فك شيفرتي «المنطقة الآمنة» و«اتفاق أضنة»
تحمل اللغة الدبلوماسية في معظم الأحيان، شيفرات خاصة يسمح فكها بفهم المعاني الحقيقية للتصريحات السياسية، والتي قد تحمل معاني تختلف عمّا تبدو عليه من حيث الظاهر. وإذا كانت الأمثلة في هذا المجال، وضمن الأزمة السورية خاصة، أمثلة كثيرة، فإنّ من بين أبرزها، وربما أكثرها أهمية في اللحظة الراهنة، تعبيرا «المنطقة الآمنة»، و«اتفاق أضنة»
أثار دهشة واستغراب الكثيرين، تصريح الرئيس الروسي يوم السابع والعشرين من الشهر الماضي، والذي قال فيه «ننطلق من أنّ إنشاء المنطقة الآمنة على الحدود الجنوبية لتركيا سيمثل ظرفاً إيجابياً من أجل ضمان الحفاظ على وحدة أراضي سورية نفسها، وبهذا المعنى نؤيد كل الإجراءات الرامية إلى خفض التصعيد في هذه المنطقة»، وهو الموقف الذي أعاد التأكيد عليه بصيغ أخرى خلال قمة أنقرة الأخيرة. وأكثر من ذلك، فإنّ الرئيس الإيراني في القمة نفسها، وإنْ لم يذكر صراحة تعبير «المنطقة الآمنة»، إلا أنّه عبر صراحة عن «حق تركيا في الدفاع عن أمنها القومي ضد الانفصاليين» وعن ضرورة «خروج الولايات المتحدة من سورية».
أول ما ينبغي الانتباه إليه في هذه المسألة، أنّ إشارة بوتين إلى «الحدود الجنوبية لتركيا» بالتوازي مع التصريحات المتكررة له وللرئيس الإيراني أنّ أي وجود أجنبي في سورية ينبغي أن يتم بموافقة الحكومة السورية، يعني بالضبط أنّ ما يتم الحديث عنه في إطار أستانا تحت مسمى «المنطقة الآمنة»، يختلف كل الاختلاف عما يجري تداوله إعلامياً على أنه اتفاق بين الأمريكي والتركي...
شيفرة «المنطقة الآمنة»
لوضع الأمور في سياقها، لا بد أيضاً من التذكير بتصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني ضمن قمة أنقرة، والذي قال فيه إن الرؤساء الثلاثة يُقّيمون نوايا واشنطن في سورية على أنها «نوايا خبيثة»، وليس ممكناً على هذا المستوى أن يقول رئيس على لسان آخر شيئاً ليس موضع اتفاق؛ أي إنّ التوافق الضمني بين الثلاثي يصب في خانة إخراج الأمريكي من سورية، وليس «التكاذب» الأمريكي التركي حول المنطقة الآمنة، سوى تعبير مكثف عن هذه الغاية، والتي يقف في صددها كل من الروسي والإيراني داعماً للتركي في وجه الأمريكي، ليس في إطار تحقيق صيغ من تلك التي يجري الحديث عنها إعلامياً، طولاً وعرضاً وعمقاً، بل بالضبط في إطار الدفع المشترك لإخراج الأمريكي من سورية... بكلام آخر، فإنّ ما يظهر كدعم روسي وإيراني للموقف التركي في مسألة «منطقة آمنة»، هو في الجوهر، عملٌ المقصود منه زيادة هامش مناورة التركي مع الأمريكي، وبالتوافق مع الروسي والإيراني بغية رفع درجة الضغط على الأمريكي باتجاه إخراجه.
مكمن الدهشة عند البعض، هو أنّ المتصارعَين الأساسييَن؛ روسيا والولايات المتحدة، قد «اتفقا» شكلياً في الحديث إيجاباً عن «منطقة آمنة». أبسط التفسيرات و«أسخفها»، هي تلك التي تتحدث عن التحاصص وتوزيع النفوذ. وهي تفسيرات سخيفة لأنها تغض الطرف عن أهم حقيقة في إطار الصراع الدولي الدائر؛ استمرار حالة عدم الاستقرار في سورية، تصبّ في مصلحة الغرب والغرب وحده، وتصب ضد مصلحة سورية وروسيا وإيران وتركيا والصين من خلفهم، إذ تُبقي حالة الاستنزاف والتوتر قائمة في المنطقة كلِّها، ناهيك عن كونها تضع حجر عثرة كبيراً في وجه استكمال مشروع الحزام والطريق الذي تشكل سورية جزءاً هاماً منه، وهذا المشروع هو الأساس، أو البنية التحتية للعالم الجديد، الذي سيبنى على أساس التوازن الدولي الجديد، وإحدى سماته الأساسية إنهاء التبادل اللامتكافئ وإنهاء حقبة الهيمنة الغربية.
بهذا المعنى، فإنّ فهم المقصود من استخدام تعبير «المنطقة الآمنة» من وجهة نظر ثلاثي أستانا، يخضع لفهم ما يريده كل من المعسكرين، وقبل ذلك، لا بد من تحديد تخوم هذين المعسكرين.
بات من المسلَّم به، حتى لدى صنّاع السياسة الأمريكيين أنفسهم، أنّ العلاقة الروسية التركية الإيرانية قد تخطَّت منذ زمن مرحلة التقاطع المؤقت، وقد دخلت مرحلة اللاعودة باتجاه تحالف متكامل الأركان؛ بكلام آخر، فإنّ خروج تركيا النهائي من معسكر الناتو بات مسألة وقت فقط، الوقت اللازم لفكفكة شبكة الارتباطات العميقة المبنية تاريخياً مع الغرب على الصعد المختلفة، عبر عملية الإحلال التدريجي؛ أي عبر فتح أبواب العلاقات العميقة والروابط الوثيقة مع كل من روسيا والصين وإيران، بديلاً عن العلاقات غير المتكافئة مع الغرب.
فإذا كان استخدام الولايات المتحدة لتعبير المنطقة الآمنة، وكما عبرت قاسيون سابقاً، لا يعدو كونه تكاذباً متبادلاً أمريكياً تركياً، الغرض الأمريكي منه هو تخفيف الضغط التركي الروسي الإيراني عليها، والموجه ضد بقائها في سورية، والداعي إلى رحيلها الفوري، فإنّ التعبير نفسه «المنطقة الآمنة»، بات يستخدم من طرف الثلاثي بوصفه شيفرة تحمل معنى سياسياً واضحاً: على الولايات المتحدة الخروج من سورية.
شيفرة «اتفاق أضنة»
في إطار الفكرة السابقة، «التوافق مع الحكومة السورية»، يمكن أيضاً فهم شيفرة اتفاق أضنة؛ إذ هنا أيضاً ليس الجوهر هو عرض المنطقة وطولها، بل إنّ الجوهر الحقيقي هو الدفع الروسي الإيراني باتجاه الحفاظ على سيادة سورية، وتأطير أية خطوة يقوم بها أي طرف أجنبي في أطر القانون الدولي، أي في الأطر القائمة على التفاهم والتوافق الرسمي.
إنّ جوهر اتفاق أضنة، بغض النظر عن الموقف منه وعن الظروف التاريخية التي جرى ضمنها، وحتى عن تفاصيله الملموسة، ومدى واقعيتها في اللحظة الراهنة، هو أنه اتفاق يندرج ضمن أطر القانون الدولي، أي إنه اتفاق رسمي، وليس تدخلاً بالضد من القانون الدولي، وبالضد من إرادة سورية.
إنّ هذا الجوهر بالذات، هو ما يمكن فهمه من طرح الروس لهذا الاتفاق من فترة إلى أخرى، ضمن حزمة طروحاتهم السياسية بما يخصّ خلَّ المسألة السورية.
بكلام آخر، فإنّ «اتفاق أضنة» بالمعنى الملموس، هو أيضاً شيفرة المقصود منها هو أنَّ أي حل للمسائل المتعلقة بالشمال السوري، الشرقي والغربي، ينبغي أن يخضع للقانون الدولي، بما يحفظ سيادة سورية واستقلالها، والعمل بهذا الاتجاه، باتجاه إرساء قواعد القانون الدولي، من شأنه في نهاية المطاف أن ينتزع الألغام البينية العديدة الموجودة بين دول المنطقة، في إطار عام واحد هو الدفع باتجاه الوصول إلى تسويات عادلة جوهرها إنهاء مشروع الفوضى الخلاقة في المنطقة كخطوة أولى، تليها خطوات عديدة باتجاه تهيئة الأجواء بشكل أفضل أمام استقرار شامل في المنطقة، يسمح بالسير قدماً في تمكين البناء التحتي الاقتصادي للعالم الجديد، البناء الذي يرتكز إلى (الحزام والطريق) والذي يمثل أفقاً تنموياً هائلاً لكل دول المنطقة وشعوبها...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 933