عن إدلب و«الخلاف الروسي-التركي»
يحتل وضع إدلب والعمليات العسكرية فيها، وكذلك الوضع الإنساني مرتبة الصدارة هذه الأيام، وهو أمرً طبيعي ومتوقع.
مع ذلك، فإنّ كثافة حضور إدلب بالمعنى السياسي والإعلامي، وفي وسائل الإعلام الغربية على وجه الخصوص، شكّل طفرة نوعية مقارنة بسنوات مضت لم يغب فيها الخبر السوري تماماً عن تلك الوسائل، ولكن حضوره قد تراجع بشكل ملحوظ مع مرور الوقت.
يتكئ الإعلام في دفعه الخبر إلى الرقم واحد، وكالعادة، على المسألة الإنسانية. ولكنّ هذه المسألة بالذات لا يمكنها أن تقدم تفسيراً حقيقياً؛ هنالك دائماً– وكما أثبتت التجارب المرّة حول العالم وفي سورية خاصة- استهداف سياسي محدد، العامل الإنساني هو مجرد توطئة للدخول إليه والعمل على تحقيقه.
روسيا VS تركيا
يجري هذه الأيام، وبشكل مركّز، الحديث عن «خلاف روسي تركي كبير»، خلاف يتم تصويره وكأنه خلاف شديد الضخامة، ولا رجعة عنه. أكثر من ذلك، يذهب البعض إلى اعتباره إعلاناً لنهاية أستانا وسوتشي وانفراط عقد الثلاثي الروسي التركي الإيراني.
الطريف في المسألة هو حجم الحماسة الغربية لهذه الأفكار، وتشجيعها المحموم لها، والذي ظهر على ألسنة مسؤولين غربيين من مستويات مختلفة، بمن فيهم طبعاً المبعوث الأمريكي الخاص إلى سورية، ومبعوث الولايات المتحدة إلى قوات التحالف الدولي (الأمريكي)؛ يمكن هنا كبداية استدعاء تصريحه (30 كانون الثاني) من الذاكرة القريبة، والذي أشار فيه مواربة إلى احتمال توجه واشنطن نحو رفع الصفة الإرهابية عن جبهة النصرة: «الولايات المتحدة تقرُّ بوجود إرهابيين في إدلب، وهناك مجموعة كبيرة من النصرة وهيئة تحرير الشام وهي متفرعة من القاعدة، وتعتبر منظمة إرهابية، ولكنها تركِّز بشكل أساس على قتال النظام السوري، وهم يدّعون أنهم وطنيون ومقاتلون معارضون وليسوا إرهابيين، ونحن لم نقبل هذا الادعاء بعد، ولكن لم نر أنهم شكلوا تهديداً دولياً منذ فترة».
في اليوم التالي مباشرة، وبما يتعلق بحماسة جيفري لخلاف تركي روسي، أدلى جيفري ضمن مؤتمر صحفي من واشنطن بالقول: «قلنا لأردوغان إنه لا يمكن الثقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا سيما فيما يخص سورية، واليوم نرى النتائج»... في المؤتمر نفسه، وفي لمحة عين، اختفى الحنق الأمريكي على تركيا، بات ممكناً التسامح مع أي شيء ومع كل شيء، المهم هو العداء لروسيا... «أردوغان، يمتلك الخبرة بخصوص الوضع في سورية، وهو شريك لنا، وحليفنا في حلف شمال الأطلسي، ونحن نقف إلى جانبه».
لم يكتف جيفري بالتصريح، بل قدم على أول طائرة إلى اسطنبول ومنها إلى أنقرة، في زيارة بكّر موعدها الذي كان مقرراً الأربعاء الماضي لكي تتم الثلاثاء، مؤملاً بصب زيت علني على النار المفترضة بين روسيا وتركيا، لعل وعسى تشتعل وتشتد، في مشهد هزلي متكرر لطبيعة السياسات الأمريكية في المنطقة، وفي سورية خاصة، والتي باتت الهوامش الوحيدة التي يمكنها أو يتهيأ لها أنها تستطيع اللعب ضمنها، هي بالضبط الهوامش التي تقع خارج نطاق التقاطعات بين ثلاثي أستانا.
في هذا السياق يمكننا أيضاً أن نعود بالذاكرة إلى نهاية العام 2018، حين عرقل الغربيون تشكيل اللجنة الدستورية، وحاولوا إلقاء اللائمة على ثلاثي أستانا وصولاً إلى التصريح علناً بأن «مسار أستانا يجب أن ينتهي»، و«مسار أستانا ميت». ومن قلب موته المفترض انبعث المسار أقوى من السابق معلناً توافقه على قائمة الدستورية التي استلمها دي مستورا في حينه، وعاد ليرفضها بإشارة من الغرب، ما أدى إلى تأخير تشكيل اللجنة عاماً كاملاً!
اتهامات متبادلة
ربما يكون الغربيون قد وقعوا في فخ المبالغة في تفسير التصريحات عالية اللهجة التي تبادلها الجانبان الروسي والتركي حول ما يجري في إدلب. بل ربما تكون، وهذا رأي يطرحه البعض، الاتهامات المتبادلة بين الجانبين هي ذاتها فخاً للغربيين جرى نصبه لإشغالهم عما يجري على الأرض فعلياً من استكمال لتنفيذ اتفاق سوتشي!
وإنْ كنا لسنا ميالين للفكرة الأخيرة، ولا رافضين لها بشكل مطلق، لكنّ الأكثر وضوحاً في المسألة هو ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يوم 15 شباط الجاري في مؤتمر ميونخ السادس والخمسين للأمن خلال رده على أحد الأسئلة المتعلقة بالموضوع: «لدينا علاقات جيدة جداً مع تركيا. هذا لا يعني أننا يجب أن نتفق على كل شيء. بشكل عام، أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك اتفاق كامل على أية مسألة ضمن العلاقات بين أي بلدين؛ وجود اتفاقٍ كاملٍ يشبه الاتفاقات التي تنشأ عن الضغط»، وبكلام أقل دبلوماسية يمكننا ترجمة ما سبق إلى أنَّ وجود اتفاق كامل حول مسألة من المسائل بين دولتين هو كناية عن إذعان إحداهما للأخرى، وهذه ليست الحال بين روسيا وتركيا.
يضيف لافروف في المؤتمر نفسه: «لا تزال أستانا الأداة الأكثر فعالية لمساعدة الأمم المتحدة في التحرُّك صوب تحقيق قرار مجلس الأمن 2254».
سوتشي إلى التنفيذ الكامل
بالعودة إلى القضية الأكثر أهمية المتعلقة بما يجري على الأرض في إدلب، ورغم وجود بعض الهنهنات من هنا ومن هناك، إلّا أنّ الاتجاه العام للأمور شديد الوضوح: جبهة النصرة ستجري تصفيتها بشكل كامل عبر حلّها وترحيل أجانبها، أو تصفيتهم، وهي مهمة يجري تنفيذها فعلياً خلال هذه الأيام، والمؤشرات والأخبار الآتية من أهل مدينة إدلب ومحيطها تفيد بذلك، وتفيد بأن هنالك انتقالاً للنصرة يجري باتجاه الحدود التركية غرب إدلب وبعمق 15 كم من الحدود، ما يعني حصرهم بشكل نهائي. ليس جبهة النصرة فقط من سيجري تصفيتها، بل وكذلك أشباهها، وبخاصة تلك التي تتكون من الأجانب بالكامل أو بنسب عالية جداً والتي تتمركز الآن إلى الغرب من إدلب المدينة.
بالمحصلة، فإنّ خريطة اتفاق سوتشي يجري تطبيقها بشكل كامل، وإنْ كان عبر تعقيدات عديدة وعبر ضجة كبيرة من التصريحات والنشاط الدبلوماسي، البناء منه والهدام.
إنّ ضماناً حقيقياً لوضع وأمن السوريين في إدلب، يمر بالضرورة عبر إنهاء النصرة ومثيلاتها، ولا يمكن له أبداً أن يكون رهينة بيدها وبيد داعمها الأول وهو الأمريكي، الذي بات مستعداً للمنافحة عنها علناً كما فعل جيفري.
استدامة الوضع السابق لإدلب، كان هدفاً معلناً للقوى الغربية تحت غطاء «وقف إطلاق النار»؛ هدف يمكننا قراءته بين سطور تقارير معهد راند الأمريكي المتتابعة حول سورية، ويمكننا سماعه في تصريحات المسؤولين الغربيين عبر السنوات الماضية. المسألة وما فيها أنّ إعاقة الحل من وجهة نظر الأمريكي، وإعاقة التغييرات المستحقة التي بات يعلن أنه لا يريد لها أن تجري، تلك الإعاقة بقي لها مستندان أساسان: النصرة والوجود الأمريكي في الشمال الشرقي، وخسارة أيٍّ منهما تعني بالضرورة تسريع خسارة الأخرى... وهذا بالضبط ما نشهده الآن وما سنشهد نتائجه في وقت قريب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 953