هل يخلق شرق المتوسط فيتناماً جديداً؟
سعد خطار سعد خطار

هل يخلق شرق المتوسط فيتناماً جديداً؟

قبل 45 عاماً من الآن، خسرت الولايات المتحدة الحرب التي خاضتها مع فيتنام. ومنذ ذلك الحين، بات المثال الفيتنامي نموذجاً عن الدول التي ما إن تتدخل فيها الولايات المتحدة، حتى تتحول إلى مستنقعٍ تزيد الخسائر الناجمة عن خوضه عن الأرباح المتوقعة من نهبه. فإلى أي مدى بات ينطبق هذا النموذج على التدخل الأمريكي في منطقتنا؟

من خلال شن الضربات الجوية ضد شمال فيتنام، ونشر القوات الأمريكية في جنوبها، كانت واشنطن تأمل في إضعاف اقتصاد فيتنام الشمالية التي أخذ ينمو فيها تيارٌ يعادي التدخلات الاستعمارية الغربية. شهدت هذه الحرب واحدة من أشد عمليات القصف الجوي كثافة في تاريخ البشرية، حيث ألقت القوات الأمريكية ما يقارب 7,7 ملايين طن من المتفجرات على دول الهند الصينية التي تضم إلى جانب فيتنام كلاً من ميانمار وكمبوديا ولاوس وتايلاند.

متلازمة فيتنام

في ذلك الوقت، عزف الكثيرون من الجنود والضباط عن الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي، فيما كانت تتنامى لدى قدامى المحاربين اضطرابات نفسية لم يجد الطب النفسي مناصاً من تشخصيها بـ«متلازمة فيتنام Vietnam Syndrome»، بينما انتهى الأمر ببعض الضباط السابقين غير القادرين على التعامل مع مشاكلهم النفسية إلى الانتحار.
بعد ذلك، اضطرت الإمبريالية التي وجدت نفسها غارقة حتى آذانها في المستنقع الفيتنامي إلى توقيع اتفاق باريس لإنهاء الحرب في عام 1973، وخرجت الولايات المتحدة من فيتنام بعدما فقدت 58,000 جندي من عداد قواتها معترفة بهزيمتها. وكانت هذه أول حرب تخسرها القوات العسكرية الأمريكية رسمياً في تاريخها.

للحرب اسم واحد: الحرب

لم تتعظ الولايات المتحدة الأمريكية من درس فيتنام، حيث دفعتها الأزمات المتراكمة منذ مطلع القرن الحالي إلى تكرار التجربة في أفغانستان والعراق وسورية... وهنا، لا تراكم الحرب- التي تستخدمها واشنطن كأداة- الدمار والعوز والفقر فحسب، بل وكذلك المشاعر المعادية للولايات المتحدة على طول الخط. وبحسب البيانات الصادرة عن القوات الجوية الأمريكية، فقد ارتفعت معدلات الانتحار بين الجنود العاملين في الخدمة العسكرية (في عداد الحرس الوطني الأمريكي وقوات الاحتياط) بمعدل 33%.
وبالرغم من كل المراوغة الأمريكية الهادفة لتصوير التدخلات العسكرية التي تقوم بها واشنطن و«التحالف الدولي» في منطقة شرق المتوسط على أنها «صراعات اضطرت أن تكون طرفاً فيه»، بمعنى محاولة نزع صفة الحرب عن هذه التدخلات، إلا أن حالة مناهضة الحرب باتت تشهد نمواً حتى في الداخل الأمريكي ذاته.

أفغانستان... العراق... سورية...

إن «التدابير» التي اتخذتها الولايات المتحدة لـ«تحييد» مكامن القوة لدى خصومها في المنطقة، بما في ذلك عمليات الاغتيال التي كان آخر أهدافها الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قد فتحت الباب مرة أخرى لتنامي أعمال المواجهة ضد الوجود الأمريكي في المنطقة، حيث أعرب السياسيون الإيرانيون عن استعدادهم لتنظيم «فيتنام أخرى» إذا رفض الأمريكيون الانسحاب من المنطقة، وبينما قدّمت بعض القوى العراقية وعيداً مماثلاً، اضطرت واشنطن مؤخراً للإذعان والاتفاق مع الحكومة الأفغانية على سحب كل القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان خلال 14 شهراً. وكل ذلك يجري فيما يعيش ما تبقى من قواتٍ أمريكية في سورية على صفيحٍ ساخن يهددها في كل لحظة. ففي الوقت الراهن، أوقف العراق كل العمليات المشتركة التي كانت قائمة سابقاً مع الولايات المتحدة ضد تنظيم «داعش»، وذكر رئيس الوزراء العراقي المؤقت أن «انسحاب القوات الأمريكية هو الوسيلة الوحيدة لحماية السكان الذين يعيشون داخل الحدود العراقية». وفي الوقت ذاته، شكلت الحادثة التي جرت في قرية خربة عمو السورية، وبغض النظر عن تفاصيلها، مؤشراً على درجة الجاهزية التي يتمتع بها المجتمع السوري إزاء خيار «فيتنمة» سورية على المستوى الشعبي.
على هذه الأرضية، تصل العديد من التحليلات الأمريكية إلى حقيقة أن الوقت قد حان كي تتخلى واشنطن عن محاولاتها لفرض نفوذها في المنطقة، فالهجمات التي جرت مؤخراً على قواعد أمريكية في المنطقة، فضلاً عن التحديات التي تواجهها القوات الأمريكية في كل مرة تلجأ فيها إلى تصعيدٍ عسكري، كل ذلك يثير تساؤلات تجاهلتها واشنطن لسنواتٍ عدّة، وأهمها: إلى أي حد بات يتطابق الحضور العسكري في شرق المتوسط مع المصالح الأمريكية؟

البقاء ليس خياراً

الطامة الكبرى بالنسبة للولايات المتحدة لا تتمثل في تعقّد حساباتها الإستراتيجية فحسب، بل بفقدان القدرة: لو وضعنا أنفسنا مكان الأمريكي لكان لدينا خياران، الأول هو أن تتبع الولايات المتحدة المسار ذاته الذي سلكته في فيتنام قبل عام 1973، أي أن تخوض قتالاً عسكرياً مباشراً، ضد إيران مثلاً، لكنها تعلم تماماً أن هذا سيؤدي إلى حربٍ طويلة الأمد من المستحيل كسبها. أما الخيار الثاني، فهو الخيار الذي استخدم في فيتنام بعد عام 1973، وهو إنهاء الصراعات المسلحة والعودة من بوابة الاستثمارات الاقتصادية، وهو خيار لم تعد الولايات المتحدة قادرة على اتخاذه لأنها ليست الطرف الدولي الذي يتمتع بميزات ساحقة من حيث الثروة والقوة مقارنة بالصين مثلاً، كما أنَّ الموقف العام لشعوب المنطقة والرافض للدور الأمريكي فيها يحول دون تحويل هذا الخيار إلى واقعٍ ملموس.
على هذا الأساس، لا يتبقى للأمريكي سوى الانسحاب، الانسحاب الكامل دون القدرة على تعويض النفوذ المفقود في مجالات أخرى، وهو الخيار الذي يعني بالعمق الهزيمة الكاملة. وحسب الوقت الذي تحتاجه واشنطن لاتخاذ مثل هذا القرار تكون الخسائر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
955
آخر تعديل على الإثنين, 02 آذار/مارس 2020 13:47