نحو الاشتراكية.. «التفاؤل فعالية المعرفة»!
أحمد علي أحمد علي

نحو الاشتراكية.. «التفاؤل فعالية المعرفة»!

عرفت البشرية النظام الاستعماري القديم خلال مئات من السنين الماضية حتى الحرب العالمية الثانية، وكان الطابع العام لهذا النوع من الاستعمار همجياً بربرياً مباشراً؛ يذهب المستعمِر إلى الأرض المستهدفة ويقوم باحتلالها، ونهب ثرواتها وكل ما استطاع إليه سبيلا...

استعمار «قديم- جديد- مركّب»..

بعد انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية ونشوء منظومة الدول الاشتراكية، نشأ نموذج جديد من الاستعمار سُميَ بنظام الاستعمار الجديد، وكانت دول العالم الثالث في حينه نقطة استهدافه الأساسي. اعتمد هذا النموذج الاستعماري على آليات نهب جديدة بصيغ غير مباشرة، ونعرفه اليوم من خلال عملية «التبادل اللامتكافئ» بأشكاله الثلاثة (نظام الأسعار– القروض– التبعية التكنولوجية)، وقد تكوّن بشكله النهائي في أواسط ستينات القرن الماضي، واستمر إلى أواسط الثمانينات..
وفي النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين بدأ يظهر ما أُطلق عليه لاحقاً «النظام العالمي الجديد»، وهو شكل مركّب من الاستعمار القديم والجديد، ويحمل أسوأ صفاتهما، وحاول أن يخفي نفسه في بادئ الأمر بشعارات برّاقة حول الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وبالكثير من الأقنعة المزيفة، التي أخذت تسقطها الحياة قناعاً إثر آخر، وتُظهر وجهه الحقيقي البائس...

ماذا حمل هذا النظام في جعبته؟

المدخل الأساس لرؤية ما داخل الجعبة، هو معرفة مشكلة الحضارة البشرية من وجهة نظر هذا النظام الرأسمالي والقائمين عليه؛ هم يختصرونها كالتالي: هناك نمو سكاني هائل في العالم، وبعد عدة سنين لن تستطيع الأرض تحمّل هذا المليارات من الناس، وموارد هذه الأرض محدودة ولن تتزايد بنفس متوالية تزايد البشر أنفسهم، وهناك نمط قائم من توزيع الثروة ينبغي المحافظة عليه كما هو..
إذاً، لديهم معادلة بثلاثة حدود «النمو السكاني- الموارد- توزيع الثروة»، والحد الثالث لديهم من المحرمات التي لا يجوز المساس بها، فهو خارج حساباتهم منذ البداية، ينبغي من وجهة نظرهم الحفاظ على نمط التوزيع القائم كما هو، والموارد من حيث الجوهر هي محدودة، وبذلك وجدوا أن الحل الوحيد لديهم هو إعادة النظر بالنمو السكاني على الكرة الأرضية، بمعنى آخر، تخفيض عدد الجنس البشري. هذا ما حملوه في جعبتهم إذاً.. الموت!

ما الطريق لتحقيق ذلك؟

لتحقيق ذلك الهدف، تمت صياغة ثلاث وسائل للإبادة الجماعية؛ الأولى: هي الحروب الإقليمية المحلية على أساس قومي أو ديني أو طائفي. وقد بدأت رحلة هذه الحروب من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة في شيشانيا، إلى أفغانستان، ثم تأجيج الصراع بين الهند وباكستان حول قضية كشمير، إلى حرب الخليج، إلى يوغسلافيا، ثم الصومال، ثم العراق، الخ.......... الوسيلة الثانية: تخفيض مستوى المعيشة، عن طريق تخفيض وسطي عمر الإنسان، وبكلام آخر، زيادة نسبة الوفيات على نسبة الولادات، وهذا تم بالدرجة الأولى عن طريق الضغوطات التي مارسها صندوقا النقد والبنك الدوليين على العالم أجمع من خلال الوصفات الاقتصادية التي حملت المشروع الليبرالي المتوحش الذي حصد البشر والحجر، والذي لم يخفّض مستوى المعيشة فقط بل أعدمها، والشروط التي رافقت هذا المشروع هي تحديد النسل من جهة، وتخفيض الإنفاق على القطاع الصحي في الدول الفقيرة مقابل القروض من جهة أخرى..
الوسيلة الثالثة: والتي ما زالت في إطار النقاش وخاضعة للشد والجذب هي قضية الأمراض وانتشارها، والتي تعيش البشرية حالة منها في أيامنا هذه من خلال انتشار «فايروس كورونا» الذي طالت يده ما يفوق المليون إنسان حتى اليوم، ورغم أن كل الأحاديث حول منشأ الفايروس ما زالت اليوم بإطار الفرضيات، إلّا أنه من السذاجة بمكان التعاطي مع جائحات بهذا المستوى بكونها تجري خارج إحداثيات «النظام العالمي الجديد» القائم والذي يعيش لحظاته التاريخية الأخيرة بحكم أزمته المستعصية، كيف من الممكن تبرئتهم من ذلك، وهم قالوا لنا بالفم الملآن: ما نحمله لكم هو الموت؟! هذا هو مشروعهم: مشروع موت الإنسان.
وَضَعَ هذا النظام الرأسمالي منذ تكوّنه العالم والبشرية على مفترق طرق حقيقي، والتجربة البشرية اليوم أثبتت للجميع بما لا يدع أي مجال للشك بأن الرأسمالية ليست هي الحل رغم كل التنظيرات والكتب والدراسات التي حاولت الاقناع بهذه الفكرة وتثبيتها، وكان هذا الأمر واضحاً منذ البداية في الأماكن التي حلّت فيها الرأسمالية مكان الاشتراكية، والتي لم تستطع حل أية مشكلة من المشكلات التي أنتجتها تلك التجربة في مرحلة التراجع، بل عمّقت تلك المشاكل إلى حدود لا توصف.

الاشتراكية ضرورة وإمكانية معاً!

قولنا السابق «على مفترق طرق» يعني: أن الرأسمالية ليست قدراً محتوماً على البشرية، ويعني أنه مقابل مشروع الموت، هناك مشروع حياة على الطريق الآخر؛ وهو الاشتراكية، لأنها البديل الوحيد عن الرأسمالية ونظامها «العالمي الجديد» منتهي الصلاحية والقائم بقوة العطالة فقط حتى حينه، لكن هل الاشتراكية ممكنة اليوم؟
واحدة من أهم النقاط التي يجب أخذها بعين الاعتبار لدى محاولة الإجابة عن التساؤل السابق؛ هي موازين القوى الدولية التي ينهار فيها المركب الاستعماري الغربي بكل أركانه، مقابل صعود قوى دولية تحمل هموم العالم والبشرية بين كفّيها، وهنا نتحدث عن قطب «بريكس» عموماً، وروسيا والصين على وجه الخصوص، ولعلّ السعي الروسي المحموم لإطفاء شُعل الحرائق الأمريكية حول العالم، والسعي الصيني مؤخراً لإنقاذ العالم من جائحة «كورونا» خير دليل على ذلك.
كون أن الوزن الدولي لـ «حماة العالم» - وهم يستحقون هذه التسمية فعلاً- يزداد ويكبر يوماً بعد يوم، فإن هذا الأمر يسمح بالتنبؤ بأن الاشتراكية في عالم اليوم هي إمكانية حقيقية، وخصوصاً إذا ما جرت المقارنة بين الظرف الدولي في هذه اللحظات، والظرف الدولي يوم نشأت التجربة الاشتراكية الأولى للبشرية في القرن الماضي (ثورة أكتوبر 1917)؛ في حينه نشأت تلك التجربة واستمرت حوالي سبعين عاماً، رغم وجود قوة كبيرة مضادة لها، وهي الإمبريالية العالمية التي كانت تعيش في حينه بحالة ممتازة إذا ما قورنت حالتها بزمن اليوم؛ زمن لا نمو حقيقي فيه، ما يعني بمجمله بأن الاشتراكية اليوم هي ضرورة وإمكانية معاً، وهذه فرصة تاريخية منتظرة بفارغ الصبر منذ عقود.

«التفاؤل فعالية المعرفة»

قادمون باتجاه نموذج اشتراكي جديد، ونحمل في جعبتنا تجربة ثقيلة وهامة في بناء الاشتراكية، هامة بكلّ ما فيها، بإيجابياتها وسلبياتها، وأقل ما يقال عنها، هي كونها ولأول مرة في التاريخ البشري قدمت تجربة ملموسة حول كيفية تطبيق العدالة الاجتماعية في المجتمع، ونقلت هذا الحلم الذي تسعى إليه البشرية منذ فجر التاريخ إلى الإطار الواقعي والعملي. برهنت بأن الأحلام تتحول إلى واقع، وبهذه القناعة ذاتها، وبدروس تلك التجربة الثمينة تتقدم البشرية الى أمام .
تجربة جديدة أرقى وأعلى من الاشتراكية في انتظارنا، علينا أن نتأهب لاستقبالها بالعمل والنضال والمعرفة. عالمٌ آخر ممكن سنبنيه بالإرادة الحرّة والنقيّة، وفق القناعة العلمية بالقدرة على بناء اشتراكية القرن الحادي والعشرين، وذلك بالاستناد على نظرية علمية حيّة ومتجددة هي الماركسية اللينينية التي صاغت عِلم تحطيم الرأسمالية.
بناءً على هذا كلّه، وإن سمحتم لنا بتجديد مقولة المفكر الراحل هادي العلوي حين قال في عصر الهزائم: بأن «الحزن ضريبة المعرفة»، فإن هذه المقولة في عصر الانتصار هذا الذي نعيشه والذي بدأت ترتسم بداياته أمام أعيننا، من الجدير أن تصبح المقولة «التفاؤل فعالية المعرفة»، فهذه تليق بأن تكون شعاراً نرفعه سويةً لاستقبال المرحلة المقبلة... بُشْرَى بالخير، ها هو التاريخ يبتسم لنا مجدداً!

معلومات إضافية

العدد رقم:
960
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 13:07