«الثنائيات الزائفة» كاصطلاحٍ أدقّ من «الثنائيات الوهمية»

«الثنائيات الزائفة» كاصطلاحٍ أدقّ من «الثنائيات الوهمية»

سورية بلد متنوع قومياً ودينياً وطائفياً، وفي تطورها الشعبي- السياسي تيارات (الشيوعي والقومي والإسلامي)، وهذه التنوعات «تناقضات ثانوية» بالتصنيف العلمي الماركسي. ولطالما ركّز عدوُّنا الإمبريالي والطبقي على تغذية صراعاتها تناحرياً، وإيهام الناس بأنّها الصراعات المُجدية والبدائل الحقيقية لتحسين أحوالهم، بدلاً من التناقض الأساسي الطبقي الطويل، والتناقض الرئيسي، أيْ: الحاسم والناضج للحل، والمتجلّي في الأزمة السياسية المرحلية. لذلك نشأت الحاجة لابتكار مصطلح خاص يُميِّز التناقضات الاجتماعية الثانوية، فاختار حزبنا مصطلح «الثنائيات الوهمية» الذي لعب دوراً مهمّاً في الفترة الماضية، لكنه قد يوحي دون قصد بأنّ هذه الثنائيات ليست موجودة في الواقع، أو أننا «إقصائيّون» وضدّ هذه التنوعات في مجتمعنا، وبالطبع لا هذا ولا ذاك هو المقصود. ولمنع الالتباسات ثمّة حاجة لإعادة صياغة المصطلح مع الحفاظ على معناه ووظيفته وتقويتهما، وأقترح «الثنائيات الزائفة» بديلاً. كما أقترح بعض التعديلات بصياغة مشروع حزبنا (الإرادة الشعبية) ونحن على أبواب مؤتمره الحادي عشر، بحيث يتوسّع قليلاً بتوضيح «التناقض الرئيسي» و«التناقض الأساسي».

الفرق اللغوي بين «الزائف» و«الوهمي»

ورَد في معجم لسان العرب عن الوَهْم: «تَوَهَّمَ الشَّيْءَ: تَخَيَّلَهُ وَتَمَثَّلَهُ، كانَ فِي الْوُجُودِ أَوْ لَمْ يَكُنْ». أما عن الزَّيْف فورد أنّه «مِنْ وَصْفِ الدَّرَاهِمِ، يُقَالُ: زَافَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُهُ أَيْ صَارَتْ مَرْدُودَةً لِغِشٍّ فِيهَا». وهكذا فإنّ «الثنائية الزائفة» موجودة بالفعل واقعياً وليست «وهمية»، لكنّها ترتدي مظهراً خادعاً، وأقلّ قيمةً وحسماً من ناحية تحديد مسار التطور.

التعريف الماركسي للتناقض الرئيسي

ربما تكون صياغة ماو تسي تونغ من أوضح وأدق ما كُتِبَ في تعريفه: «توجد في كلّ عملية تطوِّرٍ مُعقَّدة لشيءٍ ما تناقُضاتٌ عديدة، ولا بدّ أنْ يكون أحدُها هو التناقُض الرئيسي الذي يُقرِّرُ وجودُهُ وتطوُّرُهُ وجودَ وتطوُّرَ التناقضاتِ الأخرى، أو يُؤثِّرُ في وجودِها وتطوُّرِها... ومهما تكن الحال، فمِمَّا لا يتطرَّقُ إليه أدنى شكَّ، هو أنَّ ثمّةَ تناقضاً رئيسياً واحداً فقط يلعب الدور القيادي الحاسم في كلّ مرحلةٍ من مراحل عملية التطوُّر... أما بقية التناقضات فهي تحتلُّ مركزاً ثانوياً تابعاً» (المختارات بأربعة مجلدات، م1، ص 480، 482).

ويتابع ماو: «إذا أمسكنا بزمام هذا التناقض الرئيسي، استطعنا حَلَّ سائر التناقضات بسرعة. وهذه هي الطريقة التي علَّمنا إيّاها ماركس عندما درَسَ المجتمع الرأسمالي. وقد علَّمنا لينين وستالين أيضاً هذه الطريقة عندما درَسَا الإمبريالية والأزمة العامَّة للرأسمالية، والاقتصاد السوفييتي» (ص483). «إنّ دراسة أوضاع التفاوت في التناقضات، دراسة التناقض الرئيسي والتناقضات غير الرئيسية، والطرف الرئيسي، وغير الرئيسي للتناقض، هي إحدى الطرق المهمة التي يقرر بها حزبٌ سياسيّ ثوري، بصورة مضبوطة، خططه الإستراتيجية والتكتيكية في الشؤون السياسية والعسكرية، وهي دراسة من واجب جميع الشيوعيين أن يولوها الاهتمام» (ص 488).

ما هو التناقض الرئيسي
في سورية اليوم؟

لا أجد ما ينطبق عليه تعريف التناقض الرئيسي اليوم أفضل من التناقض الدائر حولَ الحلّ السياسي للأزمة، أي حول تطبيق القرار 2245. فالتناقضات الأخرى بالفعل تتوقف بشكلٍ رئيسيّ على وجودِ القرار 2245 وتطوُّر التناقض حوله بين طرفٍ يريده ويعمل لتطبيقه، وطرفٍ يرفضه ويعرقله. وممثلو هذين الطرفين موجودون (بنسبٍ ودرجات متفاوتة) ضمن صفوف جميع الأطراف الداخلة في تناقضات أخرى واقعية، لكن ثانوية: ثنائية (معارضة– موالاة)، و(علماني– متديّن) والقومية والطائفية والعشائرية...إلخ، التي تقوم قوى الإمبريالية والثورة المضادة بدفع أطرافها إلى التناحر، وبذلك تكون «ثنائيات زائفة»، أيْ: ليست حاسمة ومحدّدة لمجرى التطوّر الحالي، وهذا لا يعني أنّها غير مؤثِّرة، بل يعني تحديداً أنّ تطوُّرها محكومٌ وتابع للتناقض الرئيسي (لمسار الحل السياسي على أساس 2245)، فكلّما تقدّم حلّه، ضاق هامش المناورين في جعلها تتناحر وتتذابح، والعكس صحيح.

قد نتساءل: ما مكان التناقض الأساسي (الطبقي) هنا؟ إنّه رغم كونه يتخلّل بشكلٍ أو بآخر جميع التناقضات الاجتماعية الأخرى، لكنَّهُ في المرحلة الخاصة من تطوُّر الظاهرة الاجتماعية التي يلعب فيها تناقضٌ آخر غير الأساسي دور التناقض الرئيسي (كما هو الحال في المرحلة الحالية من الأزمة السورية)، يكون تطوُّر الأساسي متأثّراً بشكل كبير بتطوّر الرئيسي. ولعلّ أكثف تعبير عن هذه الحقيقة، هو ما وصفه حزبنا مراراً في أدبياته بالقول: «لا حلَّ اقتصادياً للأزمة الاقتصادية... بلّ حلُّها سياسيّ». فحتى الصراع الطبقي (رغم أنّه الأساسي) والذي يجد أوضح تجلّياته في الاقتصاد، بات مستحيلاً إحداث خروقات مهمّةٍ فيه نحو أية خطوة كبيرة على طريق حلّه (ذي المدى الطويل)، دون حلّ عقدة التناقض الرئيسي الذي ينتمي ثقله اليوم إلى المجال السياسي. وهذا تجلٍّ خاص للمبدأ اللينيني بأنّ «السياسة تعبير مكثَّف عن الاقتصاد»، لأنّ هذا التعبير المكثَّف عموماً، وبالأزمة السورية خصوصاً، لا يستنفد كلَّ جوانب الشيء الذي يُعبِّر عنه، مثلما لا يستنفدُ التناقضُ الرئيسيُّ في سورية اليوم (حول القرار 2254) ذو الثقل السياسي، جميعَ جوانب التناقض الأساسي الطبقي والاقتصادي، بل يمثِّلُ تعبيراً مكثَّفاً عنه، لحظةً خاصةً وحاسمةً منه؛ حاسمة إلى تلك الدرجة التي جعلت منه بالضبط التناقضَ الرئيسي؛ المطروح موضوعياً على طاولة الحلّ القريب، وبرأس أولويات أجندة اللحظة، والذي دون حلّه لن تستطيع باقي التناقضات بدورها أنْ تشق طريقها إلى الحلّ، بل ستراوح في مكانها باستعصاءِ تدميرٍ ذاتي.

التعديلات المُقتَرحة في صياغة المشروع

أقترح التوسع (مع تعديلات) في فقرة واحدة؛ وهي التي تبدأ بجملة «ردّاً على ذلك، عملت وستعمل قوى الثورة المضادّة...»، وإعادة الصياغة اعتباراً من جملة «فإلى جانب قمعه...» (أيْ: قمع الفيضان الجماهيري) كما يلي:

«... فإلى جانب قمعه وممارسة العنف الشديد تجاهه، تعمل قوى الثورة المضادة الداخلية والعالمية على التعمية عن التطور الطبيعي للتناقض الأساسي الطبقي وتجلّياتِه، ومحاولةِ عرقلة حلّه، عبر عرقلة حلّ التناقض الرئيسي، أيْ: التناقض المُلحّ والحاسم في المرحلة الحالية من التطور، المتجلّي في الأزمة السياسية، والتي يتوقف على حلّها فتح الباب أمام الخطوات اللاحقة لحلّ التناقض الأساسي (الطبقي). ولذلك تعمل تلك القوى على منع الأكثرية الساحقة من الناس من أن تعي ثنائية (مَنهوبين- ناهِبين) لأنّ الصراع وفقها هو النضال الحقيقي المُجدي لمصلحة المنهوبين، والمهدِّد للناهبين ولقوى الثورة المضادة، ولذلك بالضبط يعملون جاهدين على توجيه زخم الفيضان الجماهيري الشعبي لمصلحتهم هم، وضدّ مصلحته هو بالذات؛ بحيث بدلاً من أن يُستخدَم هذا الزخم في النضال الحقيقي لحلّ ثنائية (مَنهوبين– ناهبين)، يُستَخدَم لتغذية وافتعال صراعاتٍ تناحرية، وِفق ثنائيات أخرى في المجتمع، والتي رغم كونها تنوُّعات وتفاوتات واختلافات (أيْ تناقضات) موجودة حقيقةً كأمر واقع، كالتنوُّعات القومية والعشائرية والدينية والطائفية، وكالثنائيات من قبيل (علماني- متدين)، أو (ليبرالي- إسلامي)، أو (معارض- موالي)، أو (نظام- معارضة)، وما شابهها، لكنَّ أيّاً منها ليس هو التناقض الأساسي، ولا التناقض الرئيسي الحاسم، المَوصوفَين أعلاه، بل هي تناقضات ثانوية لا يؤدّي التقاتلُ على أساسها إلى حلولٍ تدفع تطوّر المجتمع والبلاد إلى الأمام، بل إلى الفوضى والتقسيم. ولذلك يدفعونها إلى الواجهة بشكلٍ مُصطَنَع لإيهام الناس بأنها ثنائياتٌ حقيقيّةُ الجَدوى في الصراع لتحسين أحوالهم، أيْ أنّهم يرفعون مستواها ودورها اصطناعياً، ويقدّمونها كثنائيات «رئيسية» مُزَيَّفة أو «أساسية» مُزَيَّفة، ولذلك فإنَّ هذه التناقضات الثانوية، في توظيفها هذا، لا تكون عَملياً سوى ثنائيّاتٍ زائفة، يصطف ويُحشَرُ الفقراء وفقاً لها، في صفوف وخنادق متقابلة، يحصدُ فيها بعضُهم أرواحَ بعض. ولذلك لا توفِّرُ قوى الثورة المضادة جهداً، ليس فقط في تغذية الثنائيات الزائفة القائمة، بالجملة والمفرِّق، والنقل التكتيكي لتركيز تغذية التناحر من ثنائية زائفةٍ إلى أخرى، حسب المرحلة أو كلّما فشلت في تحقيق أهدافها عبر إحداها، بل وكذلك في اختلاق مجموعة من الثنائيات الزائفة الجديدة». (انتهى مشروع الفقرة المُعدَّلة).

في الفقرات التي تلي ذلك وحتى نهاية مشروع البرنامج، أقترح: في المواضع الخمسة المتبقية التي وردت فيها كلمة «الوهمية» كصفة لكلمة «الثنائيات» أو «ثنائية»، أنْ يتمّ استبدالها بوضع كلمة «الزائفة» بدل «الوهمية». وأنْ يُختَصر تعبير «الصراعات الوهمية الثانوية»، الذي ورد مرة واحدة، إلى «الصراعات الثانوية». وأنْ يتم استبدال التعبير عن استهداف مؤسسة الجيش بأنها «اختلاق عداءٍ زائف بينها وبين الحراكات الشعبية» بدلاً من تعبير «خلق عداء وهمي بينها وبين الحراكات الشعبية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
994
آخر تعديل على الإثنين, 30 تشرين2/نوفمبر 2020 02:37