الدستور السوري الجديد: موجز أم مفصل... كيف نضمن تثبيت الحقوق ومرونة التعديل؟
إذا كان الحديث عن الدستور هو أحد الموضوعات الرئيسية التي تطرح هذه الأيام بسبب «العمل المستمر» للجنة الدستورية (وهو العمل الذي لا يزال يراوح في مكانه حتى الآن)، فإنّ الأهم هو أنّ الحديث عن الدستور الجديد والاهتمام به متعلق بالأساس بكونه أحد الركائز الأساسية للعملية السياسية المحددة في قرار مجلس الأمن 2254، الذي يدعو على وجه التحديد إلى «صياغة دستور جديد».
ولأن هذا جزء أساسي من العملية السياسية، فمن المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الدستور جزء من الحل وليس مجرد «وثيقة قانونية». لذلك، فإنه يجب أن يحمل في طياته حلولاً أو -مفاتيح حلول على الأقل- لجوانب الأزمة وأسبابها الجذرية، لضمان عدم تكرارها.
في الوقت نفسه، ينبغي أن «يقونن» مصالح الشعب السوري. بهذا المعنى، فإن هذه «الوثيقة» المنشودة، ستكون تكثيفاً للتاريخ والحاضر والمستقبل. ومن هنا تنبع أهمية ما نريدُ، كسوريين، أن نراه مكتوباً في دستورنا.
الدساتير والأزمات
عادة، يوصف الدستور بأنه "عقد اجتماعي"، على الأقل هذا هو التعبير الذي يستخدمه معظم الناس. من الناحية القانونية، يتطلب العقد دخول طرفين أو أكثر في اتفاقية تحدد التزامات الأطراف، ويفرض خرق هذه الالتزامات من قبل أي طرف عقوبات معينة على الطرف المخالف. بهذا المعنى وبعبارات بسيطة للغاية، فإن الدستور باعتباره "عقداً اجتماعياً" هو "اتفاق" بين الدولة ومواطنيها بمواد تحدد العلاقة بينهما، وتحدد سلطات وحقوق والتزامات كلٍّ منهما.
في الواقع، تنظم الدساتير الدولة وتحددها، وتنظم العلاقة بينها وبين مواطنيها، والعلاقة بين المواطنين أنفسهم. ويحدد الدستور، باعتباره القانون الأعلى للدولة، الإطار الذي يتم من خلاله وضع التشريعات والأساس القانوني لجميع القوانين. ومع ذلك، فهي (الدساتير) تعكس أيضاً خصوصيات كل مجتمع من حيث أنها تعكس التطور فيه على جميع المستويات: العملية الديمقراطية والحريات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، إلخ.
في التاريخ الحديث، يتم عادة تعديل الدساتير أو صياغة دساتير جديدة في إطار الخروج من نزاعات أو أزمات تلم بالدولة والمجتمع، ويجري ذلك عادة في إطار التسويات السياسية، وهنالك عشرات الأمثلة على ذلك على مدى العقد الماضي وحده. هذا بالتأكيد هو الحال في سياق الأزمة السورية...
ورغم أن الدستور وحده لن يحل الأمور، ولكن إذا لم تتم صياغته بعناية فائقة من قبل الوطنيين السوريين، فيمكن له أن يكون أداة لاستغلال البلاد، بناسها ومنظومتها؛ وهو أمر نعرفه بتجربتنا الخاصة كسوريين على مدى العقود القليلة الماضية.
دستور موجز جداً...؟
بالدخول في شيء من التفصيل حول الدستور الجديد، تعترضنا أول الأمر مسألة تبدو شكلية تماماً، وهي تلك المتعلقة بطول النص الدستوري... وهو الأمر الذي نزعم أنّه أمر مهم؛ لأنّ الشكل مرتبط دوماً بالمضمون ويتناسب معه (إلى هذا الحد أو ذاك) ويعبر عنه...
يقودنا نقاش «طول الوثيقة الدستورية» إلى الوقوف بداية عند «المعسكر الأول» لأولئك الذين يؤيدون وجود دستور موجز قدر الإمكان. يستند أصحاب هذا الرأي عادة إلى أن دستوراً دائماً طويل الأمد، يجب أن يكون مرناً بما يكفي ليكون مناسباً لأي وقت لاحق، بحيث يستجيب لأي تغييرات قد تحدث خلال تطور المجتمع السوري، ويظل قابلاً للتطبيق وغير مقيد. يحاجج أصحاب هذا الرأي أيضاً بأنّ الإيجاز يقلل من احتمالات الظهور السريع لحاجة ملّحة للتعديل، وعملية التعديل كما هو معروف ليست بالعملية السهلة... والانتقال إلى وضع مستقرٍ بعد أزمة طويلة ومدمرة، يحتاج بالضرورة إلى قدرٍ من الاستقرار القانوني والسياسي لا تعيقه عمليات تعديل دستوري متتالية ومتقاربة...
رغم أنّ هذه الأسباب تبدو معقولة إلى حد ما من الناحية النظرية، فإنّ ما علينا أن نضعه في اعتبارنا أيضاً هو أننا نعيش في أزمة طالت كل جانب من جوانب حياتنا، ونمت وتراكمت عبر عقود من الأزمات المتتالية التي ترسخت خلالها جملة من ممارسات النهب والفساد والإقصاء والقمع والتنمية غير المتوازنة (إنْ وجدت تنمية من الأساس) وإلخ.
هذا كلّه، يعني أن دستوراً بموادٍ شديدة العمومية، سيفسح المجال لمرونة عالية جداً للتشريعات والقوانين وللمشرعين، يمكنها أن تتحول إلى باب خلفي لإعادة إنتاج الممارسات ذاتها، والتي لن تختفي من تلقاء نفسها... ما يعني أننا بحاجة في الدستور الجديد إلى أمرين معاً: تأمين استقرار واستمرار قانوني تشريعي سياسي من جهة، ولكن تأمينه على قاعدة القطع مع السابق، والانتقال النوعي بعيداً عنه...
يشير بعض المدافعين عن الدساتير القصيرة إلى العديد من البلدان التي لديها دساتير قصيرة (مثل النرويج أو لوكسمبورغ)، أو حتى إلى دول ليست لديها دساتير مدونة (مثل المملكة المتحدة أو السويد، والذي تصنف دساتيرها ضمن الفقه الدستوري بأنها دساتير موضوعية لا شكلية)، ويقول هؤلاء إنّ هذه البلدان "تعمل" بشكل جيد رغم ذلك.
ما ينبغي النظر إليه في هذه المسألة هو السياق والإطار التاريخي؛ فنظرة فاحصة على أمثلة البلدان ذات الدساتير القصيرة أو «الموضوعية»، والتي تعتبر في الوقت نفسه "متقدمة" من حيث الحياة السياسية والحريات، تبينُ أنّها دول لديها معايير ديمقراطية راسخة تطورت على مدى عقود وحتى قرون، وتحولت إلى أعراف دستورية ملزمة وقطعية، ولها سمو القوانين الدستورية بالمعنى العملي والتنفيذي (حتى لو لم تكن مكتوبة).
ليس هذا هو الحال في سورية، حيث الحياة والممارسة الديمقراطية شبه معدومة منذ أواخر الخمسينيات...
... أم دستور مفصل للغاية؟
على الطرف الآخر من الطيف، نجد أولئك الذين يدعمون فكرة وجود دستور مفصل للغاية وطويل جداً. المنطق هو أنه مع كل ما مر به السوريون على مدى العقود القليلة الماضية، نحتاج إلى التأكد من عدم ظهور أي من المشاكل الكبرى التي نشأت مرة أخرى. إحدى الوسائل الضرورية للقيام بذلك، هي معالجة هذه المشاكل ضمن الدستور...
من شأن الدستور المفصل للغاية أن يترك مجالاً صغيراً وثغرات قليلة جداً لأي شخص أو أي كيان يحاول الالتفاف على القانون، وبالتالي (على الأقل في رأي أولئك الذين يدافعون عن هذا الرأي) يجعل من المستحيل تكرار قسم مهم من الأخطاء والانتهاكات ضد الشعب السوري.
بالمقابل، فإنّ الخطر في وجود دستور مفصل للغاية هو أنه لن يترك مجالاً كبيراً للتشريع، والذي يهدف إلى الخوض في تفاصيل الأشياء. بالإضافة إلى ذلك، فهو يعني نصاً صارماً للغاية يصعب تعديله أو تغييره مع تطور المجتمع، والتطور هو الاتجاه الطبيعي.
وهكذا، يضع الدستور التفصيلي قيوداً على التنمية والتقدم، وعلى جميع المستويات - اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، إلخ. علاوة على ذلك، فإن الدستور التفصيلي الذي يتحدث عنه البعض قد يدرج أشياءً بمسمياتها المحددة لا بصفاتها العامة، وهذه الطريقة وإنْ كانت تؤكد على الأشياء المسماة وتثبتها ولا تسمح بتأويلها أو تفسيرها بأشكال مغايرة لها، ولكنها تحمل بالمقابل خطر سقوط أشياء أخرى (لم تُذكر بالاسم) من إطار شمولية الصياغة القانونية العامة، مما قد يقوض الدستور بأكمله ويجعل تعديله ممارسة متكررة ويخضع لمواقف الناس حول القضايا المطروحة.
من أجل سورية...
نعتقد أن الدستور المختصر ليس دستوراً يخدم الغرض المنشود من الدستور الآن أو في المستقبل القريب. ما تحتاجه سورية هو دستور مفصل بما يكفي، وفي المواضع المناسبة، لإعطاء هذه الوثيقة، خاصة في سياق هذه المرحلة من تاريخ سورية وكجزء أساسي من العملية السياسية، الأهمية التي تستحقها والدور المتوقع منها، ضمن الحل السياسي الشامل.
المقصود بالتفصيل في السياق السوري ليس تفصيل كل شيء؛ ولكن تلك القضايا التي ظلت غامضة تاريخياً أو تركت بالكامل خارج الدستور فاتحة المجال للتلاعب بها من خلال القوانين والتشريعات.
وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الأمور حول الدساتير السورية:
• منذ عام 1950 على الأقل، نصت الدساتير السورية على أن سورية "جمهورية ديمقراطية".
• منذ عام 1920 على الأقل، نصت الدساتير السورية على أن المواطنين متساوون في الواجبات والحقوق.
• منذ عام 1920 على الأقل، تتحدث الدساتير السورية بطريقة ما عن حقوق الإنسان أو الفرد والحرية الشخصية في العديد من جوانب حياة الفرد.
• يتطرق الدستور السوري الحالي (2012) في العديد من المواد المتعلقة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى التعددية السياسية والحق في تشكيل الأحزاب السياسية والانضمام إليها.
كما يتضح مما سبق، هناك العديد من الشعارات الإيجابية العامة في الدساتير السورية، لكن في الممارسة العملية، الواقع مختلف تماماً، لدرجة أنه في كثير من الحالات يعد انتهاكاً صارخاً للدستور وعكساً تاماً لما هو مكتوب فيه.
بالإضافة إلى ذلك، في كثير من الحالات، تكون اللغة غامضة وعامة، وتتم إحالة التفاصيل إلى التشريع، الذي يفرض عدداً كبيراً من القيود التي تجعل بعض الحقوق تقريباً بلا معنى على الرغم من أنها مضمونة لفظياً من الناحية الدستورية. في هذا السياق، يحتوي الدستور السوري الحالي (2012) على 157 مادة، منها 65 حالة يتم فيها إحالة القضايا إلى قانون/تشريع، كثير منها يتعلق بالحقوق والحريات الأساسية.
لذلك تظهر التجربة أن حصر الدستور في الشعارات والمضمون الإيجابي العام لم يترجم إلى واقع إيجابي للشعب السوري حتى في أبسط الحقوق والحريات، ومن ثم فإنه من الضروري إدراج مزيد من التفاصيل في الدستور ووضع أسس دستورية أكثر صلابة والحد من قدرة المشرعين على التلاعب.
المشرّع القادم؟
هذا أمر بالغ الأهمية لأن الحياة والممارسات الديمقراطية كما أسلفنا، كانت شبه معدومة منذ أواخر الخمسينيات على الأقل، وهو أمر لم يعد من الممكن تركه للمشرّع وحده...
هذا أمر له أهمية خاصة في هذه المرحلة من تاريخنا؛ فمع خروج سورية من هذه الأزمة، ستستغرق الحياة السياسية وقتاً غير قصير للوصول إلى الشكل المطلوب الذي نريده كسوريين، وسيكون المشرعون القادمون، في الموجة الأولى على الأقل، نتاجاً مباشراً لمستوى التطور السياسي الديمقراطي الراهن...
أي أنّ السوريين لن ينجحوا بالضرورة في اختيار القوى والأحزاب والشخصيات التي تمثل مصالحهم الحقيقية من المرة الأولى... وهو أمر طبيعي ومتوقع؛ فلا الحركة السياسية نفسها ناضجة بما يكفي، بما في ذلك برامجها وشعاراتها وممارساتها وإلخ، ولا الناس معتادون على العمل السياسي بصيغه المتطورة التي تجعلهم قادرين ولو بالحد الأدنى على معرفة (من هو من).
بهذا المعنى، فإنّ الحياة السياسية في المراحل الأولى بعد الأزمة، ستكون شديدة التقلب، (وهو أمر معروف بالتجربة في العديد من البلدان الخارجة حديثاً من أزمات كارثية منها ما هو أقل عمقاً من كارثتنا).
مع هذا التقلب، لا يمكن ترك القضايا الحرجة المرتبطة مباشرة بمصالح السوريين، وخاصة تلك المتعلقة بالديمقراطية والحقوق والحريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للموجة الأولى أو حتى الثانية، من المشرعين الذين لن يعملوا جميعاً بشكل كامل من أجل مصالح الشعب. لذلك، يجب تحديد أهم القضايا دستورياً حتى يتم إرساء أسس الحياة السياسية المنشودة، بغض النظر عمن سيكون «مشرعونا الأوائل» بعد الأزمة.
ثوابت وتفاصيل لا بد منها
في سياق الديمقراطية وترسيخها، وإرساء أساس متين لحياة سياسية شاملة، نعتقد أن المواد الدستورية المتعلقة بقوانين الانتخابات والتي تتضمن بعض المبادئ العامة الأساسية، يجب أن يتم تأكيدها في الدستور بدرجة من التفصيل لمنع التلاعب بها من خلال قوانين الانتخابات والتشريعات. وتشمل هذه أيضاً مسائل مثل إنشاء نظام انتخابات نسبي ودائرة واحدة (انظر قاسيون، العدد رقم 976 "سورية: الأكثري والنسبي")
مثال آخر في هذا الصدد هو التوازن بين المركزية واللامركزية. في الدستور السوري الحالي (2012)، هناك مادتان فقط (المادتان 130 و131) تتعلقان بالوحدات الإدارية المحلية بلغة غامضة للغاية وعامة، وتحيل التفاصيل إلى قانون، والذي ثبت من التجربة أنه غير كافٍ ناهيك عن أنه غير مطبق من الأساس.
العلاقة بين المركز والأطراف هي مجال آخر نرى فيه حاجة إلى قدر من التفاصيل في الدستور يكفي ليحدد بوضوح السلطات المفوضة إلى المستوى المحلي، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، والمزيد من الاستقلالية في بعض الأمور. (راجع قاسيون، العدد 982 «المركزية واللامركزية.. أفكار أولية»).
عندما يتعلق الأمر بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، نرى أيضاً أن الدستور يجب أن يحتوي على مزيد من التفاصيل من أجل حمايتها دستورياً من خلال تجاوز الخطاب العام والشعارات التي لم تر النور من قبل. على سبيل المثال، يجب وضع حقوق العمال بعبارات أكثر تحديداً في الدستور، بما في ذلك تعديل الأجور بشكل إلزامي وفقاً لمستوى المعيشة الذي تتم مراجعته بناءً على مؤشر دوري. يجب أن تتضمن حقوق العمال الأخرى مثل الحق في الإضراب قدراً معيناً من التفاصيل التي تضمن الحماية الجادة لها بعيداً عن سلطة وتحكم أرباب العمل.
يجب العثور على هذه الأنواع من التفاصيل في الدستور مع آليات رصدها ومعالجتها في حالة الأفعال أو الممارسات التي تنتهكها، وتحديد الجهة المعنية بمقاضاة الانتهاكات الدستورية وكيفية إعطائها السلطة والاستقلالية اللازمة للقيام بدورها.
باختصار
ما نحتاجه هو دستور مفصل بما يكفي لإرساء أسس متينة لسورية التي نرغب بها كسوريين، ويحول الشعارات والخطابات إلى واقع، من خلال ضمان عدم إساءة استخدام الدستور من قبل أي حكومة أو مسؤول منتخب أو مؤسسة دولة، أو استخدامه كأداة للقمع. أو قمع أو نهب أو فعل أي شيء يتعارض مع مصلحة السوريين وسورية. في الوقت نفسه، يجب أن يكون الدستور مرناً بما يكفي لتمكين الأجيال القادمة من السوريين من التمتع بهذه المزايا نفسها دون أن تقيدهم قيود معاناتنا.
لا يمكن تحديد المقدار الصحيح من التفاصيل التي يجب إدخالها في الدستور السوري الجديد في الفراغ، ولا يمكن تحديده دون مشاركة جميع الأطراف السورية. من هنا تنبع أهمية أن يتواصل السوريون مع بعضهم البعض، وأن يجلسوا معاً، وأن يتحدثوا ويستمعوا إلى بعضهم البعض، للوصول إلى القواسم المشتركة بينهم، ولحل خلافاتهم... من هنا أيضاً تنبع الأهمية الحاسمة لما طالبنا ونطالب به، وهو أن تكون النقاشات المتعلقة بالدستور نقاشات علنية على مرأى من كل السوريين... أولئك الذين يرفضون هذا المطلب، وأياً تكن ذرائعهم، يعبرون ضمنياً إما عن خوفهم من الظهور بمظهر العجز والقصور أمام عموم السوريين، أو عن كونهم يعملون لمصالح ضيقة بعيدة عن مصالح السوريين، ويفضلون لذلك العمل وراء أبواب مغلقة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 985