تطويق الولايات المتحدة للصين على ثلاث جبهات
ليس التصعيد الجاري حالياً بين واشنطن وبكين مجرد نتيجة لسياسات الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب المستمرة في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، بل هي مجرد فصل جديد في المحاولات الأمريكية الحثيثة منذ عقود لاحتواء الصين.
تُقر «أوراق البنتاغون» المسرّبة في عام 1969 فيما يتعلق بالحرب الأمريكية المستمرة ضد فيتنام بأن الصين «تلوح في الأفق كقوة عظمى تهدد بتقويض الأهمية والفعالية الأمريكية في العالم، وبشكل أكبر، ولكن بشكل أكثر خطورة، تنظيم كل آسيا ضد أمريكا». وتؤكد أنه كانت (ولا تزال حتى اليوم) هنالك «ثلاث جبهات لجهد طويل المدى لاحتواء الصين: الجبهة اليابانية الكورية، الجبهة الهندية الباكستانية، وجبهة جنوب شرق آسيا».
تقييم النشاط السياسي والعسكري الأمريكي اليوم على طول هذه الجبهات الثلاث يكشف عن التقدم والتراجعات التي تواجهها الولايات المتحدة، والمخاطر المختلفة على السلام والاستقرار العالميين التي تشكلها عدوانية واشنطن المستمرة من خلال محاولتها لجرّ التخوم الصينية نحو المزيد من التصعيد والعنف.
الجبهة اليابانية الكورية
بشكلٍ عام، تم نشر أكثر من 80 ألف جندي أمريكي في اليابان وكوريا الجنوبية. ففي اليابان وحدها، تحتفظ الولايات المتحدة بأكثر من 55000 جندي منتشر، وهي أكبر قوة أمريكية منتشرة في الخارج. ووفقاً لمكتب محاسبة الحكومة الأمريكية، أنفقت الولايات المتحدة 34 مليار دولار للحفاظ على الوجود العسكري في اليابان وكوريا الجنوبية بين عامي 2016 و2019. ومع تضاؤل القوة الأمريكية إقليمياً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكذلك على الصعيد العالمي، مارست واشنطن ضغوطاً متزايدة على كل من اليابان وكوريا الجنوبية ليس فقط للمساعدة في تحمل هذا العبء المالي، ولكن أيضاً لتصبح أكثر مشاركة ونشاطاً في الإستراتيجية الأمريكية لاحتواء الصين.
اليابان هي واحدة من ثلاث دول أخرى (الولايات المتحدة نفسها، وأستراليا، والهند) التي شاركت فيما يعرف بـ«الحوار الأمني الرباعي بقيادة الولايات المتحدة»، وبدلاً من اعتماد الولايات المتحدة فقط على قواتها العسكرية المتمركزة داخل الأراضي اليابانية، يتم أيضاً تجنيد الجيش الياباني إلى جانب القوات الهندية والأسترالية للمشاركة في التدريبات والعمليات العسكرية داخل وحول بحر الصين الجنوبي. كما أن إدراج الهند في المجموعة الرباعية يتلاءم جيداً مع إستراتيجية الولايات المتحدة ذات الجبهات الثلاث التي شكلت سياسة الاحتواء التي تنتهجها واشنطن تجاه الصين منذ الستينات.
الجبهة الهندية الباكستانية
بالإضافة إلى تجنيد الهند في «التحالف» الرباعي، تزيد الولايات المتحدة التصعيد من خلال الدعم السياسي والحملات الإعلامية للنزاعات الإقليمية المختلفة بين الهند والصين. كما تستهدف علاقة باكستان الوثيقة والمستمرة بالصين، بما في ذلك من خلال دعم المسلحين في مقاطعة بلوشستان الباكستانية، حيث منحت باكستان الصين قاعدة في ميناء جوادار في قلب أراضي بالوتش. لذا فإن العمل على انفصال بلوشستان من شأنه أن يخدم المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، حيث يعد مشروع ميناء جوادار منعطفاً رئيسياً في الشبكة العالمية المتنامية لمشروعات البنى التحتية في الصين كجزء من مبادرة الحزام والطريق. ويدل التفجير الأخير الذي وقع في بلوشستان على أن هذه الإستراتيجية مستمرة فيما يتعلق باستخدام المقاتلين المحليين لاستهداف التعاون الصيني الباكستاني، وهي جزء من إستراتيجية أوسع نطاقاً لتطويق الصين واحتوائها.
جبهة جنوب شرق آسيا
بعد خسارة الولايات المتحدة حرب فيتنام وتراجعها الشامل تقريباً من منطقة جنوب شرق آسيا، شهدت المنطقة ذاتها إصلاحاً في العلاقات بين دول المنطقة والصين. واليوم، تعتبر دول جنوب شرق آسيا الصين أكبر شريك تجاري ومستثمر وشريك رئيسي في تطوير البنية التحتية. وحتى على الصعيد السياحي بالنسبة لدول مثل تايلاند، يصل عدد من السياح من الصين أكبر من عدد السياح من جميع الدول الغربية مجتمعة.
ولأن الحكومات القائمة في جنوب شرق آسيا ليس لديها ما تستفيد منه من تورطها في الحرب الأمريكية ضد الصين، فقد وجدت الولايات المتحدة أنه من الضروري زراعة أنظمة تابعة مختلفة ومحاولة تثبيتها في السلطة، وتواصلت هذه العملية منذ حرب فيتنام، حيث استهدفت الولايات المتحدة كل دولة على حدة لسنوات عدّة: في العامين 2009 و2010 في تايلاند، و2018 في ماليزيا، والقائمة تطول.
آسيا الهدف
أحدث أوراق السياسات الأمريكية هي «إطار العمل في المحيطين الهندي والهادئ» المنشورة في أرشيف البيت الأبيض لإدارة ترامب، وتتساءل النقطة الأولى في الورقة: «كيف نحافظ على الأولوية الإستراتيجية للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ونعزز النظام الاقتصادي الليبرالي، مع منع الصين من إنشاء مناطق نفوذ جديدة غير ليبرالية، وتنمية مجالات التعاون لتعزيز السلام والازدهار الإقليميين؟».
كما تناقش الورقة الحملات الإعلامية الرامية إلى «تثقيف» العالم حول «سلوك الصين القسري وعمليات فرض نفوذها في جميع أنحاء العالم». وتجسد هذا التوجه في حملات الحرب الدعائية التي اختلقت اتهامات بـ«الإبادة الجماعية الصينية» في شينجيانغ، وركزت هجومها على شركة الاتصالات الصينية هواوي بزعم أنها تشكل «تهديداً أمنياً عالمياً»، وذلك بهدف التغطية على فقدان الولايات المتحدة دورها المتفوق تكنولوجياً على الصعيد العالمي لمصلحة الصين.
فهم النطاق الكامل للسياسة الأمريكية ضد الصين يساعد في فهم الجانب الجوهري للعديد من جوانب التصعيد، مثل: الحرب التجارية، والعنف والاضطرابات المستمرة في ميانمار، والتفجيرات في جنوب غرب باكستان، والفوضى في تايلاند، وأعمال الشغب في هونج كونج، ومحاولات الولايات المتحدة عسكرة بحر الصين الجنوبي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1018