأكثرية» و«الأقلية» هو ذاك المتعلق بالانتخابات وبالعملية الديمقراطية على العموم.
المقصود، هو أنّ نتائج الانتخابات، والبرلمانية خاصة، تؤدي إلى تشكل أكثرية نيابية وأقليات نيابية، ويعتبر هذا الأمر صحيّاً تماماً، بل ومثالياً، ويجري تقديمه بوصفه أحد عناصر الدواء الشافي للمأساة السورية، وخاصة لحالة تقسيم الأمر الواقع القائمة... والمقصود طبعاً، هو أول انتخابات حرة بعد تشكيل جسم الحكم الانتقالي، وهو الأمر الذي لا يخلو من صحة، ولكن لا يخلو أيضاً من مخاطر كبرى إنْ سلّمنا مسبقاً بأنه سيتحول بذاته إلى رافع للوحدة الوطنية وللهوية الوطنية...
لماذا؟ لأنّ الأزمة امتدت إلى سنوات طويلة وخلّفت جراحاً غائرة تحتاج بشكل ملحّ إلى البدء الفوري بالتطبيق الكامل للقرار 2254 بكل مندرجاته، وليس بوصفه الدواء الشافي، بل بوصفه الجرعة الأولى المستعجلة الضرورية للبدء بعلاجٍ سيستغرق عدة سنوات...
وإذا كان الكلام السابق شديد العمومية وغير محدد بقدر كافٍ، فإنّ ما سنبدأ به تالياً هو تعداد وشرح ثمانية عوامل نعتقد أنها يمكنها أن تحد إلى درجة كبيرة من قدرة أول عملية انتخابية ضمن المرحلة الانتقالية على توحيد السوريين مجدداً...

أولاً: الانتقال يبدأ من الواقع القائم

أول انتخابات حرة ونزيهة ومراقبة دولياً ضمن المرحلة الانتقالية، ينبغي أن تجري في جميع الأراضي السورية، أو في معظمها (إنْ لم يكن قد تم التخلص من النصرة بعد).
ورغم أنّ الانتخابات لن تجري إلا على أساس دستور جديد وبوجود جسم حكم انتقالي توافقي بين الأطراف السورية، يسيطر عملياً على كامل الأرض السورية، إلا أنّ تلك السيطرة لن تحصل بسحر ساحر، أو بكبسة زر كما يقال... ما نقصده هو أنّ أوضاع السيطرة القائمة حالياً ستؤثر ولو قليلاً على أول انتخابات.

ثانياً: اللاجئون جزء من الواقع القائم

ضمن الواقع القائم نفسه، هنالك ملايين من اللاجئين السوريين، حوالي سبعة ملايين لاجئ. هؤلاء هم جزء أساسي من عملية التصويت، ومن طبيعة الأمور أنّ البلدان التي يوجدون بها، ستحاول التأثير بمختلف الأشكال على عملية التصويت بما يتناسب مع مصالحها... وذلك إضافة إلى تفاوت القوانين في دول اللجوء فيما يتعلق بإجراء انتخابات لدولة أخرى، والإعلام ومدى قدرة اللاجئين على الوصول إلى مراكز الاقتراع التي ستكون غالباً محدودة في مدن معينة... هذه كلها أمور لها تأثير كبير على تصويت اللاجئين وحتى المغتربين.

ثالثاً: الجراح الغائرة هي أيضاً جزء من الواقع القائم

الانقسامات الثانوية التي عززها أمراء الحرب بين السوريين، واستخدموها لتقتيل السوريين ببعضهم البعض، هي انقسامات لا تزول ببساطة؛ خاصة إذا لم يقتنع هؤلاء المكلومون والمقهورون بأنّ سبب قهرهم ليس قومية أو طائفة أو ديناً «مضاداً»، بل ناهبين من كل الأديان والقوميات والطوائف، يتاجرون بها كلّها لاقتسام النهب فيما بينهم... وهذه قناعة ربما بات قسم أكبر فأكبر من السوريين يمتلكها، لكنها لم تتحول بعد إلى قناعة عامة سائدة... ولذا فإنّ الانقسامات الثانوية ستلعب دوراً ما في أول انتخابات قادمة مهما كانت حرة ونزيهة... فأمراء الحرب سيحاولون العودة على ظهر العملية السياسية، وباستخدام الدعاية ذات الأبعاد الطائفية والقومية والدينية... ببساطة، لأنّ ليس لديهم برامج حقيقية يقدمونها لمصلحة الناس، بل وأكثر من ذلك، إنّ برنامجهم الحقيقي الوحيد هو (نريد أن نستمر بنهبكم)، وهو برنامج لا يمكن لأحد أن ينجح باستخدامه، لذا يلجؤون إلى التنكر عبر تقديم أنفسهم حماةً لقومية أو طائفة أو جماعة أو إلخ، ولتصوير الآخرين كأعداء لتلك القومية أو الطائفة أو الجماعة...

رابعاً: المال سيلعب دوراً

من الشروط البديهية لعملية انتخابية نزيهة وحرة، أن يتم تحييد قدرة أصحاب الأموال على استخدام أموالهم في شراء أصوات الناس. وهذا الأمر ينبغي أن يتم بتطوير قانون الانتخابات، بحيث يحجّمهم إلى الحدود الدنيا. رغم ذلك، ومع الحال البائس الذي تعيشه الغالبية العظمى من السوريين، فإنّ إمكانية التلاعب عبر المال ستكون أوسع، ناهيك عن أنّ قسماً أساسياً ممن يملكون كتلاً مالية كبيرة، هم بالذات تجار الحرب وأمراؤها...

خامساً: تأثير الإعلام

من المفروض أيضاً أن يتم الحد من قدرة الإعلام في التأثير على النتائج، بحيث تكون فرص الظهور الإعلامي للمرشحين متكافئة، سواء في الإعلام الداخلي أو الخارجي... وهذا يمكن ضبطه بحدود معقولة عبر قانون الانتخابات نفسه، ولكن ما لا يمكن التحكم به هو تدخل وسائل الإعلام الخارجية، والعربية خاصة، في الترويج لقوائم بعينها ومرشحين بعينهم، ومهاجمة قوائم ومرشحين آخرين...

سادساً: طبيعة الدستور الجديد

من العوامل شديدة التأثير على نتائج أول انتخابات برلمانية قادمة، هو التموضع النظري للبرلمان ضمن البناء العام للنظام السياسي الجديد لسورية الجديدة؛ هل سنكون أمام برلمان بغرفتين أم بغرفة واحدة، وما الطريقة المناسبة لانتخاب أعضائه، وما هي صلاحياته الفعلية وطبيعة علاقته بالسلطات الأخرى...إلخ. كل هذه الأمور هي ما يضع الإطار العام للعملية الديمقراطية بأسرها، ولنتائجها أيضاً.

سابعاً: قانون الانتخابات

سيلعب دوراً كبيراً واستباقياً في تحديد طبيعة النتائج، قانون الانتخابات الذي سيجري إقراره ضمن المرحلة الانتقالية... فإذا ما تم إقرار قانون تكون فيه سورية دائرة واحدة نسبية، فإنّ ذلك سيمنح فرصة أكبر لأصحاب البرامج الوطنية الشاملة في الوصول إلى البرلمان. في حين ستكون الفرصة أكبر لأصحاب الخطاب الطائفي والقومي المتعصب في حال كان القانون أكثرياً أو كانت الدائرة غير شاملة (محافظة أو فردية). وخاصة مع الواقع الحالي لتقسيم الأمر الواقع، فإنّ طريقة اختيار قانون الانتخابات، هي مسؤولية وطنية كبرى ستلعب دوراً في رأب الصدوع الوطنية أو في تعميقها...

ثامناً: قانون الأحزاب

في السياق نفسه، فإنّ قانون الأحزاب الذي سيجري إقراره ضمن المرحلة الانتقالية، سيكون ذا دور أساسي في التجهيز لبنية وطبيعة الانتخابات التي ستجري؛ فكلما كان قانون الأحزاب أكثر وطنية وعصرية، ويمنع قيام أحزاب ذات طبيعة انعزالية قومية أو دينية أو طائفية، كلما كانت قدرة الانتخابات على لحم الجروح الوطنية أكبر...

الأكثرية والأقلية الفعليتان

الغرض من التعداد والشرح المقتضب للعوامل السابقة هو الوصول إلى الفكرة التالية: لن تكون أول عملية انتخابية في المرحلة الانتقالية، كافية لوحدها لإعادة فرز السوريين فرزاً سياسياً صحيحاً على أساس مصالحهم الحقيقية العميقة، وفي مقدمتها: حقوقهم الاقتصادية الاجتماعية، وحقوقهم الديمقراطية.
وفقاً لهذه الحقوق، فإنّ الفرز الحقيقي هو بين أكثرية ساحقة مسحوقة من المنهوبين تتجاوز 90% من السوريين، وتتوزع على مختلف الطوائف والقوميات والأديان والانتماءات السياسية الآنية، وبين أقلية ناهبة هي أقل من 10% من السوريين، وتتوزع هي الأخرى على مختلف الطوائف والقوميات والأديان والانتماءات السياسية الآنية (وضمناً نظام ومعارضة).
سيلعب المتشددون من الطرفين، وأمراء الحروب قدر استطاعتهم، وباستخدام كل العوامل السابقة لإبقاء أكبر قدر من المنهوبين مخدوعاً بهم أو خائفاً منهم وسائراً في ركابهم، وبينما يفعلون ذلك، فإنهم سيؤخرون التئام الجروح الوطنية العميقة، بل وسيتعمدون نكأ الجراح كجزء مستمر من دعايتهم الانتخابية المستمرة...

أمامنا عمل كثير

ربما لن تتمكن الأكثرية المسحوقة من بلوغ درجة التنظيم الكافية مع أول انتخابات ضمن المرحلة الانتقالية، حتى ولو كانت تلك الانتخابات «حرة ونزيهة»، وذلك بتأثير العوامل التي ذكرناها هنا، وعوامل أخرى غيرها... ولكنّ الاتجاه الأساسي لعملية النضال الوطني والطبقي لمصلحة المنهوبين، ولمصلحة وحدة البلاد شعباً وأرضاً، سيبقى ثابتاً نحو تجميع كتلة حرجة كافية، ومنظمة بقدر عالٍ من هؤلاء لكي يتمكنوا من الدفاع عن مصالحهم وانتزاع السلطة لأنفسهم... حينها فقط ستحصل الثورة... والعمل لهذه الغاية، العمل لتنظيم المنهوبين، يبدأ من اليوم، بل من الأمس... وهو عملٌ يوميٌ، وربما رتيب وأسود... ولكنه الوسيلة الأساسية الوحيدة... فإلى العمل!

جسم الحكم الانتقالي

لعل بين أبرز العوامل التي ستؤثر بشكل كبير على كيفية سير العملية السياسية ككل، والاتجاه العام الذي ستسير وفقه البلاد في المرحلة اللاحقة، هو: كيفية تشكيل جسم الحكم الانتقالي المنصوص عليه ضمن القرار 2254. والذي جرى تعريفه بشكل مبسط بأنه ينبغي أن يقيم حكماً غير طائفي وشامل للجميع، وأن يتم تشكيله بالتوافق بين الأطراف السورية المنصوص عليها ضمن القرار، وأن يمتلك صلاحيات تنفيذية كاملة.
أول إشكالات التعامل مع هذا التعريف جاءت من الترجمة العربية التي ترجمت كلمة جسم إلى «هيئة»، لأنّ هنالك فارقاً مهماً بين المصطلحين، فمصطلح جسم كما في الأصل الإنكليزي، يترك الباب مفتوحاً للسوريين أنفسهم لتقرير ما هو هذا الجسم، في حين يبدو تعبير هيئة تعبيراً يصادر طريقة تكوين هذا الجسم بشكل استباقي.
استفاد المتشددون في الطرفين من هذه النقطة؛ فعلى ضفة المعارضة جرى تقديم تفسير لـ«هيئة الحكم الانتقالي» يجعل منها «مجلس قيادة ثورة» على طريقة الانقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات، وهذا التفسير نفسه استخدمه متشددو النظام ليقولوا: انظروا ماذا يريد هؤلاء... لا يمكن الحوار معهم ولا التفاهم معهم...
بالمقابل، فإنّ جوهر جسم الحكم الانتقالي، والوصول إليه ينبغي أن يتم بالتوافق بين الأطراف السورية المختلفة، واحتمالاته متعددة جداً، والسوريون وحدهم المعنيون في الاختيار بينها، أو اختراع احتمالات جديدة مناسبة لهم، سواء كان الحديث هو عن مجلس رئاسي أو حكومة وحدة وطنية بصلاحيات عامة أو مجموعة مجالس، أو غير ذلك من الاحتمالات التي يمكن للسوريين أن يتوافقوا حولها بشكل تفصيلي...
الجانب المهم أيضاً ضمن جوهر جسم الحكم الانتقالي، هو وظيفته الواضحة، في تأمين الظروف المناسبة، وضمن فترة زمنية محدودة لاستكمال عملية كتابة دستور جديد، ولانتخابات حرة ونزيهة تشمل كل السوريين في كل الأرض السورية وخارجها... وهو الأمر الذي بات مدخلاً كما أسلفنا لإعادة توحيد الشعب السوري سياسياً ووطنياً...

 

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1023
آخر تعديل على الجمعة, 25 حزيران/يونيو 2021 16:43