«تجاوب حادّ»... وانهيار يلوح في الأفق!

«تجاوب حادّ»... وانهيار يلوح في الأفق!

تُعرّف ظاهرة التجاوب الحادّ، أو الطنين (resonance)، بأنها ظاهرة فيزيائية تحدث عند انسجام تواتر فعل أو مؤثر خارجي (بما في ذلك حقل خارجي)، مع التواتر الطبيعي للجسم الواقع تحت التأثير...

 

يمكن أن نرى أمثلة عديدة على التجاوب الحادّ في مستوى علم الميكانيك. (الحادثة الأشهر التي يُقال إنها تمثيل حي لهذه الظاهرة، هي انهيار جسر Tacoma Narrows Bridge عام 1940، رغم أنّ هنالك آراء أخرى حول تفسير انهياره). المؤكد أنّ الظاهرة بمستواها الميكانيكي تجد لها عدداً كبيراً من التطبيقات العملية، بينها مثلاً تلك المتعلقة بالآلات الموسيقية على اختلافها، وخاصة الوترية منها.

على مستوى الكهرباء، يمكن أيضاً أن نجد تطبيقات وأمثلة عن هذه الظاهرة، أشهرها تلك الناجمة عن التساوي في قيمة الممانعة السعوية والتحريضية، لمكثف ووشيعة، الأمر الذي ينجم عنه إفناء إحداهما لممانعة الأخرى ما يسمح بتصفير فرق الكمون وتعظيم شدة التيار الكهربائي إلى الحدّ الأقصى، والذي يمكنه في حال لم تكن ضمن الدارة ممانعات أخرى، أن يؤدي إلى التسبب في حرق الدارة عبر قصرها.

تفسير الظاهرة هو أنّ الانسجام بين تواتر المؤثر والمؤثر عليه، يؤدي إلى تراكب موجتيهما بحيث ينتج عن التراكب قيمة قصوى، يمكن لها أن تكون مفيدة ويمكن لها أن تكون مدمّرة. (ويمكن لها أن تكون مفيدة ومدمرة في الوقت نفسه، إذا نظرنا لها بطريقة ديالكتيكية... ونظرة كهذه، هي ما نحتاجه للتعامل مع موضوع هذه المادة).

بين التفكيك والتركيب

الانطلاق من العلوم الأقل تعقيداً لفهم العلوم الأكثر تعقيداً، ليس الطريق الصحيح بكل تأكيد؛ لا يمكن مثلاً تفسير الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من علم الكيمياء أو الفيزياء. مع ذلك، فإنّ العلوم الأقل تعقيداً، تمثل أدوات لا غنى عنها لفهم العلوم الأكثر تعقيداً، لا يمكننا مثلاً الاستغناء عن الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء في دراسة أي ظاهرة بيولوجية، أو حتى اجتماعية.

ولكن من الممتع حقاً، وربما من المفيد، استخدام قوانين وظواهر العلوم الأقل تعقيداً، كأداة في عرض فهمنا للعلوم الأكثر تعقيداً. أكثر من ذلك، فإنّ العلوم لا تتحول إلى علوم بالمعنى الناضج «قبل أن تُعبّر عن نفسها بلغة الرياضيات»، وفقاً لإنجلز.

كورونا + أسعار النفط = ؟

استناداً إلى ما أوردناه، نزعم أنه من الممكن تشبيه الوضع العالمي الراهن، تحت وقع تراكب كل من أزمتي كورونا وأسعار النفط، بأنه وضع تجاوب حادّ سيؤدي كمحصلة إلى انهيار النظام العالمي القائم.

فلننظر إلى كل من الأزمتين على حدة، ولنر ما الذي يستطيع النظام العالمي القائم أن يفعل تجاههما، انطلاقاً من أدواته ومنظومته الرأسمالية؛

كورونا تتطلب إيقاف حركة الإنتاج لعدة أشهر للسيطرة على انتشار المرض والسماح للمؤسسات الصحية ضمن قدراتها الموجودة أن تحتويه ريثما يظهر العلاج، الذي لن يصبح جاهزاً قبل عدة أشهر، وربما عام.

كورونا تتطلب أيضاً إنفاقاً اجتماعياً أعلى يقع على عاتق الحكومات بالدرجة الأولى، (وعلى عاتق الشركات بقدر ما تتمكن الحكومات من إلزامها: في الصين ألزمت الحكومة الشركات ليس بإعطاء إجازات لعمالها فحسب، بل إجازات مدفوعة).

من جانب آخر، هنالك أزمة أسعار النفط. وهي أضخم بما لا يقاس، بآثارها ونتائجها، من أزمة كورونا. (ونعتقد بأنّ قسماً مهماً من تضخيم حالة الذعر من كورونا، ومحاولة ربط الأزمة الاقتصادية القائمة بها وحدها، يستهدف– ضمن ما يستهدف- حرف الأنظار عن أزمة النفط؛ حتى أنّ الإعلام الغربي بأسره متفق على وصف انهيار البورصات بأنه «انهيار البورصات الناجم عن كورونا»).

خلال 48 ساعة فقط بعد انهيار وول ستريت، ضخ الفيدرالي ما يصل إلى 2,2 ترليون دولار، في محاولة لعلاج الأزمة. وهذا المبلغ أكبر من مجموع عمليات الضخ المالي، أو ما يسمى التيسير الكمي الذي أقدم عليه الفيدرالي في أزمة 2007-2009. رغم ذلك، لا حياة لمن تنادي. بات الأمر كمحاولات صعق قلب متوقف بتوترٍ كهربائي عالٍ... ولكن يبدو من النتائج كما لو أنّ صاحب الأمانة قد أخذ أمانته وانتهى الأمر.

تراكب الموجتين 

كورونا تحتاج مزيداً من الإنفاق، وأزمة النفط تحتاج مزيداً من الإنفاق «على الأقل من وجهة نظر الأدوات المحدودة التي تمتلكها المنظومة»... حرب أسعار النفط وانهيار البورصات، تدفع السوق والإنتاج نحو انكفاء كبير، وقد تجرأ الفيدرالي الأميركي على الإعلان رسمياً أن العالم دخل مرحلة الركود. كورونا أيضاً، تدفع السوق والإنتاج نحو توقف شبه كامل.

ضخ الدولارات في البورصة، وتخفيض معدل الفائدة إلى الصفر، هدفه عادة هو تنشيط السوق وتنشيط الإنتاج. ولكنّ هذا الأمر بات مشكوكاً في قدرته على حل المشكلة حتى لو افترضنا أنّ كورونا ليست موجودة؛ إذ إنّ تخفيض الفيدرالي معدل الفائدة إلى الصفر هذه المرة، ورغم أنه إجراء مكرر شكلياً، لكنه يظهر الآن بوصفه خضوعاً لنتيجة حتمية للتطور التاريخي لانخفاض معدل الربح عبر عمر الرأسمالية منذ بوادرها الأولى في القرن 14... (يمكن العودة إلى مادة «معدل الفائدة» كعب آخيل الرأسمالية، لتفاصيل أكثر عن هذه النقطة)... أي أنّ تصفير الفائدة أشبه بالقدر الذي لا رادّ له، والذي لا يمثل إعلان الفيدرالي عنه، سوى اعترافاً إجبارياً بذلك القدر.

إذاً، كورونا تدفع نحو تخفيض الإنتاج، وأزمة أسعار النفط تدفع نحو تخفيض الإنتاج. كورونا تتطلب مزيداً من الإنفاق، أزمة النفط تتطلب مزيداً من الإنفاق. تراكبت الموجتان وتزامنتا عند قمتيهما، لتنتجا معاً قمة أكثر شدة... لتنتجا تجاوباً حاداً له مفعول صاعقة، ويكفي لانهيار جسورٍ ومبانٍ ومنظومة بأكملها...

 

 

مخطط بياني للباحثة الاقتصادية دورثي نيوفيلد، يبين الانخفاض التاريخي لمعدل الفائدة عبر 700 عام

بفعل فاعل!

يشبّه الصحفي توم لونغو في مقال له بعنوان «بوتين يطلق العنان لجحيم استراتيجي في الولايات المتحدة»، اختيار لحظة إطلاق حرب النفط، تشبيهاً طريفاً؛ إذ يشبهه باختيار لاعب الجودو للحظةٍ مناسبة خلال اندفاع خصمه في الهجوم، لكي يستفيد من ذلك الاندفاع بالذات، ليلقيه أرضاً. يوم السادس من آذار، في اجتماع لـ«أوبك+»، أي أوبك بالإضافة إلى روسيا، قالت روسيا «لا» لتخفيض إنتاجها من النفط. وفيما بدا أنه ردّ من السعودية، قررت الأخيرة الإعلان عن زيادة إنتاجها بدلاً من تخفيضه. الأمران معاً أديا إلى انهيار أسعار النفط إلى ما دون 20 دولاراً للبرميل، وهو سعر أقل بكثير من تكلفة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة. وهذا كله أدى إلى انهيار البورصات، وذلك قبل أن يعلن ترامب أو جونسون أو ميركل أو غيرهم من الزعماء، حالة الطوارئ... بل كان ترامب لا يزال في تلك الآونة ينصح بغسيل اليدين جيداً باعتباره الحل الكافي والناجع لكورونا.

لنذهب أبعد من ذلك قليلاً نقول: إنّ هجوم الخصم جاء بالذات عبر نشر فيروس كورونا، وتلقُفُ تلك الاندفاعة وتحويلها إلى قوة هدامة للأمريكي، وللمنظومة الدولارية ككل، هو افتتاح حرب النفط يوم السادس من آذار. وبعد ذلك باتت عملية التفزيع الغربي من كورونا، بالتوازي مع عدم اتخاذ أي إجراء جدّيّ لمواجهتها، أداة لتأخير تظهير نتائج حرب النفط، وخاصة لتأخير ظهورها بردود الفعل الشعبية على الإفلاسات وإغلاق المؤسسات ورمي الناس في الشوراع...

يبدو هذا الكلام منتمياً لما يسمى «نظرية المؤامرة»؟ نعم بالفعل يبدو كذلك!  

مؤامرة؟

ليست بنا رغبة للتعلق بأذيال أحاديث المؤامرات، ولكن من الحماقة بمكان أن نصم أذاننا ونغلق عيوننا عما يجري حولنا كي لا «نسقط» في أحابيل التفكير التآمري. قبل عرض بعض الوقائع، لا بد من إضافة كلمة حول المؤامرة: «الرواية الرسمية» هي الوحيدة المسموح بها، وكل ما عداها تفكير تآمري، هل هي مصادفة؟ لا نظن ذلك.

نشر عالم الجيوسياسة والجغرافية الإيطالي مانليو دينوتشي، يومي التاسع من آذار والخامس عشر منه مقالين في «إيل مانفيستو»، ونشرت الترجمة الإنكليزية لهما في شبكة فولتير وموقع مركز أبحاث العولمة، (ترجمت قاسيون المادتين في موقعها الإلكتروني تحت عنوان «غزاة مُلقَّحون؟ ثلاثون ألف جندي أمريكي إلى أوروبا بلا كمّامات!»).

يكشف دينوتشي أنّ الولايات المتحدة قد استقدمت عشرين ألف جندي أمريكي إلى أوروبا خلال الشهر الحالي، لينضموا إلى عشرة آلاف موجودين مسبقاً، وإلى 7 آلاف من بقية أعضاء تحالف الناتو، لكي يشتركوا جميعاً في مناورات «أوروبا المدافِعة 20».

ونقتبس من مقال الكاتب ما يلي: «في بافاريا، التي لوحظ فيها أول تفشٍ أوروبي لفيروس كورونا، نشاهد الجنود الأمريكيين الذين نزلوا للتو من الطائرة، يصافحون مستقبليهم من السلطات الألمانية ويتبادلون القُبلات مع رفاقهم دون أية أقنعة أو كمامات. ويتبادر هنا سؤال عفوي: هل يمكن أن يكون قد تمّ تطعيمهم بالفعل بلقاح ضد فيروس كورونا؟»

تثير التساؤل أيضاً، فضيحة آلية الكشف المعطوبة التي جرى استخدامها لأكثر من أسبوع في الولايات المتحدة، والتي انتقدتها الصين منذ البداية. بعد حوالي الأسبوع أعلنت السلطات الأمريكية أن الفحص الذي استخدم أثبت فشله، وأن عدداً من الذين اعتبروا سليمين ممن خضعوا للفحص، ثبت أنهم كانوا مصابين، وخلال متابعتهم حياتهم الطبيعية بعد الفحص نشروا الفيروس الذي انفلت من العقال وبات يسرح في كل ولايات أميركا.

كذلك الأمر، تثير التساؤلات الإجراءات التي لم تتخذ في المطارات والمعابر الحدودية إلا بعد فوات الأوان، وهذا يشمل بريطانيا وفرنسا وغيرهما. في الولايات المتحدة مثلاً، كانت معايير من يجب اختبارهم تقول بأن القادمين من الصين فقط هم من ينبغي فحصهم. استمر تبني هذا المعيار حتى بعد أن انفجرت الأمور في إيران وإيطاليا، ولم يتم التخلي عنه إلا منذ أيام قليلة.

ثم ألا يثير التساؤل، التناقض العجيب في الخطبة الشهيرة لجونسون التي «بشّر» فيها البريطانيين بأن عائلات كثيرة ستفقد أحباءها؟ في الخطبة نفسها قال جونسون: إنه لن يأخذ قراراً بإغلاق المدارس حالياً!

ورغم أنّ كل إنسان في رأسه عقل، بات يتطلّع إلى النموذج الصيني والتعليمات الصينية حول المرض وآليات انتشاره وآليات التصدي له، بوصفه النموذج الأنجح، بل والواجب الاتباع، رغم ذلك، فإنّ القسم الأكبر من وزراء الصحة الغربيين لا يزالون حتى اللحظة يقللون من شأن استخدام الكمامات كإحدى الوسائل التي لا غنى عنها في التسلح ضد نشر الوباء.

إذا حاول الإنسان حصر جملة التناقضات في السلوك الغربي اتجاه كورونا، فربما يمكنه أن ينتج مجلدات ضخمة. بعد هذا كله، وغيره، علينا أن نصدق الرواية الرسمية، والرواية الرسمية هنا تعني بالضبط ما يقوله الغرب، وعلينا فوق ذلك أن نسخر من أي طرح آخر وننعته بالمؤامرة! 

تجاوب حادّ ثلاثي الأبعاد

يشير السلوك الرسمي الغربي المتراخي تجاه كورونا، إلى غياب القدرة وربما الرغبة في التصدي للوباء بشكل فعلي. علينا ألا ننسى أنّ الحكومات الغربية في ظل النيوليبرالية التي جرّدت جهاز الدولة من دوره الاجتماعي، لم تعد قادرة منذ عقود على لعب دور المتحكم والمقرر الأساسي، وبات الأمر بأكمله بيد الشركات الكبرى. أكثر من ذلك باتت الحكومات الغربية بمجملها مجرد ناطق غير رسمي باسم مصالح هذه الشركات. ولكن لماذا لا تتعامل تلك الشركات بجدية مع كورونا؟ إنهاء أزمة كورونا في هذه اللحظة لن يسمح بتنشيط عجلة الإنتاج الغربية، لأنّ تلك العجلة باتت معطوبة لا بسبب كورونا فقط ولا بسبب أسعار النفط فقط، بل لسبب أعمق من هذين العرضين: انخفاض معدل الربح مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال، والذي وصل إلى حدّه النهائي: الصفر. بهذا المعنى تغدو موجتا كورونا وأسعار النفط، موجة واحدة بقيمة أعظمية، تتراكب مع التردد الطبيعي للظاهرة الرأسمالية التي وصلت هي الأخرى، وفي توقيت متزامن، قمة أزمتها بوصول معدل الربح إلى صفر. التجاوب الحادّ الذي يعيشه النظام العالمي القائم، يعني تخفيض مقاومته إلى الحدود الدنيا أمام تيار الغضب البشري المتراكم، والذي لن يطول به الأمر حتى يمر بطاقة أعظمية في دارة ذلك النظام...

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
958
آخر تعديل على الإثنين, 23 آذار/مارس 2020 13:25