التوافق بين السوريين كضرورة  والسياسة كفن لهذه الضرورة...
ريم عيسى ريم عيسى

التوافق بين السوريين كضرورة والسياسة كفن لهذه الضرورة...

تشير بعض المصادر إلى أنه في عام 1867 قال أوتو فون بسمارك: السياسة هي فن الممكن. كانت هذه إحدى الطرق لوصف ما كان معروفاً بالفعل وعبر الممارسة، لعدة قرون وربما لآلاف من السنين.

كما هو الحال مع المفاهيم الكبيرة كلّها، وذات العلاقة المباشرة بالمجتمع البشري وحياته خاصة، فإنّ التضارب والتنوع في تعريف تلك المفاهيم ومقارباتها، لا ينبع من عموميتها الواسعة فحسب، بل ومن حقيقة الصراع القائم والمستمر داخل المجتمع نفسه... ولذا، لن يكون غريباً أنْ نجد توصيفات أخرى للسياسة؛ منها الوصف الذي عنون به د. قدري جميل مقالاً له في قاسيون عام 2010: «فن الضرورة».

فن التوافق

ضمن الحالة الملموسة التي نعيشها الآن كسوريين، أعتقد أنّ السياسة ليست فن الضرورة فحسب، بل وهذه الضرورة تتكثف في الحاجة إلى الوصول للتوافق... أعتقد أن هذا ما يجب علينا (كسوريين) أن نفهمه اليوم ونعمل عليه في جهودنا لإخراج سورية والسوريين من هذه الأزمة، التي يعمل المتشددون من جميع الأطراف باستمرار وبلا كلل على إطالتها من خلال ضمان عدم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين؛ الأطراف الرئيسة للعملية السياسية، أو أي جانبين سوريين بشكل عام.
ما فعله المتشددون من الطرفين على أرض الواقع، هو بناء سور صيني أو أسواراً صينية بين السوريين، ومطالبتهم بأن يجدوا مكانهم على أحد الجانبين دون الآخر. كانت عقلية «معي أو ضدي» هدية للمتطرفين في كلا الجانبين، حيث أصبحت أداة مفيدة لهم لتسمية أي شخص يختلف معهم في أية نقطة بأنه عدو أو «مع الطرف الآخر»، وخائن للقضية، الوطن، الثورة.. إلخ. وهذا يعني أيضاً: أنه في السياسة السورية، لا مكان للتوافق...

في الدستور

نصت المادة 8 من الدستور السوري لعام 1973 على أن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية».
كانت هذه المادة أساساً لاستبعاد الكثير من السوريين من الحياة العامة في سورية، بما في ذلك من غالبية المناصب العامة والمناصب السياسية وبعض الفرص المهنية والأكاديمية، وحتى من أشياء، مثل النقابات والمجتمع المدني. وهكذا، فقد كان جزءاً من حياة السوريين لعقود من الزمان أن عدم العضوية في حزب البعث كانت في نظر النظام معادلاً لكونه بطريقة ما مواطناً من درجة ثانية.
في عام 2012، قام النظام بتغيير الدستور لإلغاء بعض مواده الأكثر إثارة للجدل، لإظهار أنه كان يقوم ببعض «الإصلاحات»، مع تجاهل القضايا الرئيسة، مثل فصل السلطات، والهيمنة الكاملة للسلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. وكان من بين التعديلات حذف المادة 8.
على الرغم من تغيير الدستور في عام 2012 لإلغاء المادة 8، إلا أنه من الناحية العملية لم يتغير شيء، واستمرت عقلية وروح المادة 8 داخل النظام. والأسوأ من ذلك أنه يبدو كما لو أن عقلية وروح المادة 8 تعيشان أيضاً داخل المعارضة!

داخل المعارضة

معظم هيئات المعارضة هي هيئات «ائتلافية»، من حيث أنها تضم ​​ممثلين من خلفيات وانتماءات وحركات وتيارات سياسية مختلفة... إلخ. وهذا بالتأكيد هو الحال داخل هيئة المفاوضات السورية. بينما يجب أن تعمل هذه الأنواع من الهيئات على محاولة إيجاد توافق بين مكوناتها وأعضائها، ثم مع الجانب الآخر.
من الناحية العملية، ما رأيناه هو أن مجموعة واحدة من خلال أدوات ووسائل مختلفة تخيف وتبتز عدداً كافياً من الأعضاء للحصول على تصويت يناسبها (أو إعجاب أولئك الذين تدين لهم بالولاء) لتوجيه القرارات والمواقف. ثم يتم تصوير أي شخص من أعضاء أو مكونات الهيئة، ويقول أي شيء مختلف على أنه «عميل للنظام». وقد مكّن هذا المتطرفين داخل المعارضة (تماماً كما في الطرف الآخر) من حجب الأصوات الوطنية الحقيقية التي تعمل بصدق لمساعدة سورية والسوريين على الخروج من الأزمة.
لقيت هذه الطروحات استحساناً لدى بعض الجماهير السورية لفترة من عمر الأزمة، لكنها بدأت بعد ذلك تفقد قدرتها على التأثير، ويرجع ذلك أساساً إلى أن المزيد والمزيد من السوريين بدأوا في فهم أهمية التنوع في وجهات النظر السياسية. والأهم من ذلك، أن السوريين يرون الآن أنّ قسماً عريضاً من الشعارات والخطابات المستخدمة ليست إلا شعارات فارغة، ويفهمون أن أصحاب تلك الشعارات ليسوا مهتمين بالتوصل إلى حل، لكنهم في الحقيقة مجرد نسخة أخرى من النظام.
وقد بررت هذه الطروحات أيضاً لفترة طويلة رفض أي وكل محاولات للحوار. وكانت هذه هدية رحبت بها قوى محلية وإقليمية ودولية لم تكن تريد أن يجلس السوريون على طاولة واحدة. إذا فعلوا ذلك، فذلك يعني أنهم سيتحدثون ويستمعون لبعضهم البعض، وقد يؤدي ذلك إلى حوار حقيقي يقود إلى حل يقطع المكاسب التي يجنيها المتطرفون من استمرار الأزمة.
الحوار الحقيقي يعني الوصول إلى توافق، والتوافق يعني تقديم تنازلات متبادلة ليست من جهة لأخرى فقط، بل ومن الجهات جميعها لمصلحة الشعب السوري ككل... البعض ليس على استعداد لفعل ذلك، حتى لو كان الثمن هو أرواح السوريين وسلامة أراضي سورية.

مذكرة التفاهم كمثال

كسوريين، علينا أن نبدأ من مكان ما، وكسوريين يريدون وقف استنزاف وطنهم وشعبهم، علينا أن نبدأ في أقرب وقت ممكن. يمكن لجميع الأطراف السورية، ويجب أن تتعلم درساً من مثال حديثٍ وتكرره على المستويات جميعها، وهو مذكرة التفاهم التي تم توقيعها بين حزب الإرادة الشعبية ومجلس سورية الديمقراطية في نهاية آب.
مذكرة التفاهم، هي مثال لجانبين سوريين لهما وجهات نظر ومواقف متباينة حول العديد من النقاط، يجتمعان ويوضحان القواسم المشتركة بينهما كنقطة انطلاق للمداولات المستقبلية. لقد رفض المتطرفون من جميع الأطراف ذلك، وحاولوا تقويضه من خلال الإشارة إلى المواقف التي يتبناها أي من الجانبين لإظهار أنه في الواقع «عدو» وليس «شريكاً»، أي إثبات أن الجلوس مع هذا الجانب يدل على أنك ضد مصلحة السوريين. ومع ذلك، لم تجد هذه الهجمات الصدى المنشود بين معظم السوريين، الذين رأوا في شروط مذكرة التفاهم شيئاً يمثل بالضبط ما يريدون.
هذا هو بالضبط التوافق، والسياسة بالضبط، وما نحتاجه بالضبط حتى نرى كل القوى السورية من جميع الأطراف تفعله- إيجاد أرضية مشتركة، وشرحها، والانطلاق من هناك. بدون ذلك، سنستمر في الحلقة اللانهائية نفسها، التي تطيل من معاناة السوريين وتؤخر الحل السياسي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
984
آخر تعديل على الإثنين, 21 أيلول/سبتمبر 2020 20:13