نوستالجيا.. وفشّة خلق.. وشوية سياسة في ذكرى الجلاء
لم يفعل يوسف العظمة ما فعله، كي يجوع السوريون ويُقتلوا، أو يتناهب لصوص النظام ثروات البلاد بعد مئة عام، أو يرتزق لصوص الائتلاف على دماء السوريين، وعذاباتهم... يوسف العظمة كان يريد شيئاً آخر، لا يفقهه ليبراليو الغفلة ممن يحنّون إلى الاستعمار، و(وطنيو الشعارات والخطب) ممن يتاجرون بإرث الرجل... فالعظمة لم يتخلَّ عن مكاسبه وامتيازاته في الجيش العثماني، وينخرط في المشاركة ببناء الدولة السورية الحديثة، كي يُذعن الملك فيصل لإنذار غورو، وعندما أذعن الملك العتيد (فيصل) افترق العظمة عنه، بعد أن ترك ابنته الوحيدة أمانة لدى الأصدقاء، وأكمل رسالته حتى استشهد، دون أن يُعرف– حتى الآن– مكان جثمانه.. بالمناسبة، الضريح الموجود في ميسلون هو ضريح رمزي لا جثمان فيه.
لم يتحدَّ سلطان الأطرش الاستعمار الفرنسي، ويوحّد السوريين وسورية من أقصاها إلى أقصاها بمعيّة الرجال- الرجال، ويرسم خريطة الدولة السورية الحديثة، رغماً عن بيكو ودويلاته الست، ولم يترفع عن مغريات سلطات ما بعد الاستقلال، كي يطفو على السطح اللصقراطيون والطائفيون والسلفيون والتافهون أو الجهلاء والسذج الذين لا يرون أبعد من أنوفهم...
لم تُقصف عامودا، ولم تُروَ الأغاني عن سعيد آغا الدقوري، حتى يبقى أحفاد من دُفن حياً في بياندور محرومين من الجنسية على يد النظام، أو يخرج علينا تجار القومية، وينفخوا الروح في جثث العملاء: من عمالة لفرنسا، والأنظمة المتعاقبة بما فيها النظام الحالي وما قبلهما...
لم تمشِ دمشق كلها خلف فارس الخوري في مظاهرة ضد الاحتلال بعد مواجهة شهيرة مع المستعمر، ولم يُؤتمن الرجل على الأوقاف الإسلامية... كي تأتي كائنات (حداثية) خارجة عن التاريخ، وتحدثنا عن الأغلبية والأقلية الدينية والطائفية بعد ثمانين عاماً...
- لم يكن إبراهيم هنانو، وأحمد بارافي، ومحمد الأشمر، قطاع طرق أو (رجال دِين متخلفين) كما سمّاهم المستعمر وأبواقه آنذاك، وكما يجترّ كلامه قطيع النهيق النيوليبرالي الآن... الأول: كان محامياً، والثاني: كذلك، والثالث- رجل دين سنّي دمشقي- هبّ لفك الحصار عن السويداء-الدرزية- عندما حاصرها الفرنسي...
- لم تبادر ماري عجمي، ونازك العابد، وعادلة بيهم، وأمينة عارف الجراح... إلى افتتاح الصالونات النسائية، وتشكيل الروابط حتى ندفن التاريخ في تفاهة (باب الحارة)، و(ما ملكت أيمانكم) أو ليُعاد زمن (السبايا).
- لم تتشكل روابط الأدباء والكتاب في الثلاثينيات والأربعينيات، حتى نحتار بعد 100 عام بين اغتراب واغتراب، بين الحنين إلى الاستعمار، أو خطاب التكفير.
- لم يشكل السوريون الروابط العمالية والفلاحية والشبابية في الثلاثينيات والأربعينيات، كي يأتي نظام ويختلق زعامات تقليدية ويمنحها المكاسب والامتيازات، ويشوه بنية المجتمع، ثم يأتي من يُعلمنا تشكيل منظمات المجتمع المدني بعد مئة عام... ويُميّع حقيقة المجتمع المدني نفسها.
- من يريد أن يحشرنا بين خيارات الحنين إلى الاستعمار، أو الكارثة الراهنة ومسببيها في النظام والمعارضة يريد أن يضحك على ذقوننا، أن يمحي ذاكرتنا، فنصبح بلا ماضي وبلا مستقبل... بعد أن حكموا علينا بالموت في الحاضر.
تعتبرون ذلك نوستالجيا (حنين إلى الماضي)؟ نعم، هو بالضبط كذلك، ولكنه حنين إلى نموذج يوسف العظمة في التاريخ، بوجه نموذج من جرّ عربة غورو بعد أن فك رسن البغال، تعتبرون ذلك تخلفاً، لكم ذلك... دون أن تنسوا أن عكال الأطرش، وعمامة الأشمر، وطاقية فارس الخوري، وعباءة الدقوري.. أكثر مدنية وحداثة وتنويراً وعلمانيةً وثقافةً من كل (اللعي) الثوري، المعطوف على التحسر على الاستعمار، الذي تتحفوننا به صباح مساء.
و(أخيراً) ما حدا يتفصحن ويعمل حالو مؤرّخ، ويقلي، أنت تدافع عن خريطة سايكس بيكو! سورية حسب المستر بيكو هي ست دويلات، أفشل المشروع رجال سورية ونساؤها من بياندور إلى السويداء، ولم يسمحوا للمشروع أن يكتمل، وسورية الحالية هي نتاج توازن قوى دولي، وتوازن داخلي سوري، فُرضت آنذاك على الفرنسيين وعملائهم فرضاً، نعم فرضاً... وإذا مانك مصدق اقرأ ديغول.. أي نعم ديغول ما حدا غيرو.
وإذا بعدك محتار، ما بقي عندي حكي غير أنو قولك:
لست مضطراً أن تكون مع النظام، كي تثبت أنك ضد الاحتلال... ولست مضطراً أن تكون مع الاحتلال جكارة بالنظام... قطار التاريخ لم ولن يتوقف على باب الاثنين... وما (تقلي كم عمر بدي عيش) وحدة القياس في السياسة ليس عمر الفرد يا حبّاب.
يا أولاد الحلال:
السعي إلى التحرر من سلطة الأغراب والظلاّم، والنزوع الدائم إلى الحرية، سمة وغاية الإنسان العاقل منذ وجوده، وكل موقف خلاف ذلك هو خروج عن الطبيعة الإنسانية نفسها، أما الدعوة إلى الوصايات الأجنبية، والحنين إلى الاستعمار، هي خطوة إلى الخلف، مهما كانت الذريعة، يعني ببساطة، النضال ضد الاستعمار هو ليس مجرد قرار من أحد، بل هو قانون موضوعي في الحقل الاجتماعي بدلالة تكراره في التاريخ، وعند كل الشعوب بلا استثناء، يعني مهما كانت الذريعة، الحنين تبعكم تفكير رجعي، يعني مو زابطة تعملي فيها حداثة وتنوير ومدنية، وبنفس الوقت تدعو إلى الوصاية أو تبررها، وتتأسف على خروج الاحتلال الفرنسي، وتسخر ممن حارب المستعمر... وكما تُعتبر الحركة الاحتجاجية السلمية، ظاهرة تاريخية، وحقاً مشروعاً للشعب السوري في سعيه إلى التغيير ضمن شرطه التاريخي الخاص به، بعد أن وصلت التناقضات إلى ذروتها، فإن مواجهة الاستعمار الفرنسي، كانت ضرورة تاريخية، وكانت حقاً مشروعاً يستحق الاحتفاء بها، والتذكير برموزه، وتقديرهم...
يا فهيم:
الناس المحبطون واليائسون من سياسات وسلوك الأنظمة ينطلقون من تجربتهم الملموسة والآنيّة فقط، ويظهر هذا المزاج كرهاً بالأنظمة، وليس حباً بالوصاية والاحتلال والتدخل الخارجي كما تظن، مشكلتهم أنهم لا يجدون بديلاً ملموساً عن هذا إلّا ذاك، بعد أن فعل الإعلام المهيمن ما فعله، وهم كذلك، ليس لسوءٍ أو جهل فيهم، بل لأنهم ابتلوا بأمثالك من نخب سياسية- إعلامية غبية وحمقاء وجاهلة، أو ارتزاقية، أو نخب استقالت من أداء دورها الوظيفي، فمهمتك المفترضة أيها السياسي الجهبذ، والمحلل الإستراتيجي، والصحفي، ليست الدعوة إلى الوصاية تلميحاً أو تصريحاً، أو التحسر على احتلال فرنسا.. واختراع الآلة البخارية في عصر الثورة الرقمية، بل هي إبداع الحلول الحقيقية، من خلال المعرفة، والعلم وأدواته، من تحليل واستنتاج وتجربة، ومن خلال الكفاح...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1014