واشنطن تقفز فرحاً ومن ثمّ جنوناً... ودائماً على هامش أستانا!
«هذا الهجوم الأخير يجب أن يمثل نهاية حتمية لصيغة أستانا، وهذه الصيغة فاشلة لا يمكن إصلاحها ولا يمكن التعويل عليها لنتوصل إلى وقف لإطلاق النار».
التصريح السابق هو لكيلي كرافت ممثلة الولايات المتحدة ضمن جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي عُقدت يوم الثامن والعشرين من شباط المنصرم لمناقشة التصعيد الجاري في إدلب.
يعود بنا هذا التصريح إلى تصريح مشابه أدلى به جيمس جيفري في كانون الأول 2018، وقال فيه إن «مسار أستانا فشل»، وعاد بعد بضعة أيام إلى سحب كلامه هذا مبرراً بأنه قد «أسيء فهمه». «سوء الفهم» هذا، سيتكرر على ما يبدو ضمن آجال قريبة.
إلى جانب تصريح كرافت، وبالاتجاه نفسه، قال ممثل بريطانيا في المجلس: «صيغة أستانا غير قادرة على التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، وهي تعاني من خلل يتمثل في دعم روسيا الكامل للنظام السوري واستهتارها بالاتفاقات السابقة والقانون الإنساني الدولي ومصير الشعب السوري».
ممثل فرنسا، بدوره، لم يتأخر عن دعم حليفيه الاستعماريين التقليديين: «إطار أستانا فشل ولا يمكن أن يساعدنا ويشكل بديلاً لمنصة جنيف».
جملة التصريحات هذه لم تكن الوحيدة التي عبّر الغرب من خلالها عن حماسه منقطع النظير للدفع باتجاه دفن صيغة أستانا، وبالجوهر الدفع باتجاه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص الوضع السوري نحو التفجير والخراب، والأهم من وجة النظر الغربية هو أوهام إعادة حشر تركيا في حظيرة الناتو.
في هذا السياق يمكننا معاينة عملية المزايدة في «بيع الكلام»، والكلام فقط، لتركيا خلال الشهر الماضي؛ حيث انتقلت واشنطن بلمحة بصر من موقع إلى موقع نقيض: من موقع تهدد فيه بالعقوبات على تركيا، بل وتفرض عقوبات جزئية، وتهدد بالويل والثبور بما يخص ملفات إس 400 وإف 35 وخط السيل التركي وغيرها من الملفات، بما في ذلك الإصرار على الاستمرار في منع تركيا من الحصول على منظومة باتريوت، إلى موقع الداعم المتحمس لتركيا بوصفها «عضواً في الناتو» و«حليفاً لا يمكن التخلي عنه».
ورغم أنّ مزاد الكلام الغربي قد بدأ منذ قرابة الشهر، أي مع تسارع عملية إنهاء النصرة التي كان جيفري قد أكّد حرصه عليها وصولاً إلى إعلان ضمني عن النية برفعها من قوائم الإرهاب، رغم ذلك فإنّ الأيام القليلة الماضية (التي تلت مقتل جنود أتراك في إدلب والذين لم يجر إخبارٌ مسبق عن إحداثيات وجودهم ضمن قنوات الاتصال المعمول بها وفقاً لسوتشي)، شهدت منعطفاً مهماً في نوعية وكثافة الهذيان الغربي ضد أستانا.
قبل هذه العملية، بل وبعد الساعات الأولى منها، كان من الممكن أن يتم استيعاب السلوك الأمريكي المحموم والهادف إلى إيقاع الفتنة بين روسيا وتركيا، بأنه سلوك مرسوم وفق محددات معينة، الأكثر جوهرية فيها هو اتباع سياسة العصا الفعلية والجزرة الوهمية مع تركيا بما يرتبط بعلاقتها بروسيا؛ كل ما اقتربت تركيا من روسيا أكثر كلما زادت العقوبات والتضييقات الأمريكية الفعلية، وفي أي وقت تظهر فيه تركيا إشارات وجود خلاف مع روسيا يجري تشجيعها أمريكياً بسيل من الكلام دون تقديم أي شيء جدي، اللهم إلا بعض الضغط على الأوربيين لكي يحلّوا رباط كيس نقودهم قليلاً ويدفعوا بعض الأموال لتركيا ربطاً بملف اللاجئين السوريين فيها.
يمكننا توصيف مرحلة ما قبل مقتل الجنود الأتراك، وحتى ساعات بعده، بأنّ واشنطن وبريطانيا خصوصاً كانتا تنظران بإعجاب إلى حصيلة جهدٍ طويل وعمل متراكم امتد أشهراً متواصلة وصولاً إلى لحظة تفجير شامل تودي لا بأستانا فحسب، بل وتسمح بإدخال سورية والمنطقة بأكملها في فصل جديد من الدمار الشامل ذاتي الوقود، بحيث يستكمل الأمريكي انكفاءه الاضطراري عن المنطقة ولكن ببال مرتاح إلى موروث الدمار والفوضى الذي خلّفه وراءه، والذي من شأنه أداء المهمة ذاتها التي يؤديها الأمريكي بوجوده المباشر في المنطقة: مهمة استدامة التخريب واستدامة الاستنزاف في إطار الضغط المستمر على الخصوم الصاعدين وتأخير صعودهم قدر الإمكان.
لكن شيئاً ما قد جرى! شيئاً متعلقاً بمقتل الجنود الأتراك، جعل من الحدث الذي كان مناسباً كصاعق تفجير شامل، يتحول إلى أداء مفعول معاكس كلياً، إلى أداة في تضييق هوامش اللعب الأمريكي الغربي على خلافات ثلاثي أستانا البينية.
بعيداً عن التحليلات «المؤامراتية»، يمكننا الاستدلال على ما يحاول الأمريكان فعله بالذات من التغير العاصف في نوعية وطريقة تصريحاتهم، والذي جرى خلال الأيام القليلة الماضية.
لا تحتاج حقيقة عداء الغرب لصيغة أستانا إلى كثير من الإثباتات، ولكن مع ذلك فقد حرص الغرب في تصريحاته عبر ثلاث سنوات على ادعاء رغبته ببناء جسر ما بين مجموعته (المجموعة المصغرة) وبين مجموعة أستانا. وباستثناء تصريح جيفري الذي أشرنا إليه أعلاه والذي قاله أواخر 2018، من الصعب أن نجد تصريحات غربية تهاجم أستانا بشكل مباشر وتقول بفشله. من السهل أن نجد انتقادات غربية رسمية عديدة لأستانا، ولكن كانت كلّها تأتي ضمن سياق عامٍ يقول شكلياً: بالتأكيد نحن لا ندعم أستانا ولا نتعامل معها كحليف، بل نحن أقرب للتعامل معها بوصفها جزءاً من المشكلة لا من الحل، ولكن يمكن لها أن تقدم شيئاً إيجابياً بسبب وجود تركيا (حليفتنا) ضمنها...
بكلام آخر، فإن الغرب يقول إنّ التأثير في الوضع السوري يتم عبر مجموعتين دوليتين أساسيتين، مجموعته (أي المصغرة)، ومجموعة أخرى يحاول التأثير ضمنها عبر تركيا. وهذا قانون معروف ضمن العمل السياسي، فأنت لا تستعدي أي كيان أو تحالف بشكل كامل، حين تكون لديك فرصة في قسمه من الداخل، لأنّ إعلان عداء كامل لأي كيان سيساهم في توحيد صفوفه بشكل أكبر في إطار الدفاع عن النفس.
وعلى هذا الأساس بالذات، فإنّ قراءة الهذيان الغربي اليوم، الهذيان الذي بات يعلن العداء الكامل لمسار أستانا، بالتوازي مع الدعم الشامل بالقذائف الكلامية الفارغة لتركيا، يعني بالضبط أنّ محاولة التفجير الشاملة قد فشلت، وأن ما يجري هو محاولة لرفع حرارة الوضع إلى أقصى الحدود الممكنة لعل درجة الحرارة المرتفعة تلعب الدور الذي كان يفترض أن يلعبه الصاعق...
ما سيجري فعلياً، هو أنّ العدوان التركي الراهن سيجري تطويقه، وعبر أستانا بالذات، وسيؤدي التوتر بأكمله إلى عكس ما تريده واشنطن تماماً: سيؤدي إلى تسريع استكمال إنهاء النصرة وأشباهها، وإلى تسريع تنفيذ سوتشي، بما يمهد للمضي بشكل لا رجعة فيه في تنفيذ القرار 2254.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 955