أية خطة عمل اقتصادية تنفذ في البلاد؟

مع الارتفاع الكارثي في أسعار السلع والخدمات، وتدهور وضع الليرة السورية، والتوقف الاقتصادي الآخذ بالتوسع دون أية آفاق منظورة للحد منه، قد يبدو السؤال عن دور الحكومة السورية ضرباً من السذاجة في بلادٍ توقفت حكوماتها عن الحكم الفعلي منذ أمدٍ بعيد، لكن الإجابة عن هذا السؤال تحديداً هي منطلق للإجابة عن سؤالٍ أكثر أهمية: إن لم يكن لدى الحكومة خطة عمل اقتصادية ملموسة، فأية خطة يجري تطبيقها في البلاد اليوم؟

كي لا نتجنى على الحكومة ونطلق الاتهامات عبثاً، تنبغي الإشارة إلى أن الباحث عن ملامح لـ«خطة عمل» حكومية سيجد أمامه مادتين للنقاش: البيان الوزاري للحكومة الصادر إبان تعيينها في عام 2016، و«البرنامج الوطني التنموي لسورية ما بعد الحرب» الذي تعرّفه الحكومة بوصفه «برنامج عمل حكومي تم اعتماده بقرار رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 8/2/2017 من أجل تأطير جهود التخطيط وإدارة الأزمة التي تمر بها سورية وتبعاتها على الصعد كافة».

«كلمات ليست كالكلمات»

في 2016، وضعت الحكومة السورية الجانب الاقتصادي بالمرتبة الثالثة في قائمة الأولويات، فالأولوية الأولى كانت، بحسب البيان الوزاري، لـ«دعم الصمود والأمن... إلخ» والثانية لـ«الاستجابة للاحتياجات الإنسانية.. أعمال إغاثة، إيواء... إلخ». وبغض النظر عن ترتيب هذه الأولويات، يضطر من يقرأ الجانب الاقتصادي من البيان الوزاري إلى الغوص في بحرٍ من الصياغات العامة الفضفاضة التي يتقن كاتبها كيف يصوغ مئات العبارات دون أن يقول شيئاً. ورغم ذلك، سنقف عند عبارتين وردتا في البيان الحكومي:
أولاً: «سنعمل على زيادة كفاءة الإنفاق العام بتحفيز الإنفاق العام النوعي، والحد من الهدر وتوجيه كامل الإنفاق نحو ما يخدم تحفيز النمو، وتخفيض كلف الإنتاج وخلق فرص عمل حقيقية، دون إحداث أية ضغوط تضخمية». لو أخذنا معطيات موازنة العام 2019 كمثال على درجة التزام الحكومة بهذا البند، نجد أنه وبالرغم من أن الإنفاق العام قد ارتفع في موازنة 2019 بمقدار 22%، إلا أن حصة قطاع الإنتاج الحقيقي (الزراعة والصناعة والإنشاء) ومخصصات الاقتصاد والتجارة الخارجية، لم تتجاوز 89 مليار ليرة، أي ما نسبته 2,2% من إجمالي الموازنة، فعن أي «إنفاق عام نوعي» تحدثت الحكومة في بيانها الوزاري؟
ثانياً: «متابعة العمل الدؤوب لتأمين استقرار سعر الصرف وأسعار السلع، وتحسين إدارة السيولة النقدية، والحفاظ على استقرار القطاع المصرفي، وإدارة موجودات القطع الأجنبي بكفاءة عالية على النحو الذي يضمن الحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة وإنفاقها على الأعباء ذات الأولوية».
في هذه النقطة تكفي الإشارة إلى حالة التوقف الاقتصادي التي تسود السوق السورية اليوم، والتخبط الذي لم يفلح في الهروب منه سوى المتاجرين والمضاربين بالليرة السورية لحساب حيتان الفساد الكبير في البلاد، والإشارة إلى أن خسارة الليرة السورية خلال أقل من عامٍ واحد هي أكثر مما خسرته العملة الوطنية خلال ثماني سنوات من الحرب، وأن موادنا الأساسية المستوردة لا تزال بيد حفنة قليلة من التجار المتمولين من البنك المركزي، والذين يجنون أرباحاً هائلة من فرق سعر الصرف بين المركزي والسوق السوداء في مقابل الضيق والنكبات والحرمان الذي يتراكم على الضفة الأخرى من المجتمع، ضفة الأكثرية من الشعب السوري.
أما «البرنامج الوطني التنموي لسورية ما بعد الحرب»، فميزته الأساسية أنه يكاد لا يتكلم بحرف عن الآليات التي تقوم من خلالها الحكومة بإدارة الأزمة، لكنه يستفيض في الحديث عن «مرحلة» مفترضة «ما بعد الأزمة». أما ما نعيشه اليوم فهو– حسب البرنامج- «مرحلة الإغاثة والاستجابة للاحتياجات الأساسية وتوفيرها عن طريق نشاطات مدروسة جيداً... وتقدير الخسائر والأضرار للحد من آثارها، وجمع المعلومات لوضع وتعديل السياسات والخطط بحيث تتوافق مع المعطيات الجديدة على الأرض». بكلمة أخرى، يقول البرنامج إن الحكومة «تفكر» بمرحلة ما بعد الأزمة، أما من الآن وحتى انتهائها فـ«الله يفرّج».

احتمالان لا ثالث لهما

ما يهمُّ في كل ما سبق هو التأكيد على أنه ليست لدى الحكومة خطة عملٍ جدية، وما لديها حتى الآن لا يتعدى كونه إما عبارات ضخمة لا تدلُّ على شيء، وإما تعهدات واضحة ما لبثت أن أثبتت الأيام عدم التزام الحكومة بها. وهنا نأتي إلى الأهم: إن لم يكن لدى الحكومة خطة عمل، فمن لديه؟
الإجابة البسيطة عن هذا التساؤل قد تفضي إلى أن السوق يحرّك نفسه بنفسه عفوياً على الأقل، لكن لنمعن النظر في انعكاسات ذلك على الأرض في سورية: ثمة نخبة تمسك في يديها أدوات القرار السوري، هذه النخبة آخذة بالإثراء الفاحش بكل ما يخلّفه ذلك من توقفٍ اقتصادي وتخلفٍ في الإنتاج وتركٍ لقطاعات واسعة من المجتمع نهباً للحاجة والتهميش. كل ذلك يفتح الباب أمام احتمال الفوضى الذي لطالما عوّل عليه الغرب، والفوضى بالمناسبة هي «خطة عمل» من نوعٍ خاص، قد تكون أدواتها محلية، وقد تكون لدى هذه الأدوات قناعة كاملة بأنها تطبق «خطتها» هي بالذات.
إن الحلول للوضع الاقتصادي المتردي الذي نعيشه اليوم ليست خيالية، وعلى صفحات هذه الجريدة كُتبَ الكثير عن الإجراءات التي من شأنها أن تعيد بعض التعافي للاقتصاد السوري (استبعاد الدولار والتبادل بعملات أخرى، حماية العملة الوطنية والإنتاج الحقيقي... إلخ)، إلا أن تبني هذه الحلول دونه مصلحة القلة القليلة المستفيدة من الوضع الحالي، وهو الوضع المنفتح على احتمالين: إما الفوضى وإما التغيير.

 

 

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
949
آخر تعديل على الإثنين, 20 كانون2/يناير 2020 12:38