مصارف من أجل الناس؟ أمثلة تاريخية عن التعاطي السياسي مع المصارف
بمقدار سيطرة دولة ما على مصارفها، ستمتلك تأثيراً عميقاً في رسم مستقبلها. فيما يلي تقدم «قاسيون» إعداداً لبعض المقالات البحثية التي نشرها المؤرخ والبروفيسور في العلوم السياسية بجامعتي «باريس8» و«لييج»، والناطق الرسمي باسم الشبكة الدولية من أجل إلغاء الديون غير الشرعية، إريك توسان، والتي تطرَّق فيها إلى الآليات السياسية للتعاطي مع المصارف في ضوء بعض التجارب التاريخية في هذا الصدد.
كانت كومونة باريس على خطأ حين تجنبت مصرف فرنسا. كانت احتياطاته الرئيسة وهيئته الحاكمة داخل مساحة كومونة باريس، وكان من الضروري جداً الإمساك بزمام الأمور. وبعدم القيام بذلك، ارتكبت قيادة كومونة باريس خطأ فادحاً (1).
في عام 1876، وفي كتابه «تاريخ كومونة باريس لعام 1871»، ندّد الناشط المفكر الذي اشترك في النضال أيام الكومونة، بروسبير أوليفيير ليزاغاراي، بموقف القيادة: «مجلس الكومونة ركع أمام التمويل البرجوازي، الذي كان تحت رحمته»، في إشارة منه إلى مصرف فرنسا، وتابع: «كلّ المناضلين الجادين شرعوا بضرب عصب الخصم– أي الاستيلاء على الخزينة- لكن مجلس الكومونة هو الحكومة الثورية الوحيدة التي رفضت القيام بذلك» (2).
وكان كل ما طلبته الكومونة من مصرف فرنسا هو قروض للمحافظة على ميزانية متوازنة، وتسهيل دفع مرتبات الحرس الوطني (الحرس الوطني في باريس كان ميليشيا مدنية مسؤولة عن تنفيذ القانون والدفاع العسكري). «وعلى هذا النحو، تلقت الكومونة 16,7 مليون فرنك خلال أيامها الـ72، منها 9,4 مليون هي الأصول المحفوظة مسبقاً بحسابات المدينة، و7,3 مليون هي التي أقرضها المصرف فعلاً. بينما سحب مواطنو فرساي 315 مليون فرنك من شبكة فروع مصرف فرنسا البالغ عددها 74، أي أكثر من 20 ضعفاً» (3).
في 1881، وبعد عشر سنوات من سحق كومونة باريس، كرر كارل ماركس آراء ليزاغاراي، وأعرب عن اعتقاده بأن الكومونة أخطأت بعدم استيلائها على مصرف فرنسا: «كان من شأن الاستيلاء على مصرف فرنسا وحده أن يكون كافياً لتذويب كل الذرائع حول شعب فرساي والإرهاب...»، وفيما يتعلق بالاستيلاء على المصرف، كتب: «بقدرٍ قليل من الحس السليم... كان بإمكانهم التوصل إلى حل وسط مع فرساي يكون مفيداً لكتلة كاملة من الشعب، وهو الشيء الوحيد الذي كان من الممكن الوصول إليه في ذلك الوقت» (4).
وفي عام 1891، أضاف فريدريك أنجلس: «أكثر ما يستعصي على الفهم هي الرهبة المقدسة التي وقفت بها الكومونة إجلالاً أمام أبواب مصرف فرنسا. لقد كانت هذه أيضاً غلطة سياسية كبرى. فلو وقع المصرف في أيدي الكومونة لفاق ذلك في أهميته عشرة آلاف من الرهائن، ولأرغم البرجوازية الفرنسية كلها على الضغط على حكومة فرساي لعقد صلح مع الكومونة».
وخلاصة القول، إنّ كومونة باريس 1871 سمحت للمصرف الفرنسي بتمويل أعدائها، أي حكومة ثيرس المحافظة في فرساي والجيش التابع لها.
الثورة الروسية: تأميم المصارف وإلغاء ديون الفلاحين في 1917
كانت التأميمات المصرفية إحدى الخطوات الأولى التي اتخذتها الحكومة السوفيتية بعد ثورة أكتوبر 1917. وقد مهّد هذا الإجراء الطريق لإلغاء القروض المصرفية للمزارعين، فضلاً عن انعكاسات إيجابية أخرى. وكان الرأسماليون الأجانب– ومعظمهم من الفرنسيين والألمان- يحوزون على ثلث رأس مال المصارف. صودرت على الفور سبعة مصارف رئيسة. وألغيت جميع الأسهم المصرفية (5). وتم تأميم المصارف الخاصة، في حين أن الديون الأجنبية التي تم اعتبارها مؤذية وغير شرعية جرى التنصل منها.
وقد أدى نزع ملكية المصارف ونبذ الديون في آنٍ واحد، إلى تعزيز القوة الثورية الناشئة.
1933: روزفلت يكبح المصارف الأمريكية بحزم
في آذار العام 1933، اندلعت أزمة مصرفية كبرى في الولايات المتحدة في أعقاب حادث انهيار وول ستريت في تشرين الأول 1929. وقام الرئيس المنتخب حديثاً، فرانكلين روزفلت، بإغلاق المصارف لمدة أسبوع كامل (6). وفي العام نفسه، تجاوز روزفلت التشريع المصرفي المعروف باسم «قانون الزجاج» الذي فصل الحسابات المصرفية عن الأنشطة المصرفية الاستثمارية.
وهكذا، سحبت حكومة فرانكلين روزفلت من المجموعات المالية والمصرفية الحرية المطلقة التي كانت تتمتع بها. وعبر هذا القرار، وتحت ضغط التعبئة الشعبية في أوروبا خلال وبعد التحرير، وضعت حكومات القارة العجوز قيوداً صارمة على الأنشطة الرأسمالية. ونتيجة لذلك، كانت هنالك أزمات مصرفية قليلة جداً على مدار السنوات الثلاثين التي تلت الحرب العالمية الثانية. وقد أشار اثنان من الاقتصاديين الليبراليين في أمريكا الشمالية، كارمن م. راينهارت وكينث س. روجوف، إلى ذلك في كتابهم المعنون «هذه المرة الأمر مختلف»، حيث اعترفا بأن العدد المنخفض للأزمات المصرفية يمكن تفسيره أساساً: «بقمع الأسواق المالية المحلية بدرجات متفاوتة، والاستخدام الكثيف لضوابط رأس المال الذي استمر لسنواتٍ عدة بعد الحرب العالمية الثانية».
وفي الواقع، وخلال الفترة نفسها، نّفذت غالبية حكومات الدول الصناعية سياسات لتنظيم تدفقات رؤوس الأموال الواردة والصادرة على حد سواء، كما أجبرت المصارف على التصرف بحكمة، وأممت القطاع المالي جزئياً.
تأميم مصرف فرنسا ومصارف مهمة أخرى بعد التحرير
في فرنسا، يجب أن ينظر إلى التأميم المصرفي في أعقاب الحرب العالمية الثانية «على أنه حركة شعبية في سياق المقاومة، وأدى التحرير إلى إنشاء لجان عمالية في بعض الشركات». يذكرنا الباحث باتريك سورين بأنه في 2 كانون الأول 1945، تم تأميم مصرف فرنسا وأربعة مصارف تجارية. وفي العام التالي، جاء الدور على عددٍ من شركات التأمين التي تم تأميمها.
بفضل هذه السياسة، كانت فرنسا مكتفية ذاتياً من الناحية المالية لما يقرب من 40 سنة من عدم الاضطرار إلى الاعتماد على حسن نوايا الأسواق المالية التي تهيمن عليها المصارف الخاصة والمؤسسات المالية الأخرى. وكانت الصعوبات في المصارف نادرة.
كوبا 1959: في السنة الأولى للثورة، غيفارا رئيساً للمصرف الوطني
أظهر تعيين أحد القادة الثوريين الرئيسين كرئيس للمصرف المركزي بوضوح مدى أهمية السيطرة على السياسة النقدية والمالية للبلاد حتى يتمكن الشعب الكوبي من الانتصار على نظام باتيستا الديكتاتوري.
لم يرغب الثوار الكوبيون في تكرار خطأ كومونة باريس. حيث ساعدت السيطرة على المصرف على إنجاز مجموعة من الإصلاحات الاشتراكية الجدية التي دعمتها التعبئة الشعبية القوية والتي شكلت بالتأكيد امتداداً للثورة الكوبية.
فرنسا 1982: تأميم المصارف
كانت خطة التأميم جزءاً من «البرنامج المشترك» الذي وقعه الحزب الاشتراكي (PS) والحزب الشيوعي وحركة اليسار الراديكالية في 27 حزيران 1972. وقد ظهرت في قائمة «المقترحات الـ110» للمرشح الرئاسي ميتران في 1980-1981.
في فترة ولايته الأولى التي بلغت مدتها سبع سنوات، أقر فرانسوا ميتران قانون التأميم (في 13 شباط/ 1982) بدعم من حكومة موروي. وقد تم تأميم 39 مصرفاً وعدداً من الشركات الصناعية والمالية. وسرعان ما اتخذ ميتران وحكومته منعطفاً بعد هذه الموجة من التأميمات، حيث أدخل القانون المصرفي المؤرَّخ في 24 كانون الثاني 1984 نظاماً مصرفياً جديداً مبنياً على نموذج «المصرف العالمي»، وأغلقت الحكومة الفجوة بين المصارف التجارية والاستثمارية وفتحت الباب أمام إزالة القيود، وألغت التأميم في عام 1986.
أزمة 2008: أوروبا والولايات المتحدة
عندما اندلعت أزمة القطاع المصرفي الخاص في 2007-2008، أممت العديد من الدول المصارف الخاصة الكبيرة بدءاً من 2008. وقد تم ذلك لتجنب الإخفاقات ومساعدة كبار المساهمين. وشملت القائمة المصارف الرئيسة التي تأميمها: Royal Bank of Scotland (GB)، Hypo Real Estate (ألمانيا)، ABN-Amro في هولندا، Fortis و Dexiaفي بلجيكا، Bankia في إسبانيا، Banco Espirito Santo في البرتغال... إلخ.
ولم توجه الحكومات بأية حال من الأحوال أنشطة الكيانات التي تم تأميمها نحو تلبية احتياجات السكان. وفي كثير من الأحيان، لم تشارك السلطات الحكومية حتى في توجيه هذه المؤسسات، تاركة الإدارة للممثلين الخاصين. ولم يتحول أي من هذه المصارف إلى أدوات لتمويل الاستثمارات الحكومية. ودفعت تكاليف التأميم من المالية العامة، مما زاد من الدَّين العام.
ثم أعادت الحكومات التي تخدم رأس المال بعد ذلك خصخصة هذه المصارف جاذبة القطاع الخاص مرة أخرى. وقد دأبت منظمات ثورية عديدة على الدعوة إلى نهج مختلف تماماً لمواجهة الأزمة المصرفية: رُفض إنقاذ المصرفيّين المسؤولين عن الأزمة، وتأميم المصارف ونقلها للقطاع العام تحت سلطة المواطنين، دون تعويض للمساهمين الرئيسين.
اليونان 2015
بمجرد وصول حكومة تسيبراس إلى السلطة، كان ينبغي أن تسيطر الحكومة فورياً على القطاع المصرفي. لكن عمل الترويكا حظي بما حظي من انتقادات شديدة للإخفاقات المتراكمة منذ 2014، ودفع قرار المصرف المركزي في 4 شباط 2015 إلى تفاقم الأزمة المصرفية والمالية. وكان من الضروري معالجة الحالة من خلال تنفيذ برنامج ثيسالونيكي الذي انتخب حزب سيريزا في 25 كانون الثاني 2015 على أساسه، حيث كان البرنامج قد أعلن عما يلي: «بوجود سيريزا، سيستعيد القطاع العام سيطرته على صندوق الاستقرار المالي اليوناني (هو أداة يونانية خاصة الغرض تم إنشاؤها للمساعدة في استقرار القطاع المصرفي في خضمّ أزمة الديون الحكومية)، وسيكون له حقوق على المصارف التي تعيد رسملة الأموال. وهذا يعني أن القطاع العام سيقرر كيفيه إدارة المصارف». وتجدر الإشارة إلى أن الدولة اليونانية في 2015، كانت بموجب صندوق الاستقرار المالي اليوناني، المساهم الرئيس في المصارف الأربعة الرئيسة في البلاد، والتي تشمل أكثر من 85% من إجمالي القطاع المصرفي اليوناني. والمشكلة هي أنه على الرغم من إعادة رسملة الدولة للعديد من المصارف، اليونانية منذ تشرين الأول 2008، فإن الدولة لم تستطع أن تجاري وزن قرارات المصارف لأن ما يسمى بأسهمها التفضيلية لم تكن لها حقوق التصويت. ولم تتخذ الحكومات السابقة أي قرار بهذا الشأن. ولذلك، ووفقاً لوعود سيريزا، كان ينبغي على البرلمان أن يحول الأسهم التفضيلية التي تحتفظ بها السلطات العامة إلى أسهم عادية مع حقوق التصويت. ثم كان بإمكان الدولة أن تضطلع بمسؤولياتها، وأن تحلَّ الأزمة المصرفية بطريقة عادية وقانونية تماماً.
وكان ينبغي أن تتخذ الحكومة ثلاث خطوات هامة. أولاً، إجراء ضوابط على تدفقات رأس المال، ومنع رؤوس الأموال من الفرار. ثانياً، كان من الضروري استبدال ستوناريراس كحاكم لمصرف اليونان. ثالثاً، إنجاز نظام دفع مواز. لكن تسيبراس وفاروفاكليس لم يمسا المصارف ولم يوقفا دفع الديون. وقد أضر هذا القرار كثيراً بالشعب اليوناني، حيث ضاعت فرصة تاريخية لا تنبغي إضاعتها مرة أخرى.
تحرير الناس من قبضة الأسواق المالية
إنَّ دفع المصارف لتكون «مصارف من أجل الناس» يعني:
أولاً: المصادرة دون تعويض (أو تعويض بقطعة نقدية واحدة رمزياً) بالنسبة لكبار المساهمين، أما صغار المساهمين فسيتم تعويضهم كلياً.
ثانياً: منح احتكار الأنشطة المصرفية للقطاع العام حصراً، باستثناء واحد: وجود قطاع مصرفي تعاوني صغير (رهناً بنفس القواعد الأساسية التي يخضع لها القطاع العام).
ثالثاً: القيام، بمشاركة كاملة من المواطنين، بتحديد ميثاق يشمل الأهداف التي يتعين تحقيقها والمهمات التي ستنفذ، والتي تضع المدَّخرات العامة والائتمانات وكيانات الاستثمار في خدمة الأولويات التي تحددها عملية التخطيط الديمقراطي.
رابعاً: الشفافية في البيانات المالية، والتي يجب أن تظهر للجمهور في شكلٍ مفهوم.
هوامش
(1) فترة من التمرد في تاريخ باريس، دامت لأكثر من شهرين، من 18 آذار 1871، حتى «الأسبوع الدامي» بين 21-28 أيار 1871. رفض الشعب في باريس استسلام البرجوازية الفرنسية للجيش الألماني الذي وصل إلى فرساي، وأعلن المواطنون عن قيام كومونة باريس بدعمٍ من الحرس الوطني. ونفذت سياسات اشتراكية جذرية بناءً على رغبة الجماهير بشكل خاص. إنها واحدة من أوائل الثورات البروليتارية في التاريخ.
(2) راجع كتاب «تاريخ كومونة باريس لعام 1871، بروسبير- أوليفيير ليزاغاراي، الصفحة 464، نسخة 2012، الطبعة الأولى 1896. الاقتباس يعود إلى الفصل الرابع عشر، ترجمة إليانور ماركس.
(3) راجع «الكومونة ومصرف فرنسا» (باللغة الفرنسية)، جورج بيسون، جمعية أصدقاء وصديقات كومونة باريس 1871.
(4) رسالة كارل ماركس إلى دوميلا نيوفنهويس، 22/2/1881.
(5) راجع إدوارد كار، «الثورة البلشفية»، المجلد الثاني، فصل «النظام الاقتصادي»، الناشر «Editions de Minuit»، باريس، 1974، الفصل 16، الصفحة 146.
(6) «مسار رأس المال»، إسحاق جوشوا، باريس، 2006، ص19، (باللغة الفرنسية).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 939