الجديد المقبل وإمكاناته
سبق لنا أن تطرّقنا إلى أهمّ السمات التي تعبِّر عن موت الفضاء السياسي القديم وتعبيراته المختلفة حول العالم. في هذا العدد، سنحاول التركيز على الموضوع ذاته بناءً على قراءة الوضع في الساحتين العراقية واللبنانية اللتين تشهدان تسارعاً ملحوظاً في الأزمة التي تعيشها الدولتان من جهة، وكذلك في الفرصة التاريخية المتاحة أمام الناس لالتقاط زمام المبادرة.
رغم بعض التباينات الجدية بين الحالتين، إلّا أن أهم تقاطع مشترك بين الوضع في العراق ولبنان هو أن الأنظمة الممسكة بزمام الحكم فيهما إنما هي أنظمة تحاصص ونهب طبقي ارتدت منذ عقود لبوس «التوافق الطائفي»، وهي تعيش اليوم ظرفاً ثورياً جديداً يتَّسم بأن «من هم فوق لا يستطيعون الحكم بالوسائل السابقة»، و«من هم تحت لا يستطيعون تحمُّل العيش بالطريقة السابقة»، بالتوازي مع درجة نشاط سياسي عالٍ للناس الذين دفعتهم مستويات النهب المجحفة إلى حالة عميقة من عدم الرضا الاجتماعي.
التحزُّب والانفكاك عن البنى السابقة
بنظرة إلى العراق ولبنان، نجد أنَّ مؤشرات كثيرة تؤكد أن «من هم فوق» قد استنفدوا تلك الوسائل التي اعتادوا على استخدامها في حالات الاعتراض الشعبي، فلا دفع المحتجين إلى التجييش والاقتتال الطائفي، ولا محاولات الالتفاف على الشعارات والأهداف التي بدأت تتبلور، يُجديان نفعاً في تجنيب «من هم فوق» تبعات الأزمة التي أنتجتها سياساتهم في المقام الأول.
وبناءً على ذلك، نشهد في الدولتين حالة من الانفكاك التدريجي والمتسارع لشريحة واسعة من الناس عن انتماءاتها التقليدية السابقة، تلك الانتماءات التي بدت حتى الأمس القريب عصية عن التفكك بحكم الانقسامات العمودية التي رسختها أنظمة التحاصص. بل وهنالك مسألة لا بدَّ من نقاشها في هذا الصدد، وهي أنَّ المحتجين (ويُلاحظ ذلك في العراق بشكلٍ أكبر) يرفعون بين الحين والآخر شعارات تعارض الأحزاب، ويصل بعضهم إلى حدود رفض التحزب بوجهٍ عام، وهي مسألة أثارت حفيظة البعض ممن يرون أنه لا يمكن إنجاز التغيير الثوري دون حزبٍ ثوري ودون دفع الناس إلى التعبير عن مصالحها من خلال تمثيلاتٍ سياسية. هنا لا بد من الإشارة إلى أن نزول الناس عفوياً إلى الشوارع له هدف واحد فعلياً، وهو التعبير عن عدم الرضا، وفي سياق التعبير عن عدم الرضا هذا من السهل جداً للحركة الشعبية أن تتبنى شعارات قد لا تتوافق بالضرورة مع مصلحتها في العمق، بمعنى آخر، لا بد من فهم مثل هذه الشعارات في إطار تعبير الناس عن رغبتها بالانفكاك عن البنى القديمة القائمة، وهو التعبير الذي قد لا يكون موفقاً تماماً ومصاغاً بطريقة صحيحة من المرة الأولى. وبالمناسبة، فإن هذه المسألة برمتها تحسمها الحياة والتجربة نفسها، فالناس «نازلين يحلوا مشكلة»، ويتفاعلون مع كل طرح من شأنه أن يحلها، وفي سبيل هذا الحل يلمسون شيئاً فشيئاً ضرورة التنظيم.
الانتقال إلى الفعل السياسي
خلال الموجة الثانية من الحراك الشعبي في العراق ولبنان، بدا لافتاً انتقال الأهداف المرفوعة من الشعارات العامة الفضفاضة إلى شعارات أكثر تحديداً وتفصيلاً: في لبنان، بدأ الحديث يتجه جدياً نحو حكم المصرف والارتهان للبنوك ووصفات «التقشف» التابعة للبنك الدولي، وصولاً إلى المطالبة باستعادة الأموال المنهوبة وتشكيل حكومة انتقالية إنقاذية ذات صلاحيات استثنائية... وفي العراق، وبالرغم من القمع الدموي الذي تعرضت له الحركة الشعبية، تتبلور المطالب الشعبية بالتغيير الجذري والشامل لمنظومة التحاصص والنهب، ويرفض المحتجون الإجراءات الترقيعية التي تجريها السلطة محاولةً حشر مطالب المحتجين في الإطار الضيق لمفهوم «الإصلاح» الذي عفا عليه الزمن بالنسبة لمنظومة حكم مترهلة غير قادرة على حلِّ أبسط المسائل التي تتعلق بأوضاع الناس.
وفي هذا السياق، من الجدير ملاحظة تلك الأشكال من التجمع السياسي التي يقوم المواطنون بخلقها في ساحات الاحتجاج، والتي يبرز منها نوعان: الأول، هي التجمعات في المناطق المحلية والنقاشات السياسية فيما بين المحتجين حول حركتهم وواقع الأنظمة التي يعيشون تحت حكمها، والبحث عن الطرق والأدوات الأجدى لإيجاد مخرج من الواقع المتردي الذي يعيشونه. والثاني، هي بداية خلق نواتات تنظيمية شعبية في الأحياء، وهو ما يمكن ملاحظته بشكلٍ خاص في عددٍ من مناطق العراق التي لم تعد السلطات المحلية فيها قادرة على تأمين مستلزمات الحياة اليومية للناس. وهذه الأشكال الجديدة لتجمُّع الناس الموجودة اليوم وغيرها مما يمكن أن ينشأ لاحقاً مرشحة بقوة للعب دور فاعل في الحياة السياسية في ظل عجز المنظومات الحاكمة.
الأزمة ترفع مستوى المسؤولية
وصل العجز بالنسبة لمنظومات الحكم في لبنان والعراق إلى حدّ باتت معه هذه الأنظمة غير قادرة على تشكيل حكومة قادرة على أن تقنع الحراك الشعبي في البلدين ولو على مضض. بل إن مجرد التفكير في ذلك يدفع أقطاب هذه الأنظمة إلى حالة من المواجهة الداخلية فيما بينهم، والتي يحاول الجميع تجنبها حتى الآن. وقد يبدو الاستعصاء هذا مُفرحاً لمن فقد أية قناعة لديه بقدرة هذه الأنظمة على التغيير، ولكن الجانب الأصعب من هذه الحقيقة، هو أن درجة الاستعصاء تفرض أسئلة جديّة على القوى الطليعية الحاضرة في الحراكين، وهي أسئلة تتعلق بمدى جاهزية هذه القوى لالتقاط المبادرة السياسية، بما يعنيه ذلك من ضرورة تسريع انتقال الحركة الشعبية من مرحلة ردة الفعل على سياسات السلطة إلى مرحلة الفعل، وهو ما يقتضي جملة من الإجراءات التي لا تقف عند حدود طرح البرنامج السياسي التغييري فحسب، بل وكذلك في حشد طاقات كل القوى ذات المصلحة بالتغيير لتعبئة الناس حول مصالحهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 944