القضية الفلسطينية و«الفصل العنصري» أو «أبارتهايد» كيف نستفيد من التوصيف دون أن نقع في الفخ؟
مع تطور الأحداث في فلسطين المحتلة، ومع تصعيد عنيف شرس من قبل العدو الصهيوني خاصة في غزة، ولكن أيضاً داخل الخط الأخضر الذي يستهدف الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي 48، أصبح من الصعب على العالم الاختباء وراء إصبعه.
نسمع ونقرأ بشكل متزايد تصريحات من شخصيات عامة تدين العدوان والممارسات «الإسرائيلية»، وربما بين مميزات هذه الانتفاضة بالمعنى الإعلامي أنها شهدت زيادة ملحوظة في استخدام مصطلحات معينة، من بينها كلمة «أبارتهايد» أو «فصل عنصري» كتوصيف لـ«إسرائيل».
«إسرائيل» هي نظام أبارتهايد
إن وصف سياسات «إسرائيل» باستخدام كلمات مثل: «فصل عنصري» ليس بالأمر الجديد، لكن الجديد هو الزيادة الكبيرة في عدد الشخصيات والكيانات التي تستخدم تعبير «الفصل العنصري» في ارتباط بـ«إسرائيل» وسياساتها وممارساتها. هناك أيضاً وسوم شائعة الآن على Twitter وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي مثل: #ApartheidIsrael.
من بين هذه الأصوات الصاعدة أصوات ساسة أمريكيين، مثل: عضوة الكونغرس رشيدة طليب (أمريكية فلسطينية) التي أشارت مراراً وتكراراً إلى «إسرائيل» على أنها حكومة فصل عنصري. أشارت إلهام عمر، وهي عضوة أخرى في الكونجرس الأمريكي، مؤخراً إلى «إسرائيل» على أنها نظام فصل عنصري، كما فعلت عضوة الكونجرس كوري بوش قائلة «نحن ضد الحرب. نحن ضد الاحتلال. نحن مناهضون للفصل العنصري»، وألكساندريا أوكاسيو كورتيز التي قالت ذلك بإيجاز شديد: «دول الفصل العنصري ليست دولاً ديمقراطية».
هناك العديد من الأمثلة الأخرى لأعضاء في الكونجرس الأمريكي كانوا صريحين للغاية ضد ممارسات «إسرائيل» وانتقدوا دعم الولايات المتحدة لها، وكذلك شخصيات سياسية من دول أخرى، بما في ذلك الدبلوماسي البريطاني السابق كريج موراي، الذي كتب في إشارة إلى اتفاقية عسكرية بين «إسرائيل» والمملكة المتحدة: «يجب ألّا يكون هناك تعاون من أي نوع مع سلطات دولة الفصل العنصري»؛ السياسي الأيرلندي شين هوغي كتب: «تواصل إسرائيل خرق القانون الدولي بطرق عديدة- ضم الأراضي، وإنشاء دولة الفصل العنصري، ومهاجمة المدنيين بمن فيهم الأطفال، ومهاجمة الحق في الاحتجاج السلمي»؛ وكتب ميك والاس، عضو البرلمان الأوروبي: «قد يدعم الاتحاد الأوروبي دولة الفصل العنصري في إسرائيل في جرائم الحرب التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني، لكن غالبية الأوروبيين لا يفعلون ذلك».
أدلت شخصيات عامة أخرى (ممثلون وممثلات وشخصيات إعلامية) لها عدد كبير من المتابعين (خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي) بتصريحات مماثلة، مثل: المذيع التلفزيوني علي فيلشي من MSNBC الأمريكية، الذي قال يوم الجمعة الماضي: «إنها فكرة مضحكة أنْ تُعتبرَ مثيرةً للجدلْ تسميةُ ما فرضته إسرائيل على الفلسطينيين بأنه شكلٌ من أشكال الفصل العنصري؛ إنّ نظرةً واحدة إلى خريطة إسرائيل وغزة والأراضي المحتلة، تذكر بمثال واحد فقط: حقبة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا». كذلك دعا الممثل الأمريكي مارك روفالو إلى فرض عقوبات على «إسرائيل» في تغريدة قبل أيام قليلة، لكنه سبق أن اتهم «إسرائيل» بالفصل العنصري خلال مقابلة في تشرين الأول الماضي.
عدد قليل جداً من الحكومات أدلت بتصريحات تدين العدوان «الإسرائيلي»، ولا سيما بين الدول الغربية، وذلك رغم قيام بعض المسؤولين الحكوميين أو الشخصيات الحكومية بذلك، لكن بعض المنظمات (خاصة منظمات حقوق الإنسان) التي كانت حريصة دائماً على أن يكون لها خطاب يبدو «حيادياً»، تراجعت هذه المرة عن ذلك «الحياد»... الجدير بالذكر مثلاً: هو أن هيومان رايتس ووتش أصدرت تقريراً في 27 نيسان 2021 بعنوان «تجاوزوا الحدود: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد»، وهو بحسب بعض المصادر أول تقرير من هذا النوع من منظمة دولية لحقوق الإنسان، رغم أنّ هذه المنظمة بالذات قد لعبت مرات عديدة أدواراً سياسية مفضوحة خدمة للولايات المتحدة الأمريكية... وهو أمرٌ يستدعي وقفة تفكير سنقوم بها بشكل أولي في سياق هذه المادة.
ما هو الفصل العنصري؟ مثال جنوب إفريقيا
أبارتهايد في اللغة الأفريكانية (وهي لغة يتم التحدث بها في جنوب إفريقيا ودول إفريقية أخرى)، تعني الانفصال أو «حالة الانفصال». والأبارتهايد كان نظاماً من الفصل العنصري المؤسسي ينبع من فكرة تفوق البيض، والذي كان أساس هيمنة الأقلية البيضاء في جميع مناحي الحياة (سياسياً واجتماعياً واقتصادياً) في جنوب إفريقيا من عام 1948 حتى عام 1991 عندما تم إلغاؤها رسمياً.
من بين الممارسات التي كانت سائدة في ظل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إجبارُ الناس على العيش في أماكن منفصلة على أساس العرق عن طريق إبعادهم قسراً، وإعادة توطينهم في مستوطنات، أو مدن على أساس عرقهم؛ تقديم خدمات متباينة على أساس الأعراق المختلفة، حيث يتلقى السود في جنوب إفريقيا في كثير من الأحيان خدمات أقل جودة بما في ذلك خدمات التعليم والرعاية الصحية؛ هيكلة النظام السياسي بحيث كان للبيض في جنوب إفريقيا الأغلبية على المستوى السياسي. كما حظر أحد القوانين أي حزب ذي أفكار شيوعية، ونص ذلك القانون أنّ الأفكار الشيوعية «تعطل الانسجام العرقي»! أي تعطل فكرة تفوق عرق على آخر.
بدأ النضال ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا منذ انطلاقه، وعلى مدى العقود اشتمل على أشكال مختلفة من المقاومة، بما في ذلك الاحتجاجات والانتفاضات، والتي ردت عليها الحكومة بوحشية، وهو ما أدى بدوره إلى تعاظم دعم الناس للمقاومة المسلحة. وهكذا، تميزت المقاومة الداخلية في جنوب إفريقيا باحتجاجات سلمية، ومقاومة شعبية (إضرابات، ومقاطعة، وعصيان مدني)، وتمرد مسلح، وكلها كانت موجودة واستمرت بالتوازي والتكامل على مدى عقود.
وصل العنف السياسي إلى أعلى مستوياته في منتصف الثمانينات، ونتيجة لذلك أعلن بوتا (الرئيس آنذاك) حالة الطوارئ، والتي استمرت فعلياً حتى عام 1990، وبالتالي السنوات الأخيرة قبل إلغاء الفصل العنصري. تصاعد العنف بين الحكومة وخصومها خلال هذه الفترة، والتي شهدت تصاعداً في الكفاح المسلح خاصة من قبل uMkhonto we Sizwe (MK) (رمح الأمة) - الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي، الذي شارك في تأسيسه نيلسون مانديلا.
ومن المثير للاهتمام، ولكن غير المفاجئ، أن «إسرائيل» كانت واحدة من أكبر موردي الأسلحة لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية، حيث بلغت القيمة الإجمالية لصادراتها من السلاح لها 1,4 مليار دولار في عام 1988. وفي عام 2010، نشر مقال في صحيفة «الغارديان» البريطانية وثائقَ حكومية لجنوب إفريقيا كشفت عن عرض من قبل «إسرائيل» لبيع أسلحة نووية للحكومة. وبطبيعة الحال، نفت «إسرائيل» ذلك.
القضية الفلسطينية والفصل العنصري
تم تطوير تعريف قانوني للفصل العنصري فيما بعد؛ حيث قامت مؤسسات المجتمع الدولي بتعريف الفصل العنصري في سياق عام، وليس فقط كما هو في سياقه الأصلي في جنوب إفريقيا، حيث اعتبرت اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973 الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية، وعرّفته بأنه «الأفعال اللاإنسانية المرتكبة بغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية من الأشخاص على أفراد أيه فئة عنصرية أخرى واضطهادها إياهم بصورة منتظمة». تم تبني تعريف مماثل في نظام روما الأساسي لعام 2002 للمحكمة الجنائية الدولية.
نظراً لأن الفصل العنصري والاضطهاد، وفقاً للقانون الجنائي الدولي، يعتبران جرائم ضد الإنسانية في حالات التمييز والقمع المنهجي، فإن الفصل العنصري جريمة تخضع للاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي يمكنها الفصل في مثل هذه الجرائم ضد الفلسطينيين، وفلسطين هي دولة طرف في نظام روما الأساسي اعتباراً من نيسان 2015 (على الرغم من أن حكومة دولة فلسطين قبلت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية منذ حزيران 2014، وكذلك اتفاقية الفصل العنصري اعتباراً من نيسان 2014).
لا فصل بين أدوات النضال
لذلك كله، يمكن اعتبار القانون الدولي، أداة قوية تحت تصرف الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الممارسات المنهجية العنصرية للكيان الصهيوني، والذي بات يُشار إليه بشكل متزايد على أنه نظام فصل عنصري.
يمكن استخدام هذا الأمر قانونياً وسياسياً لدعم القضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني التحرري، ولكن تماماً كما هو الحال في جنوب إفريقيا، لن يؤدي في حد ذاته إلى وضع حد للجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها وترعاها «دولة». ناهيك عن أن هذا ليس بديلاً عن الأدوات الأخرى المتاحة للفلسطينيين في كفاحهم ضد قوات الاحتلال، ولن يُعيد الحقوق الأساسية الأخرى التي اغتصبت منذ عام 1948 بسبب التجاهل التام والصريح للقرارات الدولية.
أية أداة متاحة للشعب الفلسطيني في نضاله ضد الكيان الصهيوني هي أداة يجب النظر إليها على أنها مكملة للأدوات الأخرى، وكلما توفرت المزيد من الأدوات، كانت المقاومة أقوى وأكثر صلابة.
غالباً ما يعمل أنصار الأنظمة القمعية (وفي الغرب خصوصاً) على تقويض نضالات الشعوب من خلال دعم الأنظمة التي تخدمها بشكل مباشر أو غير مباشر على حساب الشعوب- يمكن أن يكون هذا الدعم على مستوى واحد أو أكثر: السياسي والاقتصادي والعسكري وحتى القانوني.
عندما تفشل محاولات الدعم هذه بفعل مقاومة المظلومين المتصاعدة والمنظمة، تبدأ الأنظمة القمعية وأنصارها الغربيون بما في ذلك داخل المؤسسات الدولية والحقوقية، باختراع أدوات أكثر تعقيداً وتضليلاً للالتفاف على مقاومة الشعوب.
تشويه النضال لحرفه وامتصاص طاقته
ذكرنا في سياق المقالة: أننا سنعود لنقاش تقرير هيومن رايتس ووتش الصادر بتاريخ 27 نيسان الماضي، والذي اعتبر أنّ «إسرائيل دولة أبارتهايد- فصل عنصري».
إنّ السياسة العامة لهذه المنظمة في العديد من القضايا حول العالم، لا تسمح لنا بتلقي تقريرها هذا بعيون مغمضة وبنوايا طيبة... (هذا لا يمنع بأية حال من الأحوال الاستفادة من هذا التقرير، وما يشابهه وتوظيفه بالشكل المناسب ضمن النضال الفلسطيني وضمن النضال الإنساني والوطني المناصر لفلسطين)، ولكن لا يمنع أيضاً أن نحاول فهم السبب...
إذا نحينا جانباً احتمال التعاطف الإنساني المجرد، (وهو احتمال يصعب الركون إليه حين الحديث عن النخب الأمريكية)، فإننا نعتقد أنه ضمن طيف الأسباب المعقدة والعديدة التي أنتجت تقرير هيومن رايتس ووتش، وأنتجت مواقف شبيهة ضمن النخب الأمريكية، هنالك سببان رئيسان، أحدهما: يتعلق بحرف النضال الفلسطيني، والآخر: يتعلق بتوازنات داخلية وصراعات داخلية محددة ضمن المنظومة الغربية في إطار تراجعها، وهذان السببان هما ما سنناقشهما تالياً.
أولاً: أبارتهايد ≠ اللاعنف!
الأمر الذي لم يعد بحاجة إلى نقاش، لأن الحياة حسمته، هو أنّ طريق أوسلو وطريق المفاوضات مع الصهيوني بوصفها الأداة الأساسية في النضال، هي طريق خاطئة بالكامل، ولم تعد قادرة على إقناع أحد أو اجتذاب أحد من الفلسطينيين.
وما نراه في هذه الانتفاضة من التفاف صلب وعام من الشعب الفلسطيني حول المقاومة المسلحة، وبغض النظر عن الانقسامات الفصائلية، هو دليل على أنّ فكرة التفاوض كأداة أساسية للنضال، لم تعد قادرة على جذب أية كتلة بشرية في فلسطين وخارجها. وهو ما يعني أنّ هنالك حاجة ماسة لدى أعداء الشعب الفلسطيني في خلق وهم آخر يسمح التعلق به بحرف النضال عن مساراته التي يخوضها الآن بالذات، أي: المسارات المتكاملة مع بعضها البعض، والتي تتضمن بالضرورة الجانب المسلح...
وما دور فكرة «الأبارتهايد» في ذلك كلّه؟ دورها هو دور مركب يستند إلى ما يلي: خلال العقود الثلاثة الماضية، قامت الأنظمة الغربية، وعبر المؤسسات الدولية وعبر الإعلام والجامعات، بتشويه الحقيقة التاريخية للنضال في جنوب إفريقيا ضد الأبارتهايد؛ حيث استأصلت منه الجانب المسلح، بل وباتت تصوره بوصفه مثالاً نموذجياً عما يسمى (النضال اللاعنفي)..
وربما يأمل أولئك الذين يشغلون منظمات، مثل: هيومن رايتس ووتش، أن يخلقوا وهماً بأنّ هنالك طريقاً سالكاً وعريضاً صوب الحقوق الفلسطينية، طريقاً سهلاً ويلقى تأييداً ودعماً هائلين، هو «الطريق الحقوقي الدولي» باستخدام فكرة الأبارتهايد، عوضاً عن «طريق المفاوضات»... ليؤدي في النهاية إلى النتيجة نفسها... أو على الأقل، لكي يتمكن أعداء الشعب الفلسطيني من خلق تناقض وهمي بين الفلسطينيين عبر نزاعٍ حول أي: الدروب النضالية هو الأجدى، ولا بد في السياق من تقديم الأعطيات وإفساد بعض المجموعات البشرية بالمال وغير المال، كما جرى ضمن سلطة أوسلو...
ثانياً: خلافات داخلية
لم يعد خافياً أنّ التناقض بين «إسرائيل» كأحد مشاريع الصهيونية حول العالم، وبين النخبة الأمريكية ككل بما في ذلك الصهيونية نفسها، آخذٌ في الارتفاع، ويظهر ذلك بشكل ملموس في بعض المواقف التي أشرنا إليها هنا بما يخص الوضع الفلسطيني، ولكن أهم من ذلك في المواقف من الاتفاق النووي الإيراني، وليس فقط حول هذا الملف، بل وأبعد من ذلك: التناقض حول الإستراتيجية الأمريكية اتجاه منطقتنا ككل.
جوهر المسألة فيما نعتقد هو التالي: في إطار إعادة تموضع القوى الأمريكية المتراجعة، وضمن الصراع الكوني الأكثر أهمية للولايات المتحدة، أي: الصراع مع الصين وروسيا، فإنّ الانسحاب من منطقتنا وتركيز القوى والمواجهة على تخوم الصين، بات أمراً شبه محسوم ضمن التوجهات الإستراتيجية الأمريكية... هذا بطبيعة الحال لن يكون ساراً لـ «إسرائيل»، وسيضعها على درب نهاية الشكل العنصري لوجودها ضمن المنطقة، وسيفتح الباب لتطبيق القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، ليس فقط تلك التي تصل إلى حدود 1967، بل وربما أبعد من ذلك نحو القرار 181 لعام 1947... ولكن حتى أهم من ذلك، التصور الذي طرحه د. مصطفى البرغوثي في حواره مع قاسيون الذي نشر يوم 13 من الجاري حين قال: «لا يوجد أمام الحركة الصهيونية إلا واحد من حلّين، إما أن تنهي احتلالها بشكل فوري وتلبي حقوق الشعب الفلسطيني بالداخل فوراً، أو ستكون هنالك دولة واحدة ديمقراطية على كل أرض فلسطين، للفلسطينيين فيها كل حقوقهم مع إسقاط كل عناصر النظام العنصري الإسرائيلي».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1018